البابا بطرس الثالث
البطريرك السابع والعشرون
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(٤٧٢ – ٤٨١ م . ش حسب التقويم اليولياني السائد آنذاك)
اختيار القس العابد الله بطرس بطريركاً:
كان في الإسكندرية شماس (دياكون) اسمه “بطرس” مرسوم بيد البابا القديس ديوسقوروس. ثم سامه قساً وصيره تلميذاً له، وربما كان أحد الذين رافقوه إلى المنفى بعد مجمع خلقيدونية. وبعد نياحة البابا تيموثاوس الثاني عام ٤٧٢ بالتقويم اليولياني الذي كان سائداً آنذاك، أجمع الشعب الإسكندري على اختيار بطرس ليكون أسقفاً على المدينة العظمى الإسكندرية ورئيس أساقفة الكرازة المرقسية. وما لابد أن نعرفه هو أن أسقف الإسكندرية كان يختاره الشعب بالتوافق مع الإكليروس، لكي يرعى ويحفظ إيمان الرسل المسلم مرة من الرسل القديسين ومنهم إلى الكنائس وشعوبهم في كل صقع ومكان في ربوع الكرازة المرقسية. لذلك فقد اختار شعب الكنيسة هذا القس العابد لله، لقربه من البابا المجاهد ديوسقوروس، ولتشبعه بتعاليمه مما يعطيه القدرة على أن يحفظ إيمان الكنيسة ويشهد له في تلك الحقبة الخطرة التي كانت تمر بها المسيحية في الشرق، حيث امتلأت بالمنازعات المذهبية والعقائدية وسادها تدخل الأباطرة البيزنطيين (في القسطنطينية) في شئون الكنائس وفي إرادة شعوبها في اختيار المؤتمنين على الإيمان الأرثوذكسي.
ومنذ اللحظات الأولى لرسامته، أعلن البابا بطرس الثالث إيمانه الأرثوذكسي الذي أصبح حارساً عليه بموجب ثقة وتكليف الشعب. وهكذا بدأ حبريته بعقد مجمع من أساقفته ليعلنوا تجديد الحرم على منشور (طومس) لاون البابا الروماني الذي أصدره مجمع خلقيدونية عام ٤٥١م، والذي أثار عاصفة من الاحتجاج بين كنائس الشرق.
أحداث سياسية، ونفي البابا بطرس الثالث:
وفي تلك الأثناء حدثت أحداث سياسية حاسمة، إذ أن عرش القسطنطينية كان مثار نزاع بين زينون صهر الإمبراطور السابق لاون وبين الإمبراطور باسيليسكوس؛ انتهى بانتصار زينون وإقامته إمبراطوراً في العاصمة الشرقية القسطنطينية (من ٤٧٤ – ٤٩١م).
ولما كان زينون مشايعاً لمجمع خلقيدونية بكل جوارحه، فقد استثير من جرأة الإسكندريين بعقدهم مجمعاً لتجديد حرم منشور لاون واعتبره تحدياً لسلطته الإمبراطورية الجديدة، فأصدر أمره بنفي البابا بطرس الثالث وبفرض بطريرك دخيل اسمه جورجيوس.
وبإزاء الاعتداءات المتكررة من أباطرة القسطنطينية، رأى المصريون أن يبذلوا جهوداً جريئة لانتزاع حقهم في إدارة كنيستهم دون تدخل من السلطة السياسية. لذلك سافر وفد منهم إلى مقر الإمبراطور بالقسطنطينية وتمكنوا من مقابلته وطالبوه باحترام حق المصريين في انتخاب باباهم وفي استقلال كنيستهم عن تدخل السلطة السياسية والحكام المدنيين. وكان يرأس هذا الوفد كاهن اسمه يوحنا طلايا. هذا تسبب في أن يتمنع الإمبراطور في الاستجابة لمطالب المصريين لما لاحظه في هذا الكاهن من نية في استرضاء الإمبراطور طمعاً في أن يُعيّن بابا للكنيسة مناوئاً للبطريرك الشرعي بطرس الثالث الذي كان منفياً. ولم يتردَّد يوحنا في أن يُقسم أمام الإمبراطور بأنه لن يسعى إلى هذا المنصب أبداً ! حينئذ رَضِيَ الإمبراطور زينون أن يحترم شعور المصريين القومي تجاه كنيستهم وأعطاهم مطلبهم هذا. لكن يوحنا طلايا هذا كانت له قصة أخرى بعد ذلك تزيد من آلام الكنيسة وعثراتها أمام العالم.
من هو يوحنا طلايا هذا؟
كان يوحنا راهباً في دير طبانسين في كانوبي بالقرب من الإسكندرية، وانتدب رئيساً للكنيسة الكاتدرائية بالإسكندرية. وبعد أن مات البطريرك الدخيل في عصر البابا السابق تيموثاوس – وكان اسمه تيموثاوس أيضاً ولكن كان يُقرن باسمه لقبه “سولوفاتشيولي” (لابس العمامة البيضاء) – سنة ٤٨٢م، استطاع يوحنا طلايا هذا بحيلة أن يُنصب كبطريرك دخيل للإسكندرية، لكنه قوبل برفض الشعب القبطي له؛ كما لم يستطع كسب ثقة بطريرك القسطنطينية أكاكيوس الذي رفضه وأقنع الإمبراطور زينون بطرده وبالاعتراف بالبابا بطرس الثالث وإعادته من منفاه إلى كرسيه. وبعد موت الإمبراطور زينون سنة ٤٩٢م حاول يوحنا طلايا هذا استرضاء الإمبراطور الجديد أنسطاسيوس الذي سبق أن أغاثه يوحنا في الإسكندرية حين ارتطمت سفينته الإمبراطورية أمام شواطئ الإسكندرية، وأظهر له لطفاً كبيراً، لكنه خاف من أن لا يأبه لطلبه، فسافر إلى القسطنطينية وطلب مقابلة الإمبراطور. فحالما سمع الإمبراطور بوجود يوحنا في القسطنطينية أمر بنفيه فهرب يوحنا إلى روما حيث احتضنه أسقفها فيلكس، وباءت كل محاولاته للعودة إلى الإسكندرية بالفشل. وقد حاول بعض مشايعيه أن يعوّضوه عن فشله هذا، فأوكلوا إليه كرسي أسقفية مدينة نولا في كامبانيا، فذهب إلى هناك حيث مات بعد سنين قليلة.
ولعل في شخصية هذا الرجل الذي حنث بقسمه وعهوده أمام الإمبراطور زينون بأنه لن يطمع في كرسي الإسكندرية، ما جعل حتى الأباطرة المناصرين لمجمع خلقيدونية أن يشيحوا بوجههم عنه ولا يؤيدوه في مسعاه أن يكون بطريركاً دخيلاً لمناوأة البطريرك الأرثوذكسي بطرس الثالث. وهذا النوع من الشخصيات سيظهر على مسرح التاريخ بعد قليل في شخص من يُدعى “المقوقس“، وسيكون له دور مؤسف أثناء الغزو العربي لمصر بعد ذلك بحوالي المائة عام!
جهاد البابا بطرس بعد رجوعه من المنفى
نعود إلى سيرة البابا بطرس الذي – كما ذكرنا في الفصل السابق – تصالح مع بطريرك القسطنطينية من خلال المراسلات الحبية الصريحة. وكانا كلاهما متواضعين بلا اعتداد أو عنصرية دينية بغيضة، فاستطاعا أن يتقابلا معاً في صيغة منشور الهينوتيكون وكادا أن يشفيا جروح الانقسام ويُجنّبا الكنيسة شر انقسام سوف يظهر أثره – للأسف فيما بعد حيث تزعزعت أركان الكنيسة كلها في الشرق بعد أقل من مائة عام !
أما سبب عدم صمود هذا المشروع الوحدوي، فهو أن بعض أساقفة ورهبان كنيستي الإسكندرية والقسطنطينية لم يرضيا عن هذه الصيغة التي لم تُرضِ مفاهيمهم عن الأرثوذكسية، بعد أن بدأت تدخل في قوالب من الألفاظ والتعبيرات الصماء بمعزل عن المضمون اللاهوتي، وتنحو نحو الشك في نيات كل طرف تجاه الأطراف الأخرى. وزاد من حدة هذه التضادات أن رفض أسقف روما فيلكس الثاني الذي (احتضن يوحنا طلايا المنفي بأمر الإمبراطور) منشور الهينوتيكون، وكذلك رفض بعض أساقفة الكنيسة القبطية منشور الهينوتيكون (كما يذكر المؤرخ إيفاجريوس) الذين اشتكوا أيضاً ضد بطريركهم البابا بطرس. كما أرسل أسقف روما أسقفين إلى القسطنطينية ليعلن جحده للبابا بطرس، وليستدعي البطريرك الأنطاكي أكاكيوس إلى روما ليحاكم البابا بطرس هناك ! لكن الأسقفين خافا من تبليغ هذه الرسالة القاسية وعادا إلى روما برسائل من الإمبراطور زينون والبطريرك القسطنطيني يؤكدان على أرثوذكسية البابا بطرس الثالث. فوبخهما أسقف روما على ضعفهما وعقد مجمعاً عزلهما فيه من وظيفتيهما واتهم فيه البابا بطرس بالأوطاخية (لاحظ أن المعاملات بين الأساقفة بدأت تتسم بالاتهام بالهرطقة من طرف واحد).
نياحة البابا بطرس الثالث:
وتنيح البابا بطرس الثالث في آخر أكتوبر سنة ٤٨١م.ش، تاركاً وراءه كتابات كثيرة. ويقول کتاب “تاريخ البطاركة” لابن المقفع إن جميع رسائله محفوظة في دير أنبا مقار ومن بينها رسالة إلى الإمبراطور زينون والرد عليها. ولكن يبدو أن هذه الرسائل سرقت فيما بعد ضمن ما سرق من هذا الدير من مخطوطات في أجيال الضعف والجهل ما قبل القرن الثامن عشر ! ولكن هيئة الآثار الفرنسية عثرت على نسخة من هذه المراسلات في دير الأنبا شنودة بسوهاج باللغة القبطية، فترجمتها إلى اللغة الفرنسية عام ۱۸۸۸م وطبعتها. وقام الأنبا إيسيذوروس بترجمتها إلى اللغة العربية عام ١٨٨٩ ونشرها في كتابه: “الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة – الجزء الأول.