أحد التناصير
المعمودية والاستنارة الروحية
مقدمة
الأحد السادس من الصوم الكبير يُلقب بأحد التناصير، لأن الكنيسة الأولى كانت تُقيم عماد الموعوظين الذين آمنوا حديثاً بالمسيح قُبيل عيد القيامة. وكان المُتنصِّر بعد خروجه من جرن المعمودية يحمل شمعة مضيئة في يده تعبيراً عن نور الله (سر الاستنارة الذي حازه بالمعمودية)، ويلبس ثياباً بيضاء إشارة إلى هبة الحياة الجديدة والخلقة الجديدة والطبيعة الجديدة التي نالها بالعماد: «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة» (2 كورنثوس 5:17).
كما كانت الكنيسة في عيد القيامة تقوم بعمل زفة لهؤلاء المتنصرين الجدد، أي تزفهم ضمن زفة عيد القيامة، ابتهاجاً بهم كأناس قاموا مع المسيح لحياة جديدة. وبذلك كان المتنصرون يتبعون موكب الأحياء القائمين مع الرب القائم وينضمون إلى صفوف المؤمنين بالمسيح، والجميع يُرتِّلون أنشودة القيامة مُبتهجين: «استيقظ أيها النائم وقم من الأموات، فيُضيء لك المسيح» (أفسس 5: 14).
لذا كانوا كثيراً ما يرسمون صورة تفتيح عيني المولود الأعمى على الأجران القديمة الخاصة بالمعمودية في الكنائس، على اعتبار أن المُتنصِّر هو كالمولود أعمى الذي أبصر، ولسان حاله بعد المعمودية: «كنت أعمى والآن أبصر» (يوحنا 9: 25).
وكانت فرحة المتنصر بالولادة الجديدة والاستنارة تصوّر حقيقة الخلاص في أجلى صورة، كما تُصوِّر حقيقة الحياة الجديدة نقية خالصة، حيث يكون عمل الروح القدس في الولادة الجديدة دعامة إلهية يرتكز عليها قوة الحياة للمسيح والشهادة له.
إن ربط معجزة تفتيح عيني الأعمى بأحد التناصير فيه حكمة روحية من آباء الكنيسة، لأن المعجزة مثال حي واقعي يشرح سر الاستنارة بالميلاد من فوق في ضوء تعليم المسيح عن المعمودية باعتبارها ولادة ثانية من فوق، وعن كون المسيح نور العالم واهب الاستنارة للنفس المولودة من الله: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمكث في الظلمة، بل يكون له نور الحياة» (يوحنا 8: 12).
فالاستنارة الداخلية هي سمة جديدة مُميّزة للمولودين من الله الذين بالمعمودية، نالوا حياة روحية جديدة متجلية بنور الله وبره، وهذه الحياة فيها انتقال من حالة الخطية وأعمال الظلمة إلى حالة البر الإلهي المُعطى مجاناً من المسيح، شهادة أمينة على صدق الولادة الجديدة بالماء والروح، وبرهان ساطع على فاعلية النور الإلهي في قلب المولود جديداً، واقتدار النعمة في كيانه الإنساني.
موقفان مختلفان
في أحد التناصير، تتلو الكنيسة على مسامع المؤمنين إنجيل المولود أعمى (يوحنا 9). والمولود أعمى يرمز إلى البشرية العمياء عن الله. وهذا الفصل من الإنجيل فيه تصوير صادق يشرح عمل المعمودية ودورها في الاستنارة الداخلية. فالحياة الجسدانية قبل المعمودية لا تتلاءم مع مسيرة الروح، ولا تتواءم مع الحياة الجديدة في المسيح. وهنا نرى في حالة المولود أعمى الذي قبل أن يغتسل في بركة سلوام (التي تشير إلى جرن المعمودية) عن اختيار حر وإدراك واع، أنه قد نال عيناً جديدة وصار مُبصراً وآمن بألوهية السيد المسيح عندما سجد له معترفاً بأنه ابن الله (أي فيه كل صفات وطبيعة الله). وكان هذا السجود ثمرة من ثمرات البصيرة الروحية الجديدة التي اقتناها من الله، كما كانت شهادته أمام الفريسيين ودفاعه عن المسيح دليلاً على أنه صار على درجة عظيمة من الاستنارة القلبية، أي كانت شهادته مُستقاة من بصيرة نيّرة ذات رؤية صافية عن شخص المسيح «أنه من الله» (يوحنا 9: 33).
هذا هو موقف الأعمى البصير الذي انطوى على جرأة وشجاعة، إذ بعدما استنار، لم يرض أن يرجع مرة أخرى للظلمة، بل بسجوده للمسيح يكون قد جسد موقفه النهائي والأخير من المسيح معترفاً بربوبيته.
وهكذا الحال مع كل مُستنير بالإيمان بالمسيح، فقبل المعمودية يكون طريقه إلى الله مُظلماً وغامضاً، ولكن بعد المعمودية يصير الطريق مُنيراً واضحاً جلياً. وحينئذ يكون اعترافه بالمسيح كرب ومُخلِّص قوياً ثابتاً، لا يقبل عنه بديلاً. وبعد أن يقتني بصيرة نافذة ونظرة روحية عميقة يُدرك بهما قيمة إيمانه الجديد وولادته الثانية، يرفض رفضاً باتاً أن يرجع مرة أخرى إلى جهالته الأولى وظلمته الماضية وعماه السابق. وهل يُمكن للإنسان الذي اقتنى قلباً نابضاً بروح الحياة الجديدة المستنيرة بالله أن يتنازل عنه ليرجع إلى موته الأول وعبء الظلمة الثقيل؟!
أما عن موقف الفريسيين، فقد كان موقف عداء ورفض وانغلاق تجاه رسالة المسيح الداعية إلى النور والحياة، فقد أغلقوا قلوبهم وسدّوا آذانهم فبقوا بعيداً عن مجال النور والحياة. وقد عبَّر الرب عن حالهم قائلاً: «ولا تريدون أن تأتوا إلي لتكون لكم حياة» (يوحنا 5: 40). لقد تجاهلوا النور عن قصد وتعمد، فاختاروا الظلمة لأنفسهم وهم لا يدرون، ولم يعلموا أن ببقائهم في الظلام إنما قطعوا الطريق على كل إمكانيات التغيير والتجديد بالنسبة لأنفسهم، مُفضّلين الموت على الحياة: «إن لم تؤمنوا إني أنا هو (واهب الحياة) تموتون في خطاياكم» (يوحنا 8: 24).
ومن الطبيعي أن أي نفس إذا بقيت بعيدة عن المسيح مصدر النور ونبع الحياة، فهي تبقى معزولة عن مجال نور الله وحياته، فتظل في ظلامها بلا تغيير وبلا معرفة لطريق الخلاص، وكأنها مُقيَّدة داخل كهف مُظلم. وحينئذ يستحيل عليها الإفلات من قبضة إبليس رئيس مملكة الظلمة، إذ تتحول ظلمة الخطيئة إلى قوة غالبة ومُسيطرة على حياة هؤلاء الناس رغم ادعائهم بأنهم مُبصرون وليسوا عمياناً. ولذا وبخهم المسيح قائلاً: «لو كنتم عمياناً لما كانت لكم خطيئة، لكن الآن تقولون إننا نبصر فخطيتكم باقية» (يوحنا 9: 41). إن نور الله ذو فاعلية حية لتغيير واقع الإنسان من كونه ابناً للأرض والموت، إلى ابن لله والحياة. فهو نور للعقل والذهن يُضيء طريق الخلاص أمام الإنسان، وينقله إلى آفاق عالم جديد، هو عالم البر والمحبة والقداسة: «شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كولوسي 1: 12-13).
ماذا يحدث في المعمودية؟
جاء السيد المسيح رب المجد ليُؤسس ملكوت الله على الأرض، أي لينقل الإنسان من ملكوت الشيطان إلى ملكوت الله. وهذا هو معنى ملكوت الله. وقد أعلن السيد المسيح أن المدخل لهذا الملكوت هو الولادة من فوق أي من الماء والروح: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يوحنا 3: 5). ذلك، لأن الآثار الناجمة عن المعمودية كولادة ثانية هي أصلاً من صميم وجوهر عمل الروح القدس الفاعل في السر الإلهي، وأقوى هذه الآثار هو اقتناء حياة من فوق غير خاضعة لإيقاع الزمن؛ حياة فيها استنارة، واستنارة قائمة على عمل إلهي داخلي متأصل في القلب كواقع حي يعيشه المتنصر. وهذا الواقع يكون حاملاً خصائص طبيعة جديدة مُؤهلة لدخول ملكوت الله.
والحياة الجديدة المستنيرة بنور الله، معناها اقتناء قوة البصيرة الداخلية التي ترى ما لا يراه الآخرون غير المُستنيرين. والسبب في ذلك أن الروح القدس – روح الاستنارة – يُزوّده بقدرة عجيبة على رؤية ما وراء المنظور بالإيمان، ويهبه رؤية واضحة صحيحة عن العلاقة مع الله؛ فيصير ذا فطنة وبصيرة نيّرة. وبهذه البصيرة النيّرة، يتكشف أمامه معنى مضمون عمل المسيح وجوهر الخلاص، ويبدأ المتنصر يرى علاقته الجديدة بالله من منظور جديد، فيرى أنه صار مُتمتعاً بامتياز البنوة لله، وقد صار الآن من الأبناء الأحباء، ولم يعد بعدُ عبداً: «لست بعد عبداً بل ابناً» (غلاطية 4: 7).
المُتنصِّر ينال طبيعة جديدة تستوعب مضمون الفداء، وما عمله المسيح بموته وقيامته وصعوده، وتتكون لديه رؤية صافية تكشف عمق وأصالة الإيمان المسيحي. وهذا هو معنى البصيرة النيّرة الجديدة التي يستكشف بها سُبل الحياة الجديدة. ومنها تنشأ نظرة جديدة لحقيقة شخص المسيح مُغايرة للنظرة القديمة، ويبدأ يرى خلاص الله بعين الله. أو بعبارة أخرى يحدث عنده انفتاح للوعي الروحي على حقائق الخلاص، أي يقتني الذهن الروحي الواعي والمُدرك لسر خلاصه الأبدي. بهذا الانفتاح يتولد عنده معرفة روحانية جديدة كل الجدة، فيتعرَّف على أصول ومنابع الروح، ويستكشف أبعاد الحياة الروحية. وعندها يبدأ يُدرك أن يوجد مجال روحي جديد وراء الحياة الجسدية اليومية، كما تتولد لديه رؤية جديدة للتواصل مع الله دون انقطاع عن المسيح كمصدر للحياة: «أنتم تؤمنون بالله فأمنوا بي …أنا هو الحياة» (يوحنا 14: 1و6).
ولو فحصنا سرّ القوة التي صاغت حياة المتنصرين من جديد لوجدنا السر يكمن في عمل الروح القدس – الروح العامل في المعمودية للولادة الجديدة والخلقة الجديدة. فهو الذي ينزع الغمامة عن عين النفس ويلدها من جديد، لتتقبل سر الحياة المُستنيرة.
وبعيداً عن الروح العامل للولادة والاستنارة، تصير أفكار الإنسان عن الله مُجرَّد أفكار عقلانية وفلسفات بشرية خاضعة لمعيار العقل ومنطق الناس القاصر عن بلوغ الحق، والعاجز عن تغيير حياة الإنسان وخلاصه من طبيعته العتيقة لأن: «المولود من الجسد جسد هو» (يوحنا 3: 6). والإنسان الجسداني لا يمكن أن يتقبَّل الأمور الروحية والحقائق الخاصة بملكوت الله، بل كل تفكيره يكون جسدانياً محصوراً في دائرة الجسديات والأرضيات. وبهذا الانحصار الأرضي يكون كل أمله في مرضاة الله ونوال غفرانه وخلاصه هو بلا جدوى، كمن يسعى وراء روحانية مزعومة، ويمشي وراء سراب، فيظل حبيس الأوهام والتصورات الزائفة عن الله.
أما بالمعمودية فإن روح الله يجعل نور الله يُشرق على روح المُتنصِّر ويُحقِّق فاعلية عظيمة، فيستطيع أن يقتني حياة روحية أصيلة، وتلتهب نفسه بعشق الأمور الفوقانية، ويصير القلب مغموراً بنور الأمل وضياء الرجاء، فيتحرر من عبودية هذا العالم وشروره، وينتقل إلى مجال حياة أفضل مملوءة من بر الله ونوره.
ومن هنا يكون رفض المعتمد القاطع لجميع أعمال الظلمة هو أعظم برهان على مدى روعة عمل النور الإلهي في القلب، وعظمة فاعلية روح الله الذي يُعبِّئ الإرادة باستمرار ويشحن العزيمة بقوة جديدة للسير في طريق الله، طريق النور، دون تكلف أو افتعال. وبذلك تكون الحياة الجديدة التي نالها المُتنصِّر واقعاً حياً يعيشه، له فعله وتأثيره في صميم سلوكه الإنساني. وهذا الواقع يتحقق على صورة تغيير جذري للحياة، حيث يكون القلب عامراً بحرارة الإيمان المستنير بالله، وتكون الكفة الراجحة عنده هي كفة الملكوت وخيراته وليس كفة العالم وشهواته، خصوصاً بعدما وضح طريق الحق أمامه واستبان.
وعموماً، الوعي بقيمة خلاص المسيح ونوره وبره ومعرفة الطريق لاقتنائه، هو أعلى صورة من صور المعرفة. وما عدا ذلك من معرفة، فهو قشور سطحيَّة لا تجدي نفعاً بخصوص المصير الأبدي للإنسان. وهكذا تظل رسالة المسيح للبشرية لاقتناء نور الله وخلاصه، دعوة مفتوحة لا تزال قائمة أمام كل إنسان ليُقرر مصيره عن رضا واختيار؛ فهي الرسالة الوحيدة التي تنير أمامه سبيل الحياة حاملة دعوة مخلصة للإيمان به: «ما دمت في العالم، فأنا هو نور العالم… ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور» (يوحنا 9:5، 12: 35).
التوبة تجديد لفاعلية المعمودية
التوبة حقيقة لها وجهان: وجه ظاهري، ووجه خفي. الوجه الظاهري هو علامات الندم والرجوع إلى الله؛ والوجه الخفي هو تجديد فاعلية المعمودية ونوال الغفران.
الخطيئة تكتم أنفاس الإنسان الجديد وتضعف استنارته. والانفتاح على ملاذ العالم وشهواته وظلماته يأسر النفس ويبقيها في مجال ظلمته. وإذا بقي الخاطئ على حاله دون توبة ودون رجوع إلى المسيح المخلص، فهو يكون كمن يُسلِّم نفسه إلى أيدي سلاطين الموت، راضخاً لإرادة إبليس مُسهِّلاً طريق السيطرة على نفسه لهلاكها. كما أن البُعد عن الله يترك فراغاً في النفس لا يمكن ملؤه: «إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون» (لوقا 13: 3).
أما التوبة فهي تلاقٍ مع الله المُبرِّر والمُحرّر والمُخلِّص، وهذا التلاقي يُجدِّد باستمرار الطبيعة الداخلية، ليستمتع التائب بعذوبة العشرة مع الله. وما دام الخاطئ صادقاً في توبته فهو يستشعر قوة الغفران وتجديد النفس، ويصير القلب مُشبعاً بشعور روحي عميق، يُعيد إليه الحيوية من جديد، فالله يُعطي دائماً التوبة للحياة (انظر أعمال 11: 18).
الروح هو العامل الفعّال هنا لضمان استمرار قوة التجديد في النفس التائبة، وهو نفس الروح العامل في المعمودية، مُدركاً في صورة سلام قلبي وشعور داخلي مُريح بالتخلّص من أثقال الخطايا الجاثمة على القلب والضمير. وهو نفسه الروح الذي يُغذِّي الأمل الداخلي في الخلاص، ويُجدِّد بهجة القلب داخل الإنسان التائب حتى لا يخفق الرجاء في صدره أبداً. من هنا كانت التوبة والرجوع إلى الله والانقطاع عن مصادر الخطية والسقوط، هي ضرورة حتمية لا بد منها، لأنها تضمن فاعلية الروح للنهوض والنمو في طريق النور، وهي تُعزّز روابط الألفة والاتحاد مع الله بفعل سَريان نور الله وبره من جديد داخل النفس التائبة. هذه ليست مجرد نظرة تفاؤلية، بل حقيقة إلهية.
إنه نور جديد يصبّه الله في قنوات القلوب، فيسري فيها نبض حياة، وهو المُسمَّى «بنور الحياة» (يوحنا 8: 12). وبهذا النور يقود الله خطى الإنسان في طريق الملكوت، ويُعينه ويُؤازره طوال رحلة غربته في هذا العالم. وبنور الحياة تبقى النفس حية واعية لمصيرها الأبدي لا تموت أبداً.
بل هي لمسة إلهية، ونعمة من فوق، تبني الإنسان من جديد. وبواسطة الرجوع المُستمر إلى الله بتوبة حقيقية، لا ينقطع تدفق تيَّار النعمة عن النفس، ولا يكف إشعاع النور الإلهي عن القلب والذهن. وبذلك يمكن القول إن قيمة الحياة الإنسانية تكمن في الروح الإلهي الذي وراءها العامل فيها للاستنارة الدائمة والمزيد من النمو في حياة القداسة، فهو الذي يمثل جوهر الحياة الجديدة وقوامها وعلة استنارتها: «بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس» (تيطس 3:5).