القديس الأنبا موسى
قاطع طريق يصبح قديساً
قصة حياة القديس القوي الأنبا موسى الأسود بحسب المصادر التاريخية والتراث القبطي.
موسى عبد شرير طرده سیده لكثرة شروره
بينما كان الأنبا تيموثيئوس يثبت المؤمنين ويجتذب الأريوسيين إلى الايمان القويم، كان غيره من المسئولين فى الكنيسة يخدمون الشعب. وفي الوقت عينه كانت النعمة الالهية تفعل فعلها في القلوب فتجتذبها مباشرة. ومن أبرز الأئمة المارقين موسى الأسود الذي أشرق على فؤاده النور الإلهى فحوله عما هو فيه من شر، وأنار أمامه طريق الخلاص.
وكان موسى فى بادئ الأمر عبدا لرجل شريف واسع الثراء والسلطان إلا أن تماديه فى الشر، وتمرده المتواصل، وبطشه بالعبيد زملائه – كل هذه الصفات جعلت الشريف يطرده من خدمته. فخرج موسى هائما على وجهه متها لا بأنه تحرر من عبوديته رغم أنف سيده القوى، وقصد إلى مكان مهجور بالقرب من الصحراء حيث أقام نفسه رئيساً على سبعين من اللصوص وقطاع الطريق. وكان موسى أسود اللون ، عملاقاً في قامته قويًا عاتيًا. فكانت قوته الجسمية أقرب إلى قوة الوحوش الكاسرة منها إلى قوة بنى الانسان. فجعلته كل هذه الصفات كابوساً مزعجا لكل من ساقه حظه العاثر إلى الاقتراب من المنطقة التي يقطنها موسى الأسود، إذ كان لا يتورع عن أن يقتل ويسلب ويعتدي بالضرب والاهانة من غير تفريق بين رجل أو امرأة، شيخ أو طفل. فكانت ضحاياه لا حصر لها. ولم تكن هناك موبقة إلا ارتكبها حتى لقد قال بلاديوس أسقف هيلونوبوليس عنه : “اننى أسرد كل خطاياه وشروره بالتفصيل لتتجلى عظمة توبته”.
تطلعه إلى معرفة الله رغم شروره
على أن موسى – بينما كان متردياً في هاوية سحيقة من الشر – كان يشعر بأن نفسه مضطربة داخله . فقد كان القبس الإلهى يلهب قلبه رغم ما هو فيه من ظلام . فكان كثيراً ما يتطلع إلى الشمس ويناجيها بقوله: “أيتها الشمس إن كنت أنت الله فاخبريني وأعلنى لى الحقيقة. وأنت يا الله الذي أجهله أظهر لي ذاتك”.
ذهابه إلى وادى النطرون وتتلمذه للأنبا مكاري الكبير
وفي ذات يوم – وهو غائص في هذه التأملات – إذا به يسمع صوتا يقول له: “اذهب إلى صحراء وادى النطرون ، هناك تجد رجالاً قديسين يخبرونك عن الله الذى تبتغى معرفته”.
فقام لساعته وتقلد سيفه (بحكم العادة )، وقصد إلى وادى النطرون. فالتقى – أول ما التقى – بالأب ايسيدورس أبى رهبان تلك المنطقة الذي ما كاد يرى هذا العملاق الممنطق بالسيف حتى تملكه الخوف. فهدأ موسى من روعه وأعلمه بما سمع. ففرح ايسيدورس فرحاً عظيماً، وأخذه في الحال إلى حيث يقيم معلمه الأنبا مكاري الكبير. فوضعه الأنبا مكاري تحت رعايته، وأخذ يعلمه ويرشده في رفق ولين حتى سما به إلى مرتبة النساك، ثم منحه سر الصبغة المقدسة. وبعد أن وضعه تحت رعايته بضع سنين وجده جديراً بأن يلبس الاسكيم المقدس لما تجلى فيه من صلاح وقداسة فالبسه إياه. ثم أشار عليه بأن ينفرد فى صومعة ويعيش فيها فعمل موسى بنصيحته.
جهاده الروحي ومحاربة الشيطان له
وعاش موسى فى وحدته مثابراً على الجهاد الروحى لعله يكفر بذلك عن جميع الشرور التي ارتكبها في عنفوان حياته. وبينما كان مندفعاً في الصوم والصلاة، وفى التأمل والاستغفار ، وفى خدمة شيوخ الرهبان ، لم يدعه الشيطان في سلام بل كان يصور أمام عينيه الفزعتين صور أثامه وخطاياه لعله يستطيع أن يرمى به فى هوة اليأس من مراحم الله. وكانت التجارب تشتد عليه أحياناً حتى تجعله يشعر بأنه على وشك السقوط في هاوية سحيقة . وحينذاك كان يذهب إلى ايسيذورس ويعترف له بالصراع النفسي القائم داخله. فيقول له هذا القديس: لا تضطرب يا صديقي فهذه أوجاع المخاض لأنك الآن على وشك أن تولد ولادة ثانية. فاثبت، وثابر على الصوم والصلاة، واستنجد بالآب السماوى معلناً له حقك في مراحمه، وسترى إذ ذاك أن التجارب ستتلاشى من أمامك. وبهذه الكلمات كان ايسيذورس يملأ قلب موسى الأسود عزاء واطمئناناً. فيعود إلى صومعته هادئاً راضى النفس.
خدمته لشيوخ النساك
وبعد أن خفت حدة التجارب اختار موسى أن يخدم الشيوخ الرهبان. فكان يخرج ليلاً وهم نيام ويحمل جرارهم فيملأها ماء ويعود بها إليهم قبل أن يستيقظوا. فحسده الشيطان على هذه الخدمة المتواصلة وضربه بقروح فى رجليه حتى أنه ظل مدة طويلة لا يقوى على الوقوف. فلما أدرك أن هذه القروح من الشيطان حكم على نفسه بالقيام والمشي وتحمل الألم لمعاودة خدمته. فتحنن الله تعالى عليه ، ونظر إلى محبته واحتماله وشفاه من تلك القروح.
حادثته مع اللصوص الذين دخلوا مغرته
وحدث ذات يوم أن دخل بعض اللصوص صومعته غير عالمين حقيقة شخصيته. فربطهم من أوساطهم وحملهم على كتفه بكل سهولة وذهب بهم إلى مجمع الرهبان قائلاً: “لا استطيع أن الحق الأذى بأحد هؤلاء الرجال الذين جاءوا يريدون قتلى. فما حكمكم عليهم ؟” ثم التفت إلى اللصوص وفك وثاقهم وقال: “يغلب على ظني أنكم لا تعرفون أننى موسى الأسود قاطع الطريق وزعيم اللصوص” وعند ذلك تعجب هؤلاء اللصوص من هذه الكلمات وأعلنوا دهشتهم للتحول التام الذى تحوله موسى. وكان تصرفه معهم سبباً في أن يتوبوا ويستغفروا الله.
غيرته ورغبته في التجدد
ولغيرة موسى المتقدة قصد إلى أحد شيوخ الرهبان ذات مرة وسأله: “أيمكن أن يتجدد الانسان كل يوم ؟” أجابه الشيخ : “إن كان ذا عزيمة صادقة ورغبة أكيدة في أن يرضى الله تعالى فمن الممكن له أن يتجدد كل يوم”.
اختياره أبا لخمسمائة راهب وتعليمه اياهم
وانتصر موسى بجهاده وصبره ومحبته وتواضعه، ففاضت عليه النعمة الالهية واختاره الاخوة لأن يكون أباً لهم. ولما جاء الأنبا ثيؤفيلس البابا الاسكندرى إلى شيهيت طلبوا إليه أن يرسمه قسيساً. فأراد أن يمتحن مدى احتماله للاهانة وقال لشيوخ النساك : “من الذى جاء بهذا الأسود إلى هنا؟”، وما أن سمع موسى هذه الكلمات حتى انسحب في هدوء مخاطبًا نفسه: “حقا أنك غير أهل لهذه الكرامة يا أسود”، فابتسم البابا وناداه وأبدى له اغتباطه من احتماله ووداعته ثم رسمه قسيساً. ولما انتهت شعائر الرسامة تجمع الاخوة حول موسى مهنئين مهللين. وعندها قال له الأنبا ثينوفيلس : “لقد تبدل سوادك وأصبحت أبيض بكليتك”. ومنذ تلك اللحظة تسلم موسى الرئاسة على خمسمائة راهب وقد حدث له بعد ذلك بقليل أنه بينما كان جالسا مع بعض النساك الرهبان مر عليهم نفر من الرجال عيروه بماضيه المخجل. فتجاوز عن تعييرهم بملازمته الصمت وبعد أن انصرف هؤلاء المعيرون سأله تلاميذه النساك قائلين: “هل اضطربت يا أبانا حين سمعت تغييرات هؤلاء الرجال؟” أجابهم : “نعم لقد اضطربت ولكني أحمد الله أننى لزمت الصمت”، فاستفسروا منه عن المعنى الذي يقصده فقال لهم : “إن الكمال الذى نهدف إليه – معشر الرهبان – لا يتحقق إلا بخطوتين : الأولى عدم تأثر الحواس الجسمية ، والثانية عدم تأثر الحواس النفسية . والخطوة الأولى هى أن يتحكم الراهب في التعبير عما يشعر به فيلزم الصمت أمام من يهينه . أما الخطوة الثانية فلا يصل إليها الراهب إلا إن هو استطاع أن يشعر بارتياح تام مهما سمع من اهانات أو تغيير – أى أنه لا يضطرب ولا يغضب بالمرة”.
عظم محبته للناس
ولقد أدرك موسى أن المحبة هي رباط الكمال فجاهد لكي يحب جميع الناس، وأبدى هذه المحبة في شتى المناسبات : وبدت محبته هذه في صورة رائعة ذات يوم حين سقط أخ في زلة فاجتمع مجمع الرهبان لمحاكمته، وأرسلوا يطلبون إلى الأنبا موسى أن يحضر فلم يستجب لدعوتهم ، فبعثوا إليه ثانية يقولون: “تعال لأن مجمع الاخوة في انتظارك”. فقام وأخذ قفة قديمة ملأها رملاً، ووضعها على ظهره، واتجه نحو المجمع. فلما رأه الاخوة مقبلاً خرجوا للقائه ، ودهشوا إذ رأوه حاملاً القفة مملوءة رملاً فسألوه : “ما هذا يا أبانا ؟” أجابهم : “إن خطاياي ثقيلة ولكنها ورائي فلا أراها ، ثم أتى لأحكم على غيري ؟!” فاتعظ الاخوة بكلماته وأبرأوا ساحة الأخ المذنب.
دالته على الله تعالى
وذات يوم جاء بعض الشيوخ لزيارة الأنبا موسى في صومعته وأراد أن يطبخ لهم عدسا ولكنه وجد أن الماء الذي عنده قد فرغ. فخرج خارج الصومعة، ورفع عينيه نحو السماء ، ثم دخل وجلس مع زائريه. وكرر هذا العمل عدة مرات. وإذا بالسماء الصافية تتلبد بالغيوم ويتساقط المطر غزيراً ، فأحضر الأنبا موسى وعاء تلقى فيه الماء المتساقط. وحين رأه الاخوة يفعل هذا سألوه عن السبب . فضحك وقال لهم: “نفدت المياه التي كانت عندي فكنت أخرج خارجا وأقول لربي : لقد دعوتنى للعيش في هذا المكان فارسل لى الماء اللازم لى ولضيوفى لأنك أنت المسئول عنى”.
زيارته للأنبا مكاري الكبير ثم استشهاده
وحدث أن ذهب موسى وبعض زملائه لزيارة الأنبا مكاري الكبير – معلمهم جميعاً – وبينما هم جلوس حوله قال لهم : “إنني أرى أحدكم يعلو رأسه اكليل الشهادة” قال الأنبا موسى : “لعلني أنا هو ذلك الشخص لأن سيدنا قال من يأخذ بالسيف بالسيف يؤخذ”. وبعد هذا الحديث بأيام معدودة هجمت قبائل البربر على المنطقة فقال موسى للاخوة : “من شاء أن يهرب فليهرب”. فسألوه : “وماذا ستفعل أنت ؟” أجابهم : “اننى فى انتظار هذا اليوم منذ سنين”. ودخل البربر الدير فوجدوا موسى ومعه سبعة رهبان رغبوا في أن يبقوا معه. فقتلوهم جميعاً. وفى أول وهلة امتلأ أحدهم فزعاً واختبا خلف ستارة فرأى ملاك الرب واقفا يحمل اكليلاً في يده ليضعه على رأس الشهيد حالما يستشهد فخرج من خلف الستارة وتقدم بشجاعة فأمسك به البرير وقتلوه. وهكذا استشهد موسى الأسود “قاطع الطريق” في ذلك اليوم
فتأملوا يا اخوتى مدى سر التوبة الذي حول عبداً لصا قاتلاً عن الخطية إلى القداسة وجعله معلماً معزياً ومرشداً لكثيرين من الساعين نحو الكمال ، كما أهله لأن يصنع العجائب حتى أن الكنيسة قد ضمت اسمه إلى أسماء القديسين الذين يتلوهم الكاهن فى القداس الإلهى.
المراجع والمصادر:
السنكسار القبطي (٢٤ مسرى): سيرة مختصرة للقديس موسى الأسود واستشهاده.
بلاديوس، أسقف هيلونوبوليس: “تاريخ الرهبان” (Lausiac History): وهو المصدر التاريخي الأساسي الذي سجل فيه بلاديوس قصة توبة موسى الأسود مفصلةً، كما ورد ذكره في النص نفسه.