القديس ثيوفيلس الأنطاكي
ثيوفيلس الأنطاكي يعد من أبرز الآباء المدافعين في القرن الثاني وأهمهم. يظهر من كتاباته أنه ولد على ضفاف نهر الفرات في سوريا من والدين وثنيين، وعاش بين العامين ۱۲۰ – ۱۸۵، وتثقف بعلوم عصره، كما كانت تتطلبه طبقته الاجتماعية. ثقافته يونانية كلّيّة، وقد يكون عرف العبرية. إهتدى إلى المسيحيّة حين أخذ يقرأ كتب الأنبياء والإنجيل. فقد جاء في كتابه الأوّل إلى أوتوليكس ١٤/١ قوله: «لم أكن أنا أيضًا مؤمناً بإمكانية حصول هذه الحقائق حتى قرأت كتب الأنبياء وتأملتها، هؤلاء الأشخاص الذين بواسطة الروح القدس، تنبأوا بما كان سيحصل للعالم وقد حصل الآن فأنا أؤمن أنّ هذه الأحداث هي البرهان القاطع بالنسبة لي [للحقيقة المسيحية] ولذلك أطيع الله». إهتداؤه يشبه اهتداء يوستينس، فقد تعلّق تعلقا شديدًا بالمسيح وتمسك بشدّة بأخلاق المسيحيّين. ومن خلال ما اختبره راح يؤكّد أن إله المسيحيين الإله الحقيقي للتاريخ. وفي العام ١٦٩، بحسب رواية أوسابيوس، صار أسقفًا لأنطاكية وفي ذلك الوقت أيضًا اشتهر ثيوفيلس سادس أسقف على كنيسة أنطاكية من عهد الرسل (التاريخ ٢٠/٤). وبقي فيها حتى وفاته نحو العام ١٨٥.
تأليفه
إن صيت ثيوفيلس لا يعود إلى نشاطه الرعوي في كنيسة أنطاكية، بقدر ما يرتبط بنتاجه الأدبي الغزير ففي رواية أوسابيوس، يكون قد ألف عدة كتب: «أما عن ثيوفيلس، السابق ذكره بكونه أسقفًا لكنيسة أنطاكية فلا يزال باق له ثلاثة مؤلّفات أولية موجّهة إلى أوتوليكوس، ومؤلّف آخر عنوانه “ضد هرطقة هرموجينس”، فيه يقتبس بعض الشهادات من رؤيا يوحنّا، وأخيرًا بعض كتب تعليمية . . . [وله] بحث جليل الشأن ضدّ مركيون» (التاريخ ٤٢/٤).
وهو نفسه يشير إلى أعمال أخرى، إلّا أنّ معظم هذه التآليف قد ضاع ولم يصل إلينا سوى الكتب الثلاثة الموجّهة إلى صديقه الوثني أوتوليكُس. كان هذا الرجل يحتقر المسيحيّة، ويوما ما حصل بينه وثيوفيلس حوار حول إله المسيحيين. فبين أوتوليكس صحة الديانة الوثنية، واستحالة وجود إله واحد أحد لكلّ هذا العالم، واستحالة قيامة الأموات أمام هذا العرض يظهر ثيوفيلس لمحدّثه حقيقة العقيدة المسيحية، وسموّ الأخلاق التي تتطلبها، ويدعوه إلى اعتناقها. الكتب الثلاثة هذه ألّفها بين العامين ١٨٠-١٨٥، وهي تُعدّ دفاعات رسمية تدحض اتهامات المفكرين الوثنيين المألوفة.
الكتاب الأوّل
يتكوّن من ١٤ فصلًا أو فقرةً. بعد مقدّمة مقتضبة حول المناسبة وسبب الكتابة، يأتي في الفقرة ٢-١٣ للإجابة عن سؤال محدّثِهِ: «أرني إلهك». يبيّن له أنّ الله موجود، وهو واحد أحد. ويشرح اسمه وصفاته وأعماله التي تشهد على وجوده «حتى لا تكون أعيننا مظلمة وقلوبنا قاسية». ويستدرك ثيوفيلس حالا بأن معرفة الله هنا على الأرض نسبية ومحدودة، لكنّها تغدو كاملة «عندما نخلع الموت ونكسر شوكته . . . إذا آمنا به بعث أجسادنا وأنفسنا، فنكون خالدين ونشاهد الله الخالد» (المقطع ٧) وفي موضوع القيامة يذكر أنّها تطبع كلّ لحظات حياة المسيحيين : «إنّ الذين مسحهم الله لا ينتهون» ( المقطع ۱۲). وفي الفقرة ١٣ يقدّم لوحة متناسقة للقيامة. ويختم الكتاب في الفقرة ١٤ بتحريض مؤثر، مذكرا بخبرته الشخصية واهتدائه، محرّضًا صديقه على اقتفاء أثره «ليعطيه الله الحياة الخالدة، و الفرح والسلام والراحة وجملة من الخيرات لم ترها عين ولم تسمع بها أذن، ولم تخطر على قلب بشر».
الكتاب الثاني
يتكوّن من ۳۸ فقرةٌ. فيه يسعى ثيوفيلس إلى أن يبيّن بالتفصيل، عدم جدوى إيمان صديقه وعبادته الفقرة الأولى هي بمثابة مدخل، والفقرات الأخرى تتعلّق بنقطتين أساسيتين : الأولى (۲-۸)، دحض معتقدات الوثنيين فهي أقرب إلى الخرافة منها إلى معرفة الحق ويستشهد بأقوال مقتبسة من كتب شعرائهم وفلاسفتهم. والنقطة الثانية (٩-٣٨) هي صحة الديانة المسيحيّة المبنية في نظره على أسس كتب الأنبياء «التي أوحى بها الروح القدس». ويتكلّم على خلق الله العالم والإنسان، شارحًا الهدف من ذلك. ويظهر أنّ الإنسان يحمل في جوهره قدرة القيامة، لأنّه «مخلوق على صورة الله ومثاله». ثمّ يناقش الخطيئة الأولى ونتائجها الوخيمة (٢١-٣٢) وفي ٣٤-٣٨ يبيّن أنّ ما قاله الأنبياء يتطابق وما جاء في كتب الفلاسفة، أمثال سيبيلا وأبسيكلس وبيندارُس…
الكتاب الثالث
يتكوّن من ٣٠ فقرة. وسببه أنّ صديقه لم يظلّ غير مقتنع بصحة صلاح المسيحية وحسب، بل وعدها «حماقة»، وأنّ الكتب المقدّسة بالنسبة إلى الديانة الوثنية هي حديثة العهد. في ٢-١٥ يبرهن ثانيةً عدم وجود أسس منطقية للديانة الوثنية. وفي ١ – ٢٩ يلخص تاريخ العالم من الخلقة إلى سنة وفاة الإمبراطور الروماني مرقس أوريليوس، داحضًا اتهام صديقه بحداثة كتب الأنبياء: بمعونة الله أريد أن أبرهن لك بدقة تامة ممكنة ما يخص الزمن، حتّى تعلم أن عقيدتنا ليست حديثة العهد، ولا مماثلة بالأساطير، وأنّها أقدم وأحق من كلّ أولئك الشعراء الذين كتبوا في هذه المسائل غير الأكيدة. يظهر سموّ مناقب المسيحيّين الذين يعيشون في العفاف والعدالة والمحبّة (١١-١٥) وينهي في ١٥ وينهي في ٣٠ بشجب كلِّ مَن يضطهد المسيحيّين: «لقد فقدوا معرفة الله، ولم يجدوا الحقيقة». بقي أن يقرأ أو توليكس هذه الخطابات، حتى يتمكن من اكتشاف الحق واتباعها من خلال الإيمان.
أطروحاته
همّ ثيوفيلس الأنطاكي ينصب في الدرجة الأولى على إظهار حقيقة العقيدة المسيحية في سبيل إقناع صديقه الوثني أوتوليكس باعتناق المسيحية، وفي الدرجة الثانية دحض الاتّهامات الوثنية المألوفة ضدّ المسيحيين. ولكنّ أسقف أنطاكية يختلف عن المدافعين المألوفين، فلنتاجه الأدبي خصوصيّة : إنّه لا يقوم بعملية التوفيق بين الثقافة اليونانية والإنجيل ولا يجد مقاربة بينهما . صحيح أنه يستعمل أحيانا بعض شواهد من الفلسفة التي درسها في شبابه، لكن من دون أن يعمق العلاقة. هناك من أخذ عليه المساحة الكبيرة المخصَّصة للتاريخ الزمني (الكتاب الثالث) بدلا من تناول شخص المسيح وعمله بالتفصيل.
إنّ النقاط اللاهوتية، التي نجدها في مؤلّفاته، مؤسسة على الكتاب المقدس وعلى التقليد الكنسي الذي كان قد بدأ بتحديد بعض المفاهيم الإيمانية، نذكر على سبيل المثال ما يتعلق بالكلمة «اللوغس».
ومن الجدير بالملاحظة أنّ المؤلّف هو أسقف ويحس بمسؤوليته في حفظ «وديعة الإيمان والتعليم الكنسي» والدفاع عنه كونه ناطقا رسميًّا له، وهذا لا يسمح له بطرح آراء شخصية قوية.
الله
وجود الله يشكّل النقطة الأساسيّة في التعليم المسيحي وفي كتابات ثيوفيلس. وإله المسيحيين هو «في المجد غير متناه، في العظمة غير محدود في العلوّ لا يُقاس، في القدرة لا يقارن في الحكمة ليس له حدّ في الصلاح ليس له نظير، وفي الخلق لا يوصف» (٣/١).
«هو بلا بداية، لأنّ ليس له خالق.. يدعى الله Theos لأنه خالق جميع الأشياء، والربّ Kyrios لأنّه قبل كل الأشياء» (٤/١). وجود الله مستند، كما الحال عند المدافعين السابقين إلى وجود الخليقة فبواسطتها يختبر الإنسان وجود الله وسيادته (٤/١) وعنايته (٥/١) . ولكن يحدّد بأنّ المعرفة الحق لا تأتينا إلا عندما نعيش في «النقاء والتقوى والعدالة». وإذا كان قلبنا «مفعما بالإيمان، إذاك نصير خالدين ونشاهد الله الخالد» (۷/۱).
ونجد عنده التعبير الإيماني بالله الآب وبالله الابن وبالله الروح القدس، ويعدّ أوّل من استعمل لفظة الثالوث Trial في اللاهوت المسيحي : «إنّ الأيام الثلاثة التي فيها خلقت الأجسام النيّرة هي صورة الثالوث: «الله وكلمته وحكمته» (٥/٢). يستعمل لفظة الحكمة للدلالة على الروح القدس. يستعمل مصطلح الثالوث من دون شرح. وفي الفقرة ١٤ يتكلّم على الكواكب كصورة لسرّ عظيم».
الكلمة
يقول ثيوفيلس إنّ الله خلق الكون من عدم : «إنّ الأنبياء علمونا أنّ الله خلق العالم من لا شيء … وخلق الإنسان ليعرفه» (۱۰/۲) . والخلق تم بواسطة «الكلمة» : «بما أنّ كلمة الله كان في أحشائه، فلقد أولده مع حكمته [ أي الروح ] قبل خلقه الكون، ولقد استعان بالكلمة لخلق كلّ شيء، والكلمة هو مبدأ الكون وسيده» (١٠/٢). وهو «روح الله وقدرته، نزل في قلب الأنبياء، وبواسطته أعلنوا كلّ ما ينبئ عن خلق العالم وجميع المخلوقات» (۱۱/۲).
في سفر التكوين وفي إنجيل يوحنّا الخلق يتم بواسطة الكلمة» من دون أن يفقد اتحاده بالله : «الكلمة هو الذي كان في الفردوس يقوم بدور الله ويكلّم آدم، وبما أنّ كتبنا المقدّسة تعلّمنا أنّ آدم سمع صوت الله، فهذا يعني سمع صوت كلمة الله» (٢/ ۱۲).
هناك إذن وجهان للكلمة الوجه الباطني والوجه الظاهري، أي قبل الخلق وبعد التجسّد «الكلمة ابن الله ليس ابنا بالمعنى الذي أطلقه الشعراء ومؤلّفو الأساطير، كما الحال في ولادة أبناء الآلهة عن طريق العلاقة الجنسية، ولكن كما تصفه الحقيقة بواسطة الكلمة الموجود في قلب الله . . . ولده، وبقي متحدا به» (۱۲/۲).
خَلْق الإنسان والخطيئة والقيامة
إنّ ثيوفيلس، معتمدًا على سفر التكوين، يشدّد على خلق الإنسان وعصيانه وابتعاده عن الله ، ولكنّ الذين يؤمنون ويعيشون وفق إرادة الله، يقيمهم. «خلق الله الإنسان على صورته ومثاله» (۸/۲)، «ومن أجل خدمته خلق جميع المخلوقات» (۱/ ٦)، وخلقه بريئًا كالطفل (۲۷/۲) ومنحه طبيعةً لم تكن مائتة ولا غير مائتة، وأعطاها إمكانية الموت والحياة الأبديّة (۲۷/۲). لكنّ الإنسان بارتكابه المعصية، خضع للألم والموت (٢/ ٢٥)، وخطيئته أفسدت الطبيعة البشرية (٢٧/٢).
يقول ثيوفيلس : «لقد خلق الله الإنسان حرا ومستقلا .. ولكن بمخالفته إرادة الله ، جلب على نفسه الموت … وعندما يطيع الله ، يرثُ الحياة الأبدية» (۲۷/۲)، «في مكنة كلّ إنسان أن يختار بين الموت والحياة . . لقد أعطانا الله الناموس ووصاياه المقدّسة، فمَن يطبّقها يخلص ويرث الحياة الأبدية» (٢٥/٢).
نص
الخطيئة تحول دون مشاهدة الله
«إنك تقول لي: «أرني إلهك» فأجيبك : «أرني إنسانك وأنا أُريك إلهي». إذن بيِّن أنّ عيون عقلك ترى وآذان قلبك تسمع. إنّ الذين يرون بعيون الجسد يبصرون أعمال الطبيعة وأعمال الأرض، ويستطيعون بواسطتها تمييز الاختلافات النور من الظلام الأبيض من الأسود، القبيح من الجميل، المتناغم والمناسب من المشوّش وغير اللائق السالم من المبتور، والشيء نفسه يتم بالنسبة إلى الآذان الحادّ والخشن من المتناغم. هكذا على صعيد عيون العقل وآذان القلب، بواسطتهما يستطيع الإنسان التأمل في الله . يقدر أن يشاهد الله أولئك الذين عيون نفوسهم منفتحة جيدا فقط.
إنّ الجميع يملكون العيون، ولكن هناك من يسدّها، فلا يتمكن من رؤية أشعة الشمس، ولكن إذا كان العميان لا يرون أشعة الشمس، فهذا لا يعني أنّها لیست رائعة . العميان والطرشان ينغلقون على نور أنفسهم. هكذا، أيها الإنسان تغلق عيون نفسك بخطاياك وأعمالك الشنيعة.
على الإنسان أن تكون نفسه نقيّة مثل مرآة صافية واذا تجمع على المرآة الصدأ، فلا يغدو الإنسان قادرًا أن يرى صورته . كذلك إذا غطّت الخطيئة نفس الإنسان فقدَ بالنتيجة مشاهدة الله.
راجع حياتك، ولاحظ إذا ما كنت زانيًا أو عاهرًا أو لوطيًا أو مغتصبا أو غضوبًا أو حسودًا أو محتالاً أو متعجرفًا أو عنيفًا أو بخيلا أو عاصيا إرادة والديك أو بائعا أطفالك . . ثِق أنّ الله لا يمكن أن يكشف نفسه للناس الذين يرتكبون أعمالاً مماثلةً إلا بعدما يطهرون أنفسهم من كل الشوائب. لأنّ كلّ هذه الأمور تُعمي، مثلما تمنع الأوساخ، التي تتكتف على العين، من رؤية نور الشمس. هكذا أيّها الإنسان أعمالك القبيحة تعميك وتمنعك من مشاهدة الله (الخطاب الأول رقم ٢).