التعليم عن الكنيسة
مقدمة
الكنيسة كما يصفها الأسقف كاليستوس وير ” تقف عند نقطة تقاطع الدهر الحاضر والآتى وتعيش في الاثنين معا “. هي شاهدة للحياة الجديدة التي استعلنت في المسيح، فهى ليست مجرد جماعة أو مؤسسة تعليمية أو تبشيرية، بل هى أم تلد أشخاصا جددًا لهذه الحياة الجديدة. وجودها في هذا العالم هو من أجل تتميم خلاصه والعبارة الشهيرة للقديس كبريانوس “لا خلاص خارج الكنيس” ليست لها بعدا لاهوتيًا فقط، بل لها أيضًا أهمية تتعلق بحياة الشركة بين أعضاء الكنيسة. فالكنيسة هي المكان الوحيد للخلاص، وخارج الكنيسة لا يوجد خلاص. وهذا لا يعنى أن الله غير قادر على أن يخلّص أحد خارج الكنيسة. إلا أنه لا يوجد مسيحى يستطيع أن يطلب أو أن يبحث عن خلاصه خارج الكنيسة لأنها جسد المسيح ومنه تستمد حياتها ونموها وكمالها. فالكنيسة هي التي تحفظ الإيمان وتقدمه من خلال التعليم والأسرار وأيضًا من خلال حياة الشركة. الكنيسة حاضرة في هذا العالم، لكن لا تنتمى له فمهمتها هى الإعلان عن عالم آخر آت. وهى وإن كانت تضم أعضاء كثيرين، إلا أنها جسد واحد حي وفرادتها وتميّزها في أنها تعيد في كيانها اتحاد الجنس البشرى المفكك. وكما يقول الأب جورج فلورفسكي، في الكنيسة [ ترتفع الإنسانية إلى مقام آخر، وتبدأ حياتها بنمط جديد وتصبح الحياة الجديدة الحقة والكاملة والجامعة ممكنة في وحدة الروح برباط السلام].
الكنيسة هى الحياة بالروح القدس ، هى فُلك المحبة والنجاة، هي الخليقة الجديدة والكون الجديد الكنيسة تأتى من الله وتتجه نحوه، وهذه هي نفس البداية ونفس التحديد الذي يختص بخلق العالم. لكن بينما يتجه العالم نحو التحلل، فإن الكنيسة تعيد ربطه بالله وتعطى معنى وهدفًا لوجوده . فالكنيسة تحرر الإنسان من الشهوات العالمية وتدخله إلى الحياة الحقيقية داخل الكنيسة يتأسس مجتمع الشركة الذي فيه يتجاوز الإنسان فرديته وأنانيته، ويظهر كشخص مخلوق على صورة الله ومثاله، أى كشخص له قدرة على المحبة كما أحب المسيح. لأن المحبة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق بإعتبارها عمل وجهد إنساني المحبة الحقيقية تتحقق فقط في إطار شركة الكنيسة، وفي إطار هذه الشركة يتحد المؤمنون بالمسيح، لأن في داخل كل مؤمن يوجد المسيح الواحد غير المنقسم. توصف الكنيسة أيضًا بأنها أيقونة الثالوث لأنها تعكس تلك المحبة الفائقة الوصف التي للأقانيم الثلاثة، وتجسد تلك العلاقة الحية بين أقانيم الثالوث. الدخول إلى سر الكنيسة يتطلب عملاً مشتركا بين إرادة الإنسان وعمل روح الله، فالقبول الحر للدخول في عضوية الكنيسة يُعد أمرًا هاماً لنوال الخيرات الروحية التي أودعها الله في الكنيسة. فهي أسرة روحية تحيا بالمحبة التي تجسدت فيها بالمسيح. وقبول هذه الشركة يعنى الاشتراك في منابع الحياة التي تُغني حياة المؤمن، وبها يرتوى ويتغذى وينمو ويكتمل.
وحياة الكنيسة ليست مثل حياة الكائنات الأخرى، يمكن ملاحظة نموها الظاهري، ولكنها حياة آلهية غير منظورة، لأنها بالروح القدس. وعلى الرغم من أنها حياة غير منظورة، إلا أننا نرى عملها روحيًا من خلال هذا التجديد الذي يناله أعضاء الجسد الواحد ” مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل من الروح القدس”. وكل عضو يقوم بعمل خاص مكملاً العمل الذي بدأه المسيح بالآلام والصليب الآن أفرح في آلامى لأجلكم وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمى لأجل جسده الذي هو الكنيسة.
ومن أجل هذا فإن عمل أعضاء الكنيسة هو استمرار لعمل المسيح، “لأجل” تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح. إلى أن ننتهى جميعنا إلى قياس قامة ملء المسيح . ولأن حياة الكنيسة كائنة بالروح القدس، فهى تمتد من الماضى إلى المستقبل كما هي قائمة في الحاضر، ولأن عمل الروح القدس غير محدود، فهى تشمل الأعضاء الذين انتقلوا (الكنيسة المنتصرة). وهؤلاء المنتقلين هم أعضاء عاملون معنا الآن وذلك بالصلاة من أجل الكنيسة المجاهدة ولهذا فالكنيسة لا تنحصر في مكان وزمان، فهي كائنة على الأرض وكائنة في السماء.
يبقى أن تؤكد على أن الكنيسة لا تتطابق مع ملكوت الله، لكنها تتجه نحوه.
تعريف مصطلح الكنيسة:
كانت كلمة ” كنيسة ” في العالم اليونانى القديم، تطلق على الإجتماع السياسي الذي يُعقد في المدن للتشاور والنظر في بعض الأمور التي تخص هذه المدن.
لكنها في العهد القديم “الترجمة السبعينية”، كانت كلمة “كنيسة” تعلن عن اجتماع الشعب من أجل ممارسة عمل ديني أو ممارسة العبادة، كما جاء بسفر التثنية ، يقول : ” لا يدخل عموني ولا موابي في جماعة الرب. حتى الجيل العاشر لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد”. وأيضًا يقول المرنم : ” من قبلك تسبيحى في الجماعة العظيمة …
وكلمة كنيسة تقابل في العبري كلمة “qahal” والتي يُشار إليها في سفر التثنية في وصف اجتماعات جبل حوريب: ” في اليوم الذي وقفت فيه أمام الرب إلهك في حوريب حين قال لى الرب اجمع لى الشعب فأسمعهم كلامى لكى يتعلموا أن يخافوني كل الأيام التي فيها هم أحياء على الأرض، أو تُشير إلى اجتماع الشعب في أرض الميعاد ” لم تكن كلمة من كل ما أمر به موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأطفال والغريب والسائر في وسطهم . وقد استخدمت كلمة كنيسة أيضًا للتعبير عن الاجتماع الليتورجى للشعب وذلك في فترة الملوك، وفترة ما بعد السبى أيضا. ولكن إن كان مصطلح كنيسة يقابل كلمة (qahal) العبرية، فإن هذه الكلمة يُعبّر عنها بمصطلح (σuναγωγή) سيناغوغى، وهي ترجمة للكلمة المقدسة (edah)
ومصطلح (εκκλhσίa) كنيسة يأتى من الفعل (εκκaλω) بمعنى أدعو لأمر ما. ودعوة شعب الله تتم من خلال مبادرة إلهية، إنها دعوة مقدسة للاجتماع أمام الرب، كما ورد في لاويين ” وستة أيام يعمل عمل وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة محفل مقدس عملاً ما لا تعملوا . إنه سبت للرب في جميع مساكنكم “( لا ۲۳: ۳)
وبشكل عام إذا كان اجتماع الشعب يتم لهدف قومى، فيطلق على هذا الاجتماع أى مجمع، أما إذا إتخذ الاجتماع طابعًا دينيًا، فكان يُسمى أى كنيسة.
وكلمة كنيسة في اللغة الآرامية يُعبر عنها بكلمة (Kenist أو edita) وإن كان العهد الجديد قد استمد كلمة كنيسة من العهد القديم، إلا أن هذه الكلمة قد أخذت بعدا لاهوتيا فيما بعد.
أول ظهور لمعنى الكنيسة في العهد الجديد هو عند القديس متى البشير ” .. أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبنى كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها . وقد عُرفت أول جماعة مسيحية، بأنها تلك التي تشكل شعب الله في العهد الجديد “الذين قبلاً لم تكونوا شعبا وأما الآن فأنتم شعب الله. وهنا هو يصوّر الكنيسة التي كانت في البرية “هذا هو الذي كان في الكنيسة في البرية مع الملاك الذي كان يُكلّمه في جبل سيناء مع آباؤنا ” (أع ٣٨:۷). وترد كلمة كنيسة في العهد الجديد بمعنى محفل ديني، على سبيل المثال في رسالته الأولى إلى كورنثوس إهتم القديس بولس بسلوك بعض المسيحيين المجتمعين في الكنيسة، ” لأنى أولاً حين تجتمعون في الكنيسة أسمع أن بينكم انشقاقات وأصدق بعض التصديق”.
أيضًا في أعمال الرسل وفي رؤيا يوحنا، استخدمت كلمة كنيسة بصيغة المفرد والجمع وهي تعلن على سبيل الحصر عن إجتماعات تخص كنيسة محددة أو اجتماعات للعبادة. هكذا نجد في موضع من رسائل الرسول بولس (رومية، كورنثوس الأولى والثانية، غلاطية، تسالونيكى الأولى والثانية)، يُستخدم مصطلح كنيسة بصيغة المفرد والجمع، ويُلاحظ الآتى:
۱ ـ تشير كلمة كنيسة في ۲۷ موضع إلى جماعة كنسية في مناطق محددة، سواء تحددت بالاسم أو بدون اسم.
٢ – هناك اشارة إلى كلمة كنيسة في سبعة مواضع بدون تحديد مكاني، لكنها ترد بوضوح في جماعة كنسية تابعة لكنيسة كورنثوس.
۳ – الحديث عن “الكنيسة التي في البيت” نجده في موضعين فقط، وفي هاتين الحالتين، الأمر يتعلق بالكنيسة التي في بيت أكيلا وبريسكلا” والتي هي كنيسة محلية ومحددة.
٤ – ثم يأتي الحديث عن الكنيسة في الستة مواضع المتبقية، بدون تحديد مكانى خاص. وهنا يُلاحظ انه في هذه الحالات الستة، ترتبط كلمة “كنيسة” عموماً بكلمة “الله” أو بعبارة أخرى مشابهة، لها في نفس المعنى.
أما بالنسبة لسفر أعمال الرسل في الحالات الـ ١٩ التي تُستخدم فيها كلمة كنيسة، نجد أنها في ١٤ حالة تأتي بمعنى جماعات محددة من المؤمنين سواء محددة اسميًا، أو معروفة من خلال ارتباطها بأجزاء أخرى. وفي الأربعة الأجزاء الأخرى، يوجد حديث عن الكنيسة دون اشارة خاصة إلى جماعات محددة من المؤمنين. وتُذكر كلمة كنيسة بالمعنى العام في حالة واحدة، لكنها مرتبطة كما في رسائل القديس بولس بلفظة “الله”. أخيرًا في رؤيا يوحنا ، تَرِد كلمة كنيسة دوماً بمعنى مجتمع كنسى مُحددة وتستخدم مرات بصيغة المفرد ومرات بصيغة الجمع.
إلا أنه في رسائل القديس بولس الأخرى، وفي الكتابات المسيحية بصفة عامة يستخدم مصطلح كنيسة بمعنى عام. على سبيل المثال تكررت كلمة كنيسة في رسائل الأسر ١٦ مرة ، منها ١٢ مرة بمعنى عام وأربع مرات بمعنى مجتمع كنسى محدد أو ” الكنيسة التي في بيتك”
وأخيرًا في رسالته الأولى إلى تيموثاوس أُستخدمت كلمة كنيسة ثلاث مرات مرتين بالمعنى العام ومرة بالمعنى الخاص، وفي هذه الأمثلة المشار إليها سواء (رسائل السبى – أو رسالة تيموثاوس الأولى) استخدمت كلمة كنيسة بصيغة المفرد.
التحديد العقيدى لماهية الكنيسة
لا يوجد في التقليد الكنسى القديم أى محاولات لوضع تحديد لماهية الكنيسة. يوجد فقط وصف للكنيسة عن طريق التشبيهات والصور والعروض التي تشرح المعنى والمحتوى الخاص بالكنيسة. على سبيل المثال نجد القديس كيرلس قد اتبع هذا النهج في توضيح مفهوم الوحدة الروحية واتحاد المسيح بالكنيسة عن طريق تشبيهات مستقاه من العهد الجديد مثل العريس والعروس، الكرمة والأغصان، الراعى والخراف، الهيكل والمسكن.
ولذلك لا نجد فصلاً يحمل عنوان الكنيسة بين الموضوعات العقائدية في كتابات الآباء لأن الآباء لم ينظروا إلى الكنيسة باعتبارها فكرة مجردة بل باعتبارها مجتمع إلهى ينتمى للدهر الآتي. إلا أننا نجد في الكتابات اللاهوتية المعاصرة تحديدات مختلفة للكنيسة. فالبعض يعطى تحديدا للكنيسة بأنها كاتدرائية مقدسة، والبعض يعتبرها مجتمعا قائمًا على الشركة، والبعض الآخر يحددها في البعد السرائري. غير أنه لا يمكن حصر الكنيسة في مفاهيم وتعبيرات محددة زمنية فهى وإن كانت حاضرة في الزمن إلا أنها تتجاوز البعد الزمني.
فالكنيسة هي جسد المسيح وملؤه (Το Σώμα και) أى أن كيان الكنيسة الحقيقى يستمد وجوده واستمراره من المسيح الذي هو حجر الزاوية في البناء الكنسي. الكنيسة حياة جديدة مع المسيح وبالمسيح، وحياة المؤمنين داخل الكنيسة هي حياة سرية بالمسيح.
ولذلك فالكنيسة لا تُعرَّف بأنها هى الجماعة فقط، بل أن وجودها يتحقق من حيث أنها متصلة بالمسيح، فهى جسد المسيح. فمنذ أن ظهر المسيح في الجسد، ظهرت معه الكنيسة، ومن غير المتصور وجود الكنيسة بدون وجود المسيح، فالمسيح هو الرأس والكنيسة هي الجسد. الكنيسة هي امتداد حضور المسيح في الزمن وهى كيان المسيح في التاريخ .. فالكنيسة هي امتداد حياة الابن فينا. ولذلك يقول القديس مقاريوس [ إن كل الذين خلع عنهم يسوع رداء مملكة الظلمة، قد لبسوا الإنسان الجديد السماوى، أى يسوع المسيح].
وإذا أردنا فهم معنى الاكليسيولوجيا (التعليم عن الكنيسة)، فينبغى أن نفهم معنى الثيولوجيا التعليم عن الله، فالكنيسة هي غاية الخليقة ومن أجلها خُلق العالم، وهذا المعنى نجده في كتابات آباء القرون الأولى، ففي كتاب الراعى لهرماس نجد الحوار التالي:
قلتُ: مَن هي هذه المرأة الشيباء.
أجاب: إنها الكنيسة.
فقلت : ولماذا هي مسنة هكذا إلى هذا الحد.
قال: لأنها خلقت قبل كل المخلوقات .. وهذا هو السبب في كونها مسنة ومن أجلها كُوّن العالم .. فالذي خلق الكائنات من العدم هو الذي أكثرها وأنماها لأجل كنيسته المقدسة.
” لقد وجدت في فكر الله قبل الخليقة ومن أجلها خُلق العالم “
هذا البعد الإكليسيولوجى في ارتباطه بالبعد الثيولوجي، يظهر أيضا في كون الكنيسة هي أيقونة الثالوث فهي تعكس حركة الحياة والمحبة بين أقانيم الثالوث. فقد طلب المسيح من الآب أن يكون الجميع واحد على مثال الوحدة بين الآب والابن والروح القدس ” وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتنى ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد ” (يو ۱۷: ۲۲) داخل الكنيسة تتحقق أعمال الثالوث ونتذوق الخيرات السماوية ومواهب الدهر الآتى
إن سر الكنيسة في العهد الجديد يُستعلن في الإطار الخريستولوجي، فالكنيسة هي جسد المسيح وهى المكان السرائرى الذي يتحقق فيه نمو الإنسانية كلها في المسيح. يقول عنها مارافرام السريانى [ أيتها الكنيسة أنت بيت لحم الأبدية، لأن فيكِ خبز الحياة ]. الكنيسة هي مواصلة سر المسيح في حياته وموته وقيامته، هي إعلان عن ملكوت الله في الزمن، إلى أن يكتمل هذا الكيان السماوي في نهاية الزمان في ملكوت الله .
الكنيسة والأسرار
السر في الحياة المسيحية يكمن في هذه الوحدة بين المرئى وغير المرئى والإنسان في سعيه لإدراك حقيقة هذه الوحدة، تنمو داخله رغبة ملحة لتحقيق هذا السر في حياته، وهذه الوحدة مصدرها هو الله. فالخليقة كلها هي نتاج فعل محبة وعطية حياة من واهب الحياة، الذي يضمن لهذه الخليقة وجودها ونموها واستمرارها. ولا يوجد شئ في الكون له خاصية الحياة في ذاته، بل أن كل شئ يعتمد في وجوده على الله الذي يهب كل الأشياء حياة ويقود كل الأشياء نحو الكمال. إن هدف الإنسان هو الإتحاد بالله. هكذا يقول القديس مقاريوس [إن الطبيعة البشرية، إن بقيت عارية وبنفسها فقط ولم تنل الاتحاد والشركة مع الطبيعة الإلهية، فإنها لا تستقيم أبدا ولا تكتمل، بل تظل عارية ومستحقة اللوم في طبيعتها الخاصة .. هكذا مسرة الله أن يأتى من السماء المقدسة ويأخذ طبيعتك العاقلة، فهو أخذ جسدا من الأرض ووحده بروح إلهى حتى تستطيع أنت (الأرضى) أن تنال الروح السماوى. وحينما تصير لنفسك شركة مع الروح وتدخل الروح السماوى في نفسك، فحينئذ تكون إنسانًا كاملاً في الله]. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا في شركة. هذه الشركة وهذه الوحدة تتجلى من خلال الإتحاد بشخص المسيح. أى أن مركز هذه الوحدة وهذه الشركة هو المسيح نفسه، والقوة التي تحققها هي قوة الروح القدس.
إن حياة ونمو المؤمنين ومحبتهم بعضهم نحو بعض، يتحقق من خلال ثباتهم في المسيح ” هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضنا لبعض كل واحد للآخر”.
ولأن الكنيسة هي جسد المسيح بحسب تعبير الرسول بولس ” وإياه جعل رأسا فوق كل شئ للكنيسة التي هي جسده”، فإن الشركة لا يمكن أن تتحقق خارج الكنيسة. ولذلك لا يمكن إدراك معنى الكنيسة إلا عن طريق الخبرة وتذوق هذه الشركة بالنعمة من خلال الاشتراك في الحياة الكنيسة نفسها. والاشتراك في الحياة الكنيسة يأتي من خلال الاشتراك في أسرار الكنيسة.
وتعتبر الأسرار وسائط منظورة، تُمنح من خلالها نعمة الله غير المنظورة، ومَن يتلامس مع السر لا ينبغى أن ينحصر في البعد المادى المنظور، بل عليه أن يتجاوز المظهر المادى ويدخل إلى عمق المحتوى الروحي. على سبيل المثال مَن ينحصر في البعد المادى لسر الافخارستيا، فلن يستطيع أن يتذوق ويفهم ويميز جسد ودم المسيح.
هذه الأسرار تعد بمثابة نوافذ ، يُنفذ منها النور الإلهى إلى العالم، وتُستعلن الحياة الحقيقية التي انتصرت على الموت. وأيضًا يُستعلن من خلالها سر الإيمان العظيم، والذي هو ظهور المسيح في الجسد وتأسيس الكنيسة، ” عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد ” ( ١ تيمو ١٦:٣).
غير أن النعمة الإلهية الممنوحة للكنيسة ، لا تُجدد أعضاء الكنيسة بشكل سحرى، أى بدون إرادتهم. ولهذا فإن كثيرين في الكنيسة يظلوا بلا تغيير ويتسم سلوكهم بالغموض وعدم المحبة. إلا أن عزلهم عن الذين عاشوا في تقوى ومحبة لن يحدث إلاّ في الدينونة الأخيرة.
إن أسرار الكنيسة تهب الشفاء للأعضاء المريضة، وكل سر يباشر ليتورجية خاصة به المعمودية تعيد ميلاد العضو وتضمه إلى جسد الكنيسة والافخارستيا تُقيم وحدة الجسد الواحد وتغذي الأعضاء بجسد ودم المسيح. الميرون هو إنسكاب جديد للروح القدس، يجعل الإنسان قادرًا على ممارسة أعمال حياتية نقية وصحيحة. كل الأسرار مرتبطة عضويًا فيما بينها بالجسد الواحد مثل فروع في ساق شجرة واحدة، ومثل أفرع حاملة لثمار العنب في الكرمة الواحدة كما يقول نيقولا كابيسيلاس.
الأسرار تُعبّر عن محتوى خطة التدبير الإلهى من أجل خلاص البشرية. فمن غير الممكن على سبيل المثال أن يتمم سر المعمودية إن لم يكن قد سبق ذلك تجسد المسيح وصلبه وقيامته، ونفس الأمر ينطبق على سر الإفخارستيا ، وأيضًا سر الميرون لن يكون له حضور سرى فعال، إن لم تكن الإنسانية قد مُسحت في المسيح. والأمر ذاته يسرى على سر الكهنوت. أيضًا فيما يتعلق بسر الزيجة ما كان له أن يوجد في الكنيسة، إن لم يكن قد تأسس بمباركة من الله.
أما بالنسبة لخواص هذه الأسرار وفاعليتها فإننا نستطيع رؤية نفس المسيرة التاريخية لخطة التدبير الإلهى، من خلال مسيرة الكنيسة ذاتها. هكذا فإن المعمودية في هذه المسيرة التاريخية، هي الميلاد الجديد هى الخليقة الثانية. لقد تشكلت هذه الخليقة الجديدة بصليب المسيح وقيامته. إذن المعمودية – كما في الخليقة الأولى – تُعطى وجودًا جديدًا. والأمر هنا يتعلق بعمل يخص الطبيعة وليس الارادة. الخليقة الجديدة أُستعلنت من خلال شفاء الطبيعة التي مرضت وفسدت. والمعمودية كولادة جديدة لا تتطلب القبول الحر من الارادة لأنها عملية خلق، فهى عودة بالطبيعة إلى حالتها الأولى، ولهذا فإن معمودية الأطفال على هذا النحو لها ما يبررها.
المعمودية كميلاد جديد، تُطعم العضو في جسد الحياة، ومن ناحية أخرى تربطه بحياة الكمال في الدهر الآتي. هذا الإتحاد من الآن يجعل هناك رابطة لا تنفك بين البعد الزمنى والأبدى هذا ما يؤكده القديس مقاريوس بقوله : [ النفس قد خلقها الله لكي يُصيّرها عروسا له وتدخل في شركة معه، لكيما يلتصق بها ويصير ” روحا واحدًا ” معها كما يقول الرسول بولس ” وأما من التصق بالرب فهو روح واحد ” (اكو٦: ١٧)]. والمعمد يسير في مسيرة جهادية نحو الكمال ” فدُفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة.
هكذا فإن المعمودية لا تعنى فقط إبطال نتائج الخطية الأصلية، أى الفساد والموت من خلال الولادة الجديدة، لكنها في نفس الوقت رباط بين الحاضر والمستقبل. ويعقب المعمودية سر الميرون، الذي هو سر تتميم مفاعيل كل ما أُخذ في المعمودية بالروح القدس.
أما عن الافخارستيا فهى سر قداسة الكنيسة، ويصف القديس يوحنا ذهبي الفم هذه المائدة الافخارستية بأنها [ عضد نفوسنا، ورباط ذهننا وأساس رجائنا وخلاصنا ونورنا وحياتنا.
هناك تواصل دائم بين السماء والأرض بين الرأس الجالس عن يمين الآب وبين الكنيسة التي هى جسده، لأنه فيها يتدفق دمه الغالي الثمين بلا توقف حيث تقدم ذبيحة العهد الجديد باكورة الخليقة الجديدة.
لقد قدم المسيح ذاته وقيل الآلام بفرح من أجل أن يؤسس لنا هذه المائدة “الإفخارستية” التي هى مائدة الحياة. وأعضاء الكنيسة المجاهدة هم في مسيرة الآم وأتعاب ودموع متجهين نحو القيامة المنتظرة والتمتع بحياة لا يسودها فساد، حياة روحية يجوزها العضو من الآن ويتذوقها، والتي من أجلها يصبر على الآلام الشديدة ويقبل كل شئ بفرح.
سر الافخارستيا إذن يغذي ويبنى ويعطى قوة في المسيرة نحو حياة الدهر الآتى. لكن سر الافخارستيا ليس مثل المعمودية يُقام مرة واحدة، بل يُقام باستمرار من أجل حياة العالم. فالشركة في هذا السر هو أمر له أهمية قصوى من أجل الكمال في المحبة المسيحية.
إن وحدة الكنيسة وحقيقتها هي في سر “الافخارستيا”، وكل الأمور الأخرى مرتبطة بهذا السر . يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [إن كل مرة يُقام فيها سر الافخارستيا يحدث تكرار لمائدة العشاء السرى].
الكنيسة هي حياة وحقيقة وصلاح تُستعلن وتتجلى في الشركة الحقيقية والكاملة بين أعضائها. وهذا قد ظهر بوضوح في كل مراحل التاريخ الكنيسي، فليس لدى الكنيسة تعاليم مجردة – كعقيدة – أو ممارسات سحرية معزولة عن الواقع. فالكنيسة لا تفهم بلا أحداث والأحداث لا تفهم بدون معنى ولهذا تحديدا فإن التعليم والممارسات الكنسية والشركة مع إله المحبة المحيي، يمكن أن يتحقق بواسطة الأسرار.
الكنيسة هي جسد حى وشركة حية، هي خادمة للجميع في إطار الليتورجيا الجماعية. وكما يوجد في الكون منظومة متكاملة وجماعية تدخل في إطارها كل التفاصيل الجزئية الأخرى، هكذا أيضا بالنسبة للكنيسة ، فلا يوجد في إطار الشركة مكان للأنا ولا للفردية. هناك منظومة جماعية تُسمى الشركة، وداخل هذه المنظومة نجد التنوع في المواهب. في هذا المناخ الكنسى تُستعلن الحقيقة والصلاح، والطريق إلى الكمال أيضًا، لأن الكمال يتحقق في الشركة. لم تعرف المسيحية في كل عصورها، ذلك المنهج القائم على الحياة الفردية، لأنها قائمة بالأساس على حياة الشركة، ولهذا فإن الاضطهاد أخذ هذا الطابع الوحشى والقاسى جدا، لأن المسيحية حوكمت آنذاك على أساس أنها مجتمع إنسانى أراد أن يُغير النظام السياسى بمفاهيم جديدة للحياة، بحسب ما رأى المضطهدون.
الإفخارستيا وحياة الشركة
الكنيسة هي ” جسد المسيح ” – بحسب تعبير الرسول بولس – فهي قائمة في حالة شركة دائمة، لأنها تستمر حيويتها وعطاءها من رأسها الجالس عن يمين الآب. فالعضوية في هذا الجسد الواحد ، لا تنحصر في المعني الدنيوي الذي يقوم على توزيع أعمال ومهام تحقق الانتماء لهذا الجسد، بل هي عضوية قائمة على أساس حياة المسيح فينا، فنحن توجد في الكنيسة لكي نكون في حالة شركة مع المسيح بالروح القدس. هناك تواصل دائم بين السماء والأرض، بين الرأس الجالس عن يمين الآب وبين الكنيسة التي هي جسده، والتي يتدفق، فيها دمه الغالي الثمين بلا توقف. حيث تقدم ذبيحة العهد الجديد، ذبيحة الخبز والخمر، باكورة الخليقة الجديدة التي باستدعاء الروح القدس تتحول إلى جسد ودم المسيح فينال المتناولون منها مغفرة الخطايا والحياة الأبدية. ولهذا سميت هذه الذبيحة التي للعهد الجديد بسر الإفخارستيا لأن الكنيسة تعبر عن شكرها وامتنانها لعطية الله الفائقة فهي تُظهر عمل الله الفائق نحونا، وعناية الله غير المحدودة نحو العالم.
يقول نيقولا كاباسيلاس (من آباء الكنيسة اليونانية في القرن ١٤): ” إن سر الإفخارستيا هو عطية الله التامة والكاملة، لكل البشر، ومن خلال الشركة في هذا السر يصير المتفرقين في وحدة مع الله، لأنهم يوجدون في شركة حياة حقيقية وفرح حقيقي”
ويشير القديس غريغوريوس اللاهوتي إلى أن [ الإقبال على سر الإفخارستيا والشركة فيه على نحو منتظم، هو أمر هام وضروري للكمال في الحياة المسيحية. لأنه بواسطة التناول من جسد المسيح ودمه، ترتبط حياة المؤمنين بحياة المسيح . وعدم الشركة في هذا السر يؤدي إلى تأثيرات سلبية وضارة على الحياة الروحية. لأن تنازل الله نحو الإنسان في هذا السر العظيم، يتطلب أيضًا ارتفاع الإنسان نحو الله].
هذا لا يعني بطبيعة الحال، أن الشركة في سر الإفخارستيا يتطلب استحقاق معين فلا يوجد أحد مستحق لهذا السر الاستحقاق يأتي فقط من خلال نعمة الله ، ثم الاستجابة لهذه النعمة الغنية. ولذلك فإن سر الإفخارستيا كما يقول نيقولا كاباسيلاس: [هو نور لمن تنقي، ونقاوة لمن هم فى احتياج لتنقية، وسند للمجاهدين ضد الخطية وضد الشهوات]. ولن ينال الإنسان حياة حقيقية، إلا من خلال ثباته في شخص المسيح الواهب حياة للجميع.
يقول القديس ايريناؤس [ كمثل النسمة للمخلوق التي تجعل الأعضاء قادرة على الحياة، هكذا الكنيسة، لأن مذخر فيها الشركة مع المسيح].
هكذا قال المسيح له المجد : ” إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليست لكم حياة فيكم ” ( يو ٦ :٥٣ ). ثم يؤكد على هذه الحقيقة موجها حديثه لليهود : ” من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير ” ثم يقول ” من يأكلني يحيا بي” (يو ٦: ٥٧،٥٤).
وعندما أتين المريمات فجر الأحد ليطلبن جسد يسوع قال لهن الملاك ” لماذا تطلبن الحي بين الأموات” ( لو ٢٤: ٥). هذا أيضا ما يشير إليه القداس الباسيلي قائلاً : ” … والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس هدمته بالظهور المحيي الذى لابنك الوحيد الجنس ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح”
وفي الاعتراف الأخير يؤكد الأب الكاهن على هذه الحقيقة الخاصة بجسد المسيح المحيي قائلاً ” أؤمن أؤمن أؤمن واعترف إلى النفس الأخير أن هذا هو الجسد المحيي الذي أخذه ربنا ومخلصنا يسوع المسيح من سيدتنا وملكتنا كلنا.. يُعطى عنا خلاصاً وغفرانا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه .. والقديس يوحنا الإنجيلي في رسالته الأولي يشرح كشاهد رأى بنفسه وتذوق معنى الحياة الحقيقية التى أعطاها الله للبشر وأن هذه الحياة هى في ابنه. قائلاً: ” إن الله أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هى في ابنه. ومن له الابن فله الحياة ومن ليس له ابن الله فليست لح الحياة ” (١يو١١:٥).
إذن بدون الثبات في المسيح تصير الكنيسة مجموعة أفراد ، وليست مجموعة أشخاص أحياء لهم مواهب متنوعة تصب في النهاية في جسد واحد ، له صفة الحياة، لأنه جسد المسيح. الكنيسة هي جسد المسيح وليست جسد المسيحيين فتعبير جسد المسيح يُعبر عن الطريقة التي تجتمع بها الكنيسة، فهي تجتمع حول شخص المسيح الواهب حياة للجميع.
دور الكنيسة إذن هو أن تكشف طبيعة ومحتوى الحياة الجديدة في المسيح والمسيح وحد نفسه مع كل من له احتياج ” كنت جوعانا فأطعمتموني عطشانا فسقيتموني عريانا فكستموني. مريضا فزرتموني. محبوسًا فأتيتم إلى… بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” (مت ٢٥ : ٣٥-٤٠).
هذا هو محتوى الحياة الجديدة، إنها حياة قائمة ومؤسسة على الحب وهذا ما حمل الرسول بولس على القول: ” إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاسا يطن أو صنجًا يرن. وإن كل لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم. وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئًا. وإن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى احترق ولكن ليست لي محبة فلا انتفع شيئًا ” ( ١ كو ١٣ : ١-١٣). ولذلك قال اللاهوتي الروسى خومياكوف : ” إن الكنيسة محبة تجسدت في جماعة”
لقد ارتبط سر الإفخارستيا بالمحبة ارتباطًا فائق الوصف، كما عبر عنه القديس يوحنا الإنجيلي حين جاء وقت العشاء الأخير قائلاً “إن كان قد أحب خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهي” (يو ١:١٣). في هذا العشاء، كشف المسيح نفسه لتلاميذه وللكنيسة كلها، نفسه التي أحبت إلى المنتهى هذا الحب حققه المسيح بتقديم ذاته ذبيحة من أجل حياة العالم.
هكذا أصبحت الإفخارستيا والمحبة سرًا واحدا لا يستطيع أحد أن يدرك الواحد بدون الآخر. ولذلك كل من يريد أن يأكل من الجسد ويشرب من الدم ينبغي عليه أن يحيا المحبة الحقيقية حتى يقبل في حياته سر الجسد المكسور والدم المسفوك . ومن أجل هذا عند ممارسة طقس سر الإفخارستيا ، لا يُقدم الكاهن على تقديس الأسرار إلا بعد نداء الشماس بأداء القبلة المقدسة حتى يطمئن إلى وحدانية القلب التى للمحبة. ثم يبدأ في تقديس الأسرار على هذا الأساس. إن الحب هو الأساس الذي تأسست عليه الإفخارستيا فلو لم يحب المسيح خاصته التى في العالم ويحبهم إلى المنتهى، لما وُجدت الإفخارستيا.
ولذلك فكل من يتناول من الأسرار المقدسة عليه التزام نحو محبة القريب والسعي نحو خدمته وتغطية احتياجاته القديس يوحنا ذهبي الفم يتكلم عن [مذبحين واحد نعرفه كلنا ونكرمه وهذا هو المذبح الموجود داخل الكنيسة، لكن هناك مذبح آخر نحن نجهله ونحتقره ولا نلاحظه ولكننا نستطيع أن نقدم على هذا المذبح ذبائح كل يوم، المذبح الآخر، هم الفقراء والذين هم في ضيقة].
إذن فالثبات في المسيح هو فقط الذي يجعل الإنسان يدرك محتوى الحياة الحقيقية لأن المسيح هو مصدر الحياة ومعطي الحياة. هذا ما أعلنه للسامرية، قائلاً : ” لو كنت تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حيا ” (يو ١٠:٤ ) . ومن هنا تأتي أهمية التناول من جسد الرب ودمه، فالكنيسة كلها يجب أن تشترك في هذه الوليمة السمائية. هكذا يقول القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد في دفاعه، والذي يشير فيه إلى اشتراك الجميع في التناول من الجسد والدم [في هذا اليوم الذي يُدعى الأحد، يجتمع كل الذين يعيشون في المدن والقرى في مكان واحد وتبدأ الليتورجيا بقراءات من الأناجيل القانونية، وكانت تسمى مذكرات الرسل، أو من كتب الأنبياء، على قدر ما يسمح به الوقت، ثم نقف جميعا ونرفع صلواتنا من أجل المسيحيين ومن أجل البشر في العالم أجمع. وعندما ننتهي من الصلوات، يُقبل كل منا الآخر بقبلة السلام. ثم يصلي الكاهن صلاة التقديس على الخبز والخمر، ثم يتقدم الجميع ويتناولون من الجسد والدم ونرسل للغائبين أيضًا مع الشمامسة].
ولذلك فالقانون الثاني من قوانين الرسل القديسين يعتبر [ان الذين يحضرون إلى الكنيسة ويستمعون إلى قراءات الكتاب المقدس.. ولا يتناولون من الأسرار المقدسة، فإن مثل هؤلاء يُعزلون عن الكنيسة إلى أن يعترفوا ويُظهرون ثمار تليق بالتوبة]. ذلك لأن الاشتراك في سر الإفخارستيا هو ضرورة ملحة لحياة الشركة، أو أن حياة الشركة لا تتحقق إلا من خلال سر الإفخارستيا. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم وهو بصدد الحديث عن احتفالات الشهداء : [ إن احتفالات الشهداء يستحيل أن تكتمل، إن لم تشترك الكنيسة كلها في التناول من جسد الرب ودمه ].
هذا هو جوهر الحياة الكنسية أن المؤمنين يشتركون جميعًا في التناول من الأسرار المقدسة المحيية يؤكد القديس ايريناؤس على هذه الحقيقية قائلاً : [ إن أجسادنا بسبب إشتراكها في القرابين، لم تعد تبقى في الفساد، إذ لها رجاء القيامة الأبدية . فالإفخارستيا هي ” دواء للخلود ” كما يقول الآباء. ويتحدث القديس كيرلس الأسكندري عن الإفخارستيا فيصفها بأنها : [ تحقق أسمى نموذج للاتحاد مع المسيح. لأنها تحقق الشركة في حياة الكلمة المتجسد، ليس على مستوى روحي فقط، بل أيضا على مستوى جسدي].
كل هذا يؤكد على أهمية الثبات في المسيح من أجل تحقيق حياة الشركة. التناول من الأسرار المقدسة يحقق هذا الثبات، وعليه تتحقق الوحدة بين المؤمنين يتساءل القديس يوحنا ذهبي الفم: [ماذا يحدث للمتناولين ؟ يقول : إنهم يصيرون جسد المسيح، جسد واحد وليس أجساد كثيرة مثلما أن الخبز الواحد يُصنع من حبوب كثيرة ومتفرقة، إلا أنها لا تظهر بعد كحبوب، وتختفي الفروق الظاهرية فيما بينها . هكذا يكون أعضاء جسد المسيح الواحد].
عندما تتحقق هذه الوحدة من خلال سر الإفخارستيا ، يصير على الكنيسة دور تجاه العالم، وهو إعلان المحبة وتجسيدها كحياة.
إذن فالمحبة هي السبيل الوحيد لإنقاذ العالم من عبودية الفساد والخطية والموت. الثبات في شخص المسيح هو الطريق الوحيد الذي يقود إلى محبة نقية وشركة صحيحة، كما أكد رب المجد نفسه أن “الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة. كذلك أنتم أيضا إن لم تثبتوا في” ( يو ٤:١٥ ) . ثم يضيف قائلاً : ” بدوني” (يو٤:١٥). “لا تقدروا أن تفعلوا شيئًا ” (يو ٥:١٥ ) .
هكذا كان المسيح له المجد يُعلّم تلاميذه كيفية السلوك بالمحبة، لكنها محبة تجاوزت الحدود الضيقة لمفهوم القريب بحسب ما جاء في (لا ۱۹: ۱۸) ” تحب قريبك كنفسك ” . فقد قال لتلاميذه:
وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضا، كما أحببتكم أنا. تحبون أنتم أيضا بعضكم بعضًا. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبًا بعضكم نحو بعض” (يو ٣٥.٣٤:١٣). النص اليوناني هنا يختلف عن الصياغة العربية النص اليوناني يصير هكذا : ” أنا أعطيكم وصية جديدة ، لكي تحبوا بعضكم بعض، فالمعنى أن هناك عطية جديدة، هي حياة المسيح نفسه المنسكبة فينا بالروح القدس. لم تعد المحبة واجب يفرض على الإنسان من الخارج، بل هي فاعلية تسري داخل النفس، تدفع الإنسان نحو العطاء التلقائي وبذل الذات. أي أن المحبة هنا لم تعد تخضع لفروض أو تقنينات.
الظروف التي أحاطت بإعطاء المسيح هذه الوصية الجديدة، هي تأسيس سر الإفخارستيا بتقديم جسده ودمه لتتميم ذبيحة الصليب طوعاً واختيارًا . هذا هو أساس العهد الجديد ” هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين” ( مر ٢٤:١٤). إذن فالمحبة لن تأخذ قوتها الإيمانية، إلا بوجود المسيح ” ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم وأنتم متأسسون ومتأصلون في المحبة ” (أف ۱۷:۳-۱۸).
هكذا يتضح لنا أن هناك ارتباط قوي بين الاتحاد بالمسيح وفاعلية المحبة في قلب الإنسان. ولذلك بعد أن تناول التلاميذ من الجسد والدم واللذان يمثلان الحضور الإلهي أعطي المسيح الوصية الجديدة. ومن أجل هذا نجد أن القديس يوحنا الإنجيلي، قد أخذ هذه الحقيقة وجعلها معيارا للحياة الحقيقية ” نحن نعلم إننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الاخوة” ( ١ يو ١٤:٣ ) . هنا يكمن المعني الحقيقي والقيمة الحقيقية للمحبة أنها تقود إلى الحياة. هذه هي محبة المسيح التي تُجمع وتوحد ” ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا” (يو ۲۱:۱۷). فالقياس في ممارسة المحبة، هو شخص المسيح الذي نادى بالمحبة للجميع بلا قيد ولا شرط ” سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم احبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم احسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات” (مت ٤٥:٤٣) . هذا ما صنعه المسيح له المجد وتممه على أكمل وجه طوال فترة حياته على الأرض حتى أنه على الصليب وهو في شدة آلامه غير المحتملة، نجده يطلب مغفرة للذين عذبوه وصلبوه وتهكموا عليه المحبة الصادقة إذن هي التي تجعل الإنسان ينمو في كل شئ حتى يصل إلى مستوى المحبة في المسيح صادقين في المحبة تنمو في كل شئ إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح” (أف ٤ : ١٥).
إذن الذي يجعل هذه المحبة تثبت وتنمو هو الاشتراك في سر الإفخارستيا. التناول من الأسرار المقدسة، ينمّي الشركة، لأن الأساس في التقدم إلى التناول من الجسد والدم، هو شهوة الاتحاد
بالمسيح، وهذا الاتحاد يقود بالضرورة إلى شركة حقيقية وإلى محبة حقيقية، هذا ما أكد عليه الأب سيرافيم ساروفسكي الذي لم يكف عن تشجيع المؤمنين على الإكثار من التناول، حاثًا الكهنة أن يسهلوا لهم أخذ الأسرار، قائلاً : [عظيمة هي النعمة المأخوذة عن طريق الأسرار المقدسة لأن لها قوة أن تنقي وتجدد كل إنسان حتى ولو كانت خطيته عظيمة ] .
إن محبة المسيح المنسكبة داخل الإنسان هي بالحقيقة إبيفانيا (حضور) إلهية، لأنها تُعبّر عن استعلان الكلمة داخل النفس، وتقود إلى شركة في الطبيعة الإلهية ” الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضا شركة معنا أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح ( ١ يو٣:١) ، هذا ما يقوله القديس ايريناؤس [كيف يمكن أن نصير أبناء، إن لم يكن الابن قد أعطانا شركة مع الآب، وإن لم يكن قد اتحد بنا ، إذ صار جسدا. فهو لهذا السبب قد أتي.. ليصير الكل نحو الشركة مع الله].
التناول من الأسرار الإلهية إذن يحقق الشركة في الطبيعة الإلهية، وأيضا تحقيق الشركة بين المؤمنين بعضهم البعض. يؤكد القداس الكيرلسي، من خلال صلاة الخضوع التي تُقال قبل التناول، على ضرورة التناول من الأسرار الإلهية من أجل تأصيل حياة الشركة بين المؤمنين، إذ تقول : ” كل فكر رديء فليبعد عنا من اجل الذي صعد إلى السموات، لكي هكذا بطهارة نتناول من هذه الأسرار النقية ونتطهر كلنا. كاملين في أنفسنا وأجسادنا وأرواحنا إذ نصير شركاء في الجسد وشركاء في الشكل وشركاء في خلافة مسيحك.
هكذا فإن التناول من الأسرار المقدسة يجعلنا شركاء في الجسد، وفي الشكل، وفي السلوك المماثل لسلوك المسيح، أي السلوك بمحبة نحو جميع الناس ” من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك يسلك هو أيضًا” ( ١ يو ٢ : ٦ ) . وهكذا أيضًا نشأ في الغرب تعبير فيلادلفيا أي محبة الاخوة، وهو تعبير مساوي لمصطلح أغابي، والذي انتشر في الشرق، حيث يجتمع الجميع في حضرة الله للصلاة والشركة. هذا هو جوهر الحياة الجديدة في المسيح، أي الشركة القائمة على المحبة والحب غير المرتبط بردود الأفعال ” اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضا وأسلم نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة الله رائحة طيبة ” (أف٢:٥).