الشموع والأنوار في الكنيسة 

استعملت كنيسة ما قبل نيقية المصابيح والشموع لغرض الإضاءة في الصباح الباكر … ومنذ القرن الرابع الميلادي بدأت تظهر رموز روحيَّة لاستخدام الشمعة. كما استعملت الشموع والمصابيح في صلوات الغروب وخدمات المساء حيث توقد المصابيح ضمن طقس محدد بديع يصاحبه ترتيل يناسب إيقاد النور. 

فالكنيسة هي ملكوت الله على الأرض، وملكوت السموات لا يكون فيه ليل، لأن الله نفسه هو ضياؤه، وهكذا تكون الكنيسة. فالنور في الكنيسة تعبير عن تجلي المسيح فيها، وتعبير عن مجد الكنيسة، وتعبير عن أن الكنيسة بأعضائها هم نور العالم، وأنه يلزم أن يظلوا منيرين كانوار فيه. والله لا يسكن في غير النور لأنه نور ساكن في النور وتسبحه ملائكة النور والمسيح له المجد هو النور الحقيقي، وهو نور من نور. وفي صلوات الكنيسة نقول : “النور ولد من مريم“. وهو قال عن نفسه: «أنا هو نور العالم»، ولأن الكنيسة هي مسكن الله مع الناس، فلزم إذا أن تكون منيرة. 

“فيجب أن تكون الكنيسة مضاءة بأنوار كثيرة مثل السماء، ولاسيما عند قراءة فصول الكتب الإلهيَّة، فمكتوب «كانت مصابيح كثيرة في العليَّة التي كانوا مجتمعين فيها» (اعمال ۷ : ۲۰،۸) والقديس بطرس في رسالته إلى كليمندس يقول: “تقاد الأنوار في الكنيسة بالشموع والقناديل وتكون لامعة جدا “. وفي واحدة من قصص القديس إبيفانيوس (٣١٥ – ٤٠٣م) : “بينما كان سائراً وجد بيتا مضيئاً كالنهار، فلما سأل عن هذا المكان أخبروه أنها كنيسة“. 

وجدير بالملاحظة أن أنوار الكهرباء الحديثة في الكنيسة لا تغني طقسياً عن الشموع والقناديل. ونشير إلى أن شدة الاستضاءة الناتجة عن عدد كبير من الشموع والقناديل الزيتيه لن تساوي شدَّة الاستضاءة الناتجة عن مصباح كهربائي كبير واحد بها، فشدة الاستضاءة لمصباح الكهرباء المتوسط توازي مائة شمعة!. ونور الشمعة الهادئ يعين على الصلاة ويجمع الفكر ويهدئ النفس، أما الضوء الشديد فيبعث أحياناً على التشتت الذهني. 

وفي الكنيسة قنديلان كبيران كانا لا يطفأن أبدا حتى عهد قريب. وهما قنديل الشرقية ويُسمى في اليونانية أكيميتوس أي الذي لا ينام وهو يرمز إلى النجم الذي ظهر في المشرق للمجوس فدلهم على مغارة بيت لحم، حيث يسوع. والثاني هو قنديل الإسكنا أي الخيمة، وكان يُعلق أمام باب الهيكل، ويرمز إلى نور المسيح، ونور الإنجيل الذي يضئ لكل إنسان آت إلى العالم. 

هذان القنديلان لا يطفآن أبدا ليظل بيت الرب مضيئاً على الدوام، ومن ضوء هذين القنديلين تضاء أي شموع أخرى في الكنيسة، وهو ما يذكره البابا الروماني غريغوريوس الكبير (+ ٦٠٤م) في رسالة له يشرح فيها ضرورة إضاءة جرن المعمودية ليلة الفصح بشموع تضاء من قناديل الكنيسة وليس من خارجها. 

على أن حراسة قنديل الشرقيَّة ليظل موقداً دائماً منوط بالشماس المخصص لذلك، لأن دخول الهيكل ليس لكل أحد.

النور والمعمودية 

من المعروف أن المعمودية نفسها تدعى “استنارة“. والمعمدون الجدد يُدعون المستنيرون. ومنذ القرن الرابع الميلادي نقرأ في طقس المعمودية عن تقديس الماء بشمعة الفصح، إذ تستحضر شمعة الفصح الكبيرة وثغرس من أسفلها في الماء علامة على حضور الروح القدس. ويُعطى لكل معتمد بعد عمادة شمعة مضاءة من شمعة الفصح تعبيرا عن تلك الاستنارة التي حصل عليها بالعماد. 

وبانتهاء المعمودية وحمل الشموع المضاءة يبدأ قداس الفصح مباشرة. وإلى سبعة أيام بعد عيد الفصح يواظب المعمدون على حضور الكنيسة للاشتراك في الإفخارستيا بملابسهم البيضاء، ويدخلون الكنيسة وفي أيديهم الشموع المضاءة. 

وفي رسالة للقديس امبروسيوس (۳۳۹ – ٣٩٧م) كتبها سنة ٣٧٤م إلى عذراء انحرفت يقول لها فيها:

[هل نسيت يوم القيامة المقدَّس الذي فيه قدمت نفسك إلى مذبح الله ؟ وهل نسيت هذا الاحتفال المهيب في الكنيسة بين الأنوار الكثيرة المتلألئة في أيدي المعمدين الجدد، وكنتِ واحدة بين المجندات لملكوت الله وكعروس للملك ؟]. 

علاقة النور بالإفخارستيا 

نقرأ عن طقس استخدام الشموع في صلوات الإفخارستيا في كتابات القديس باولينوس الذي من نولا سنة ٤٠٧م والذي وصف كيف كان يقدّم الشموع بنفسه : “فالمذبح كان بهيا مضيئاً بشموع كثيرة، وكانت تحرق بخور ممزوجة برائحة طيّبة، وكانت الشموع تضاء بالليل والنهار، فكان الليل كأنه نهار ، والنهار يصير بهيا كالسماء”.

ويقول يوحنا الرائي في رؤياه: “رأيت سبع مناير من ذهب… وأمام العرش سبعة مصابيح نار (رؤيا١٢:١، ٥:٤). فالنور المضاء أمام الذبيحة هو أمر الرب، ودلالة على أن الرب كائن دوماً في نور لا يُدنى منه، وتذكير لراغبي الاشتراك فيها على خلع أعمال الظلمة ولبس أسلحة النور والسلوك بلياقة كما في نهار. 

وعند قراءة فصل الإنجيل المقدَّس من على المنجلية في الصلوات الليتورجيَّة، يقف إيبوديا كونان عن يمين ويسار المنجلية يحملان شمعتين إجلالاً للإنجيل المقدَّس. وهي ممارسة تعرفها معظم الكنائس الشرقية. 

فالشمعة التي تتقدم الإنجيل المقدَّس قبل قراءته تشير إلى يوحنا السابق الذي كان هو السراج الموقد المنير، والذي أتى ليشهد للنور الحقيقي يسوع المسيح ربنا. 

وعند قراءة فصل الإنجيل المقدس في الليتورجيا لابد أن يصاحبه شموع موقدة، فكلمة الله هي نور لنا وسراج لأرجلنا. وهو أمر مستقر في الشرق كله منذ القديم كما يذكر القديس جيروم (٣٤٢ – ٤٢٠م):

[في جميع كنائس الشرق عندما يُقرأ الإنجيل تضاء الشموع حتى ولو كان نور الشمس يملأ الكنيسة. فالإضاءة ليست لتبديد الظلمة، وإنما لإعلان الفرح، ولكي يكون النور المنظور إعلاناً وشهادة عن نور الإنجيل غير المنظور … إن الكنيسة تضئ الأنوار وقت قراءة الإنجيل إظهارا لفرحها بالبشارة التي سمعناها من الإنجيل عن يسوع نور العالم]. 

والشموع على الصليب وقت مباركة الشعب به أثناء الخدمة المقدَّسة إشارة إلى أن يسوع الذي سمر على الصليب هو نور العالم. وأنه بالصليب نقلنا من الظلمة إلى نوره العجيب والشمعة مع الصليب اللذان يحملهما الشماس مقابل الكاهن وهو حامل الصينية وعليها الجسد المقدَّس في الاعتراف الأخير تشيران إلى أن الخلاص الذي يعلنه الكاهن قد تم لنا بكلا الصليب والقيامة التي ترمز إليها الشمعة الموقدة إلى جوار الصليب. فنور الشمعة تعبير عن نور القيامة. 

وفي القداس الإلهي القبطي يحمل الشمامسة المحيطون بالمذبح الشموع في أيديهم ثلاث مرات عند كل ممارسة طقسية يجريها الكاهن على عنصري الذبيحة، وذلك عند تقديم الحمل، وعند الرشومات، وعند القسمة إلى نهاية القداس. والشمامسة يحملون الشموع طيلة فترة توزيع الأسرار المقدَّسة، والشماس المرتدي ثياب الخدمة لا يتقدم للتناول دون شمعة يحملها في يده اليسرى. 

وعموما فالشموع الموقدة ترتبط دائما بأي صلوات تُرفع في الكنيسة، وبأي مناسبة بها، وفي كل صلوات أسرارها. 

 الشموع في الجنازات

إيقاد الشموع في الجنازات طقس قديم يعرفه كل الشرق، ونقرأ عنه في تاريخ يوسابيوس عن “حياة قسطنطين الملك” حين يقول: “و أضاعوا شموعاً من شمعدانات من الذهب ووضعوها حول جثمانه”. 

والقديس جيروم يصف مشهد جنازة القديسة بولا سنة ٣٨٦م، بوصف مؤثر للغاية فيقول: 

[وحملت جثتها بيد الأساقفة أنفسهم، ووضعوها في النعش، وأبوا إلا أن يحملوا النعش على أكتفاهم. في حين كان باقي الشعب يحملون الشموع أمام النعش]

والقديس يوحنا ذهبي الفم ( ٣٤٧ – ٤٠٧م) يقول في مسيرة الشموع أمام الراحلين الأتقياء 

[قل لي لماذا نسير بالشموع أمام هؤلاء، أليس لأننا نودعهم كابطال؟]. 

وفي الثلاثة قرون الأولى كان مشيّعو الجنازات يحملون الشموع والمشاعل في أيديهم. 

إيقاد الشموع أمام أيقونات القديسين 

إن أيقونات القديسين في الكنيسة لا تخلو من الشموع الموقدة أمامها حتى في غير وقت الخدمة المقدَّسة في الكنيسة. فما أبدع أن توقد شمعة أمام أيقونة القديس أو الشهيد، وتجلس في هدوء الكنيسة في ناحية وحدك تتأمل سيرته وتطلب صلواته ومعونته، هذه أيضا صلاة.

إيقاد الشموع أمام أيقونة المسيح وأيقونات القديسين تعبير صامت عن تشفع وصلاة وتكريم. فالشمعة الموقدة في بيت الرب الإله أمام الأيقونة المقدسة هي دهن مهراق، ذبيحة شكر متضعة طاهرة، حب منسكب للمسيح له المجد والكنيسة والقديسين مضئ بنور به نعاين النور، نور الله. 

نور الشمعة المنظور تأكيد جديد كل يوم أن نور القدّيسين لازال يضئ بفعل النعمة غير المنظورة، وسيظل يضئ كل حين. فهم بنورهم يشهدون للنور. نور يومض من وجوههم، لكن بأكثر ضياء فيعكس علينا ضياء مجد المسيح. إيقاد الشمعة صلاة، والتطلع إلى الأيقونة رجاء، وتقبيلها إيمان، والكل معاً هو كمال الحب، حب رب البيت وبيت الرب وأهل بيت الله في آن معاً. 

 

وفي رسالة للبطريرك جرمانوس الذي كان على القسطنطينية سنة ٧١٥م يقول لأحد الأساقفة: “ينبغي أن لا يعثر أحد في هذه الشموع المضاءة، والبخور الزكي الذي يُعطى أمام الأيقونات. لأن هذه الطقوس إنما جعلت لتكريمهم. فالنور المنظور يعبر عن عطية النور الإلهي الذي كان فيهم، وحرق البخور الزكي أمامهم يرمز إلى إلهامهم ومعرفتهم الطاهرة الكاملة، وامتلائهم من الروح القدس. 

يقول الأب سيرافيم من روسيا:

[ليت قلبنا يضطرم ، بنار ، وحياتنا تضئ كنور أمام الرب الإله كشمعة موقدة أمام أيقونته المقدسة] 

ومعروف في الطقس الكنسي القديم أنه أثناء إيقاد الشموع أو القناديل كانت ثقال صلوات خاصة في ذلك: ولازالت الكنيسة البيزنطية تعتني بهذه الممارسة، ومن هذه الصلوات القديمة: “لأنك أنت يارب سوف تضئ شمعتي. أيها السيد الرب إلهي، اجعل هكذا ظلمتي نورا“. 

وتستعمل الكنيسة زيت الزيتون النقي وشمع النحل في الإضاءة دون غيرهما، فزيت الزيتون كانت تضاء به السرج في خيمة الاجتماع، ثم في هيكل سليمان بعد ذلك . وهو ما أمر به الرسل القديسون في قوانينهم. 

والزيت يشير إلى عمل الروح القدس والبهجة والفرح. أما شمع النحل فقد اختارته الكنيسة نظرا لنقاوته وبهاء نوره وخلوه من الدهون والشحوم ذات الرائحة غير المستحبَّة. وشمع النحل يجنيه النحل خالصا من النباتات والزهور ذات الرائحة العطرة، وهو من هذه الوجهة يشير إلى الفضائل التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى