البابا بطرس السادس
البطريرك رقم ١٠٤
1- عائلته وموطنه وتربيته
كان هذا الآب من أبوين مسيحيين طاهرين من مدينة أسيوط، إعتنيا بتربيته بكل أدب وعلم، وكان اسمه مرجان ونعمة الرب كانت حالة عليه منذ صغره وكان شاعراً فى نفسه بما سيكون من أمره (ذيل التواريخ لابن الراهب ص ٢٤٦ ” أ ” وسنكسار دير أنطونيوس رقم ٣٤٣ طقس ص ٢٦ وكتاب ٣٨٩ طقس بمكتبة هذا الدير).
رهبنته في دير القديس أنطونيوس
لما بلغ حد القامة زهد العالم وكل ما فيه، من تأثير الشعور الذي كان مؤثراً عليه وشغفه إلى سيرة الرهبنة، فمضى لتحقيق أمنيته إلى دير القديس العظيم أنطونيوس بدير العربة فقبلوه ضمن رهبانه، فمكث فيه مدة تحت الاختبار ولما أظهر حسن استعداده وتفانيه في العبادة ألبسوه الشكل الملائكي وأصبح من أنشط الرهبان في النسك والعبادة حتى صار يجهد نفسه في إقامة الصلوات ودراسة الكتاب والالمام بما وضعه الأباء من الكتب التفسيرية والروحية واستمر مداوماً على هذا النظام حتى نجح في عبادته وحاز السبق في ممارسة الفضائل النسكية فاختاره المجمع الرهباني بالدير لترقيته إلى رتبة القسيسية لما لمسوه فيه من الصلاح والورع وروح الاتضاع (ذيل ابن الراهب ص ٢٤٦ وسنكسار رقم ٣٤٣ ص ٢٦).
رسامته قسا ورئيسا لدير القديس بولا
فقدم الراهب مرجان إلى القاهرة فرسمه البابا يوأنس هو وجملة من الكهنة الآخرين قساً في بيعة السيدة العذراء مريم والدة الإله بحارة الروم.
ثم بعد تعمير دير أنبا بولا بالعربة أقامه هذا البابا القديس رئيساً علــى هـذا الدير وظل به إلى أن تنيح البابا يوأنس السادس عشر في ١٠ بؤونة سنة ١٤٣٤ش.
فإزداد بعد هذه الترقية فضلا وعلماً ونسكاً وورعاً حتى شاع ذكره بين الناس (نيل ابن الراهب ص ٢٤٦ وكتاب ۱۵ تاريخ ص ۳۰۲ “أ”).
اختياره للبطريركية
وبعد نياحة البابا يوأنس السادس عشر لم يتوجه أحد من الأراخنة إلى الديارات بل إرادة الله تعالى دلتهم على هذا الأب مرجان وكان المجتهد في ذلك الارخن الكبير المعلم لطف الله أبو يوسف الذى كان متزوجاً بنت أخى البابا يوأنس المتنيح.
فاجتمع مجمع الأساقفة بحضور حضرات الأراخنة الشعب واختاروا الأب مرجان مع بعض الكهنة وقرروا عمل قرعة هيكلية بينهم وسجلوا اسماءهم فى قصاصات من الورق ووضعوها على المذبح المقدس وأقاموا القداسات عليها مدة ثلاثة أيام وفى اليوم الثالث بعد إنتهاء القداس صلوا متضرعين الله سبحانه وتعالى أن يقيم لهم المختار من عنده ليكون رئيساً لبيعته المرقسية المقدسة ثم اختاروا احدى الورقات فطلعت باسمه وتحققوا بذلك أن الله اختاره ليكون البطريرك المنتظر (كتاب ٣٤٣ طقس بمكتبة دير أنطونيوس ص ٢٦ وكتاب ١٥ تاريخ ص ١٣٠٢ و ٣٠٣).
رسامة البابا بطرس السادس البطريرك ١٠٤
وبعد ظهور نتيجة الاقتراع باسم القس مرجان رئيس دير أنبا بولا أرسل الأرخن الكبير المعلم لطف الله المذكور إلى قائمقام ناحية بوش لارساله إلى مصر فقبض القائمقام عليه وأرسله مقيداً في الحديد. فلما وصل أخذوه إلى بيعة القديس مرقوريوس أبى سيفين وفى يوم السبت مساء الموافق ١٦ مسرى سنة ١٤٣٤ش أى يوم عيد فطر صيام العذراء القديسة الطاهرة ألبسوه إسكيم الرئاسة باحتفال عظيم. وفي صبيحة يوم الأحد ۱۷ مسرى الموافق ۲۱ أغسطس سنة ١٧١٨م احتفلوا في البيعة البادى ذكرها بإقامته بطريركاً على كرسى الكرازة المرقسية باسم البابا بطرس السادس البطريرك ١٠٤ في أيام السلطان أحمد الثالث العثماني بعد أن ظل الكرسي خاليا مدة شهرين وستة أيام. وكان الفرح به في هذا اليوم المبارك فاق الحدود إذ شمل جميع الطبقات. وقد اشترك في هذا الاحتفال الجليل جماعات كثيرة من كبار الاراخنة وعلى رأسهم المعلم لطف الله الارخن العظيم كما حضره الكثيرون من الافرنج والروم والارمن وطايفة من العساكر. ومما زاد هذا الاحتفال بهجة وقوعه في يوم الاحتفال بجبر بحر النيل (ذيل ابن الراهب ص ٢٤٧أ وكتاب ١٥ تاريخ ص ۳۰۲ وسنسكار دير أنطونيوس رقم ٢٤٣ ص ٢٦ ورقم ٢٨٦طقس).
زيارة البابا بطرس للوجه البحرى
بعد الاحتفال بالرسامة المباركة والانتهاء من زيارة أكابر الأمة المصرية وأعيان الجاليات الاجنبية والطوايف الأخرى أقام في اثنائها مدة جمعة زمان ثم حضر إلى القلاية البطريركية مقر إقامته الرسمية بحارة الروم على جارى العادة (كتاب ۱۵ تاریخ ص ۳۰۳).
وبعد ذلك بزمن يسير قام هذا البابا بزيارة الوجه البحرى وافتقد كنائسه وبارك شعبه ثم اضطر إلى تأجيل زيارة الثغر الإسكندري للظروف التي طرأت في مصر (كتاب ١٥ تاريخ ص۳۰۳).
قيام الفتنة فى مصر
وعندما كان البابا بطرس عازما على زيارة ضريح القديس مرقس كـــــــاروز الديار المصرية بالثغر الإسكندرى حصلت فتنة في مصر بين السنجق إسماعيل بك بن ايواز والسنجق محمد جوكس. فرجع البابا إلى مصر وأجل زيارته للإسكندرية إلى فرصة أخرى فى تلك السنة (كتاب ١٥ تاريخ ص ۳۰۳).
اضطهاد المعلم لطف الله وقتله
وقد كان المتولى على مصر يومئذ الوالى رجب باشا فسعى إليه جماعة بأن وشوا في حق المعلم لطف الله ناسبين إليه بأنه عمر بيعة الملاك ميخائيل القبلي بمصر القديمة وبيعة الشهيد مارمينا بفم الخليج بمصر. وفي الحقيقة أنه عمرها من ماله وجعلهما فى حالة أحسن مما كانتا عليه فى الأول. لأن بيعة مارمينا كـــان يصعب الدخول فيها من باب الخورس بالنهار إلا على ضوء فتيلة. فقام المعلم لطف الله بتعميرها وجعلها كنيسة عظيمة نيرة وبنى فيها قلالي للفقراء وغيرهم. فأوقع رجب باشا الوالى الطلب على المعلم لطف الله ولكن جماعة من أكــــابر الدولة الذين يحبون هذا المعلم تمكنوا من تطييب خاطر الوالى المذكور بنحو أربعين كيساً قام بدفعها من عنده من ماله الخاص ولم يأخذ من الأراخنة شيئاً وكذلك قام أيضاً بمصاريف حفلة إقامة البطريرك على الكرسى لأنه لم يكن فـــــــى زمانه من يعادله ثروة وجاهاً وطيبة القلب والتمسك بالدين. إلا أن الشيطان خواه الله أثار عليه من قتله وهو عايد إلى منزله في حصة الفطور في يوم الجمعة في شهر مسرى سنة ١٤٣٦ش نيح الله نفسه فقاموا بالاحتفال بجنازته وعمل له البابا بطرس ألف قداس باسمه (كتاب ١٥ تاريخ ص ٣٠٣).
زيارة البابا للثغر الإسكندري
ثم بعد أن هدأت الأحوال في عاصمة البلاد عزم البابا على إتمام زيارته للإسكندرية لتأدية فروض الشكر وواجب الزيارة والقيام بأخذ البركة من مؤسس الكرسى الإسكندرى القديس مرقس البشير الطاهر فبارح القاهرة في سنة ١٤٣٨ش في يوم الاثنين ۱۱ برمودة الموافق ۱۷ أبريل سنة ۱۷۲۲م قاصداً مدينة الرسول مرقس. ولما وصل إلى الثغر توجه مع حاشيته إلى المسلة حيث تقيم القلاية البطريركة والبيعة المرقسية الخالدة الذكر فزار البيعة المقدسة وقدم الشكر للعزة الربانية على توفيقه له فى تأدية هذه الزيارة ثم زار ضريح الرسول وتبارك منه ومكث بعد ذلك هناك مدة ستين يوما في فرح وسرور وبهجة وقدم قداسته إلى مكان الضريح قنديلا من الفضة ونحو عشرين أردب قمح وبعد التزود. بالبركات عزم على العودة إلى مصر فقام الأراخنة المباشرون بديوان الإسكندرية بجبر خاطره وتزويده بكل ما يلزمه أثناء رحلة العودة.
وفي أثناء إقامته بالثغر الإسكندرى قام بعمل حجاب من الخشب المخــــــــروط الكثير الثمن حول ضريح القديس مرقس وجعل فيه طاقات تدل على ما في داخله ثم وجه همته نحو عمل العمارة اللازمة لأبنية الكنيسة المرقسية (كتاب ١٥ تاريخ ص ٣٠٤ وكتاب ۲۹۱ لاهوت بالدار البطريركية “مكاتبات ابن لقلق”).
قيام البابا بطرس بإخفاء رأس القديس مرقس خشية سرقتها
ولما أراد الرجوع من الثغر الإسكندرى علم أن جماعات من أهل المدينة تكلموا على الرأس المقدسة فخشي عليها من السرقة وعمل على إخفائها في مكان أمين في الكنيسة وظلت محفوظة مع جملة رؤوس من البطاركة إلى وقتنا هذا داخل مقبرة البطاركة الموجودة في صحن الكنسية المرقسية. ثم مضى لإتمام زيارة باقى بلاد الوجه البحرى أثناء عودته إلى مصر (نيل ابن الراهب ص ٢٤٦أ وسنكسار دير أنطونيوس رقم ٣٤٣ ص٢٦).
زيارة البابا للوجه القبلى
ولما انتهى قداسة البابا من زيارة باقى البلاد البحرية والثغر الإسكندرى علا إلى مقر كرسيه في ٢٦ بؤونة سنة ١٤٣٨ش وبعد فترة الاستراحة واصل زيارته لإيبروشيات الوجه القبلى وفرح بقدومه عليهم أهل البلاد واحتفوا به إلى أن عـــــاد إلى القاهرة المحروسة (ذيل ابن الراهب ص ٢٤٦ وكتاب ۲۹۱ لاهوت بالدار البطريركية).
إرسال مطران للمملكة الحبشية
وفي عهد البابا بطرس السادس حضر إلى الدار البطريركية في سنة ١٦٦٧م وفد حبشى مكون من جماعة من الكهنة والشمامسة موفد من قبل ملك الحبشة يوحنا الأول ومعه هدايا فاخرة لقداسة البابا مع مرسوم ملكي بطلب رسامة مطران للمملكة الحبشية بدلا من المطران يوحنا المخلوع (شين ص ٢٦٩ وذيل ابن الراهب ص ٢٤٧أ وسنكسار رقم ٣٤٣ ص٢٦). فعقد البابا بطرس السادس مجمعاً من الأساقفة وكبار الأراخنة وعلى رأسهم الارخن لطف الله واستقر الرأى على اختيار أنبا خرسطوذولو اسقف القدس الشريف ليكون مطرانا على الحبشة فمسكوه ورسموه مطرانا وقد كان هذا المطران حبراً كاملا ومعلماً عالما وخادما عاملا فمضوا به فرحين مسرورين (ذيل ابن الراهب ص ٢٤٦ وسنكسار دير أنطونيوس رقم ٣٤٣ ص ٢٦) كما أقام أنبا أثناسيوس أسقفاً على كرسى أورشليم في مكانه.
أعماله مدة رئاسته
وقد كان هذا البابا مجداً في عمله ساهراً على رعيته مجداً في تعمير البيــــــع وبناء الكنائس وتكريزها ففى أيامه استراح الشعب بصلواته المقبولة عند الله حتـــى كانت أيامه هادئة وحل فيها السلام بدل الخصام (كتاب ١٥ تاريخ ص٣٠٤ وسنكسار دير أنطونيوس رقم ٣٤٣ ص٢٦).
المعلم مرقوريوس الشهير بديك أبيض
وكان في أيام البابا بطرس السادس أرخن من كبار أراخنة القبط اسمه المعلم مرقوريوس الشهير بديك أبيض وكان كاتبا للجوريجي إبراهيم الصابونجي عزبان الذي كان من أكابر أعيان مصر وكان المعلم المذكور ناظراً على كنيسة السيدة المعروفة بدير العدوية (بخط حلوان) وقد أعانته القدرة الإلهية بشفاعة القديسة الطاهرة العذراء مريم على القيام بعمل عمارة تامة لهذا الدير جعلته في أحسن حال مما كان عليه في الأول وقد قام البابا بناء على دعوة هذا الأرخن الجليل القدر بتكريز هذه الكنيسة (كتاب ١٥ تاريخ ص٣٠٤).
ولم يكتف بذلك بل كان يقوم بعمل الخير فى الكنايس ويساعد الفقراء في مدة حياته حتى نال رضاء البابا بطرس السادس عليه ونال الأجر والصواب من رب الأرباب.
ابطال الطلاق عملاً بالكتب المقدسة والقوانين الكنسية
ويسجل لهذا البابا قيامه بتنفيذ القوانين الكنسية والأوامر الإنجيلية فأبطل الطلاق من جملة أسباب ومضى فى ذلك إلى السنجق ابن ايواز و باحث علماء الاسلام فكتبوا له الفتاوى وأصدر الوزير الوالى فرمانا بأنه مقرر على قانون مذهبه وليس لأحد عليه معارضة وأصدر البابا بعد ذلك أمره إلى جميع الكهنة أن لا يعقدوا زواجا إلا على يده في قلايته بعدما اعترض عليه رجل ابن قسيس كان طلق إمرأته وتزوج غيرها بدون علمه فأمر البابا بإحضاره ليفصل بينهما فأبى ولم يحضر فحرمه هو وزوجته وأباه القمص فلم يلبث هذا الرجل المتزوج أن تهراً فمه وذاب لسانه ووقعت أسنانه ومات من تأثير غضب البابا وحرمه. وخاف أبوه القمص من أن يحل به ما حل بابنه فأتى إلى البابا واستغفر وبعد أن تزود بالحلّ البطريركى مات (ذيل ابن الراهب ص ٢٤٦ و ٢٤٧ وسنكسار ديـــر أنطونيوس رقم ٣٤٣ ص ٢٦).
أخلاق البابا بطرس السادس
وكان هذا البابا القديس وديع الأخلاق وسمح النفس بسيط المأكل والمشرب مثل سلفه الصالح البابا يوأنس السادس عشر وكان يقتدى به في جميـــــــع أعماله الخيرية والدينية كما كان كثير الرحمة والرأفة لأنه كان يتشبه بسلفه العظيم فـ كل تصرفاته وكان الشعب فى عصره يتخذه قدوة صالحة له فكانوا يتسابقون فى عمل الخير وقد امتاز عليهم في هذا المضمار الخيرى المعلم جرجس أبو شحاته الذي كان من ناحية ابنود بالصعيد وجاء وتوطن بمصر وكان رجلا أرملا تزوج بشقيقة المعلم لطف الله أبي يوسف فكان قوياً في تأدية الحسنات وصنع الخيرات مع الفقراء والكهنة وغيرهم وكان من كل ذلك ماله عند السناجق والاغوات بمصر ولما انتقل من هذا العالم وجدوا عليه ديون كثيرة نيح الله نفسه وأسكنه فـــــــردوس النعيم. وقد كانت نياحته في أيام انتشار الوباء بعد نياحة البابا بطرس (كتاب ١٥ تاريخ ص ١٣٠٤).
نياحة البابا بطرس السادس
ولما أكمل هذا البابا القديس سعيه على أحسن حال مرض مرضاً قليلاً وتنيح بسلام في يوم ٢٦ برمهات سنة ١٤٤٢ش الموافق ٢ أبريل ١٧٢٦م في أيام سلطنة أحمد الثالث العثماني بعد أن أقام على الكرسى البطريركى مدة سبع سنوات وسبعة أشهر واحدى عشر يوما وخلا الكرسى بعده مدة تسعة أشهر واحدى عشر يوما.
وقد احتفلت الأمة القبطية بجنازته احتفالاً مهيباً وقامت بدفنه فى المقبرة المخصصة للآباء البطاركة القديسين فى بيعة القديس العظيم مرقوريوس أبى سيفين بمصر القديمة.
شوطة الوباء بمصر عقب نياحة البابا
وقد جاء في كتاب رقم ٥٩٨ طقس بمكتبة دير أنطونيوس أنـــه فـــي سنـة ١٤٤٢ش التي تتيح فيها البابا بطرس السادس الملقب بالأسيوطى في أيام الصوم الكبير وقع على البلاد وباء شديد تنيح من جرائه أساقفة وقسوس كثيرون واشــــــد فتكه بالناس حتى خربت القرى والبلاد وهجرت الناس المزارع وتركت الزرع في الحقول حتى أصبح الموت عاما شاملا لبلاد القطر من شاطئ البحر الأبيض إلى أسوان فصاروا يدفنون الناس فى الحصر من قلة الأكفان. وفي تلك السنة تلفت زراعة القمح والحبوب فى وادى النيل وما سد إلا القليل وما جمع من الحبوب أخذه الدائنون من أصحابه، لطف الله بعباده.
وقد تأيدت هذه الحوادث بما جاء في كتاب رقم ١٥ تاريخ ص ٣٠٤أ حيث جاء فيه العبارة الآتية وكانت أيام نياحة البابا تشويطه في البلاد”.