البابا يوحنا الرابع
البطريرك الـ ٤٨
(٧٦٨-٧٩٠م)
الكرسي المرقسي يظل شاغراً لمدة ۱٥ شهراً
ظل الكرسي المرقسي شاغراً لمدة ۱٥ شهراً. ولعل السبب كان يكمن في التجربة السيئة التي حدثت بسبب الراهب بطرس الذي كان أول من أثار اضطرابات ضد الأساقفة والبابا منذ الغزو العربي، أي منذ أقل من المائتي سنة. أو لعل السبب هو الضعف الذي بدأ يصيب الأديرة والحياة الرهبانية من جراء توالي الاضطهادات العنيفة على بابوات وأساقفة الكنيسة طيلة العشرات من السنين الماضية، ما لم تستطع الكنيسة أن تتفاداه وتستمر في تربيتها للشعب المسيحي لتخرج منه رهباناً وخداماً يقومون بخدمة قطيع المسيح؛ الأمر الذي أفرز في النهاية مثل هذا الراهب بطرس.
ولكن كاتب سيرة البابا يوحنا الرابع لم يذكر السبب في تأخير اختيار البابا الجديد طيلة هذه المدة، لكنه اكتفى بالقول: “وبقيت البيعة أرملة بلا راع“.
البدء في اختيار البابا الجديد
ثم افتقد الرب رعيَّته الذين اشتراهم بدمه واجتمع الأساقفة إلى مدينة الإسكندرية، وتشاوروا كالمعتاد مع الأراخنة ومُقدَّمي الشعب، مُصلِّين إلى الرب لكي يُظهر لهم راعياً أميناً. وهكذا ذكروا أسماء كثيرة فأقاموا في هذا الوضع عدة أيام.
ويقول كاتب سيرة البابا يوحنا، ولأول مرة منذ كرازة القديس مرقس الرسول عام ٦٠ ميلادية، إنهم لجأوا إلى طريقة غريبة عن التقليد الرسولي الكنسي وهي: “القرعة”، وهي تتنافى مع استلهام الشعب والأساقفة لمشيئة الروح القدس في اختيارهم، كما كان يفعل الرسل بعد حلول الروح القدس (أع ١٥: ۲۹ ، ۱۳ : ۲، ۳)، وكذلك الآباء القديسون على مدى ٨ قرون وقد شرحها كاتب هذه السيرة بأنهم كانوا يكتبون أسماء كثيرة على ورق صغير، ويضعونها على الهيكل، ثم يُصلّي الأساقفة والكهنة والشعب الأرثوذكسي إلى الرب بنية خالصة ويصيحون “كيرياليسون، ثم يجعلون طفلاً لم يعرف خطيئة يمد يده ليأخذ ورقة من جملة الورق، فالذي يخرج اسمه يقدمونه إلى البطريركية. ومع استخدامهم لهذه الطريقة، إلا أنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يختاروا كل الأكفاء الذين يصلحون للكرسي الرسولي (وهذه إحدى عيوب هذه الطريقة، لأنها تستخدم طريقة غيبية، إذ يُحملون الله مسئولية الاختيار العشوائي لأناس ربما يكونون غير أكفاء لهذه الخدمة الخطيرة، وكأن الله – حسب تفكيرهم – مُلزَمٌ بالاختيار بهذه الطريقة التي يستخدمها عامة الناس والوثنيون (سفر يونان ١:١- ۱۰))
إلا أن السيرة تذكر أن شيخاً تقياً من كهنة الإسكندرية أتى إلى المجتمعين بالإسكندرية وسألهم: هل ذكرتم اسم الراهب القس يوحنا من دير القديس أنبا مقار، والذي كان تلميذاً للأنبا مينا البطريرك؟ ولم يكونوا قد ذكروه بل الرب هو الذي ذكره بذلك، فكتبوا اسمه، وصلوا، وأجرَوْا هذه القرعة الهيكلية ثلاث مرات فخرج اسمه في الثلاث المرات. فتعجب الناس الحاضرون – ونحن نتعجَّب معهم الآن- وصرخوا وقالوا بالحقيقة إنه مستحق، فقدموه، وصلوا عليه ووضعوا عليه الأيادي، وجلس على الكرسي. وكان ذلك في يوم ١٦ طوبة من عام ٧٦٨م. ومع ذلك نؤكد عدم تناسب هذه الطريقة الدخيلة على تقليد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولكن السبب كان خِوَاء الأديرة من رهبان أكفاء.
بدء خدمة البابا يوحنا الرابع”
وكان ذلك في عهد خلافة محمد المهدي، وبدأ البابا عمله الرعوي بكتابة خطاب السينوديقا الممتلئة حكمة إلى بطريرك أنطاكية كعادة ، أسلافه، وكان اسمه آنذاك الأب جرجس؛ يُجدّد فيها له اتحاده معه في الإيمان الأرثوذكسي فلما وصله خطاب البابا الإسكندري سُرَّ به للغاية ورد عليه بمثله.
صفات البابا يوحنا الرابع وهيبته لدى رؤساء الدولة:
ويصف كاتب سيرته في كتاب “تاريخ الكنيسة أنه كان حسن الهيئة، تام القامة، مؤيَّداً من الله في جميع أموره. وكان كل أحد يشتهي أن ينظر وجهه. ووُهِب قبولاً عند كل الملوك والولاة، وكان السلاطين يهابونه، ويُنفّذون مطالبه ويقبلون أقواله ولا يمنعون عنه أي شيء يريده، وكذلك كان الشعب المسيحي يُطيعه. وكانت الكنيسة في أيامه في هدوء وسلام.
خدماته للكنيسة والوطن:
كان البابا يوحنا الرابع مُحبّاً لفعل الخير، واهتم ببناء كنيسة ومسكن بطريركيين، وزيَّنهما بكل زينة حسنة. كما زيَّن الكنائس بالإسكندرية بكل زينة وجمال. وهذا الوصف الذي يصفه كاتب سيرة البابا يوحنا الرابع يُشير إلى اهتمامه بفن العمارة والأيقونات الحائطية في الكنائس بالأخص. وقد امتدَّت هذه العمارة والفنون الكنسية إلى سائر الكنائس بالقطر المصري، كما امتدت إلى الأديرة في ظاهر الإسكندرية ووادي هبيب ويرى الزائر لأديرة وادي النطرون داخل هياكل كنائس دیر القديس أنبا مقار رسوماً حائطية ونقوشاً وزخارف ،بديعة يقول المختصون في الفن المعماري وفن الأيقونات أنها تعود إلى حوالي القرن السابع والقرن الثامن الميلاديين.
فإذا ما انتقلنا إلى روحه المتسعة في فعل الخير، فقد ظهرت خصاله وفضائله إبان المجاعة التي أصابت البلاد المصرية حيث جاء الحصاد في إحدى السنوات ناقصاً نقصاً خطيراً أدى إلى انتشار المجاعة، وحل البلاء بكثيرين من الناس.
فبدأ البابا يوحنا يواصل الصلاة ليلاً ونهاراً ليرحم الرب خليقته وطلب من شماسه مرقس“ الذي كان قد ائتمنه على أموال البطريركية أن يغيث كل جائع ويدفع لهم طعامهم في الصباح والمساء كل يوم، وكان يُشاهد على باب البطريرك جموع كثيرة من كل جنس، وهو يُقدِّم لهم، لأن البطريركية – كما يذكر كاتب السيرة – كانت في ذلك الزمان مملوءة خيرات، حتى أن رائحة طيب أعماله الحسنة فاحت وملأت كل مكان.
وكان البابا يحثُ الرؤساء والأغنياء أن يكونوا رحومين للضعفاء ويحثهم على الصدقات، فغار منه الأغنياء والرؤساء وصاروا هكذا يفعلون من مالهم كما أوصاهم. وكان يأوي الغرباء، حتى رفع الرب شعبه ورفع عنهم الغلاء بصلاة الأب القديس أنبا يوحنا ومحبته للمساكين مسيحيين وغير مسيحيين.
رحلاته الرعوية واكتشافه شاباً اسمه “مرقس“:
ثم قام البابا يوحنا الرابع برحلةرعوية وكان يرقب فيها شعبه والشباب باهتمام. وفي هذه الرحلة وجد شماساً مُتبتِّلاً مُتبحّراً في العلوم الروحية اسمه مرقس ، وقد حباه الله بصوت روحاني حنون وهو يُرتِّل الأسفار الإلهية؛ ففرح به البابا وعيَّنه سكرتيراً له، واتخذه مستشاراً له، وقرر أن يصطحبه إلى دير القديس الأنبا مقار، فاشتاق مرقس إلى حياة الرهبنة فألبسه الإسكيم المقدس، وبَقِي هناك.
بدء عواصف الاضطهاد والتخريب في الكنيسة
إذ مات الخليفة المهدي، وتولى بعده الهادي؛ عيّن الخليفة الجديد والياً جديداً على مصر. ولم يكد الوالي الجديد يتسلَّم مقاليد الحكم، حتى أَمَرَ بهدم عدد كبير من الكنائس في القاهرة القديمة (الفسطاط). وتوجه البابا يوحنا حالاً إلى القاهرة لكي يرى ما يحدث. فلما دخل إحدى الكنائس ليُصلِّي بها وجدها بغير سقف، فتنهد وصلّى إلى الله لكي يكمل بناء كافة الكنائس المتهدمة. غير أن الرب أبقى هذا العمل الجليل لخليفته “مرقس”.
فلما أكمل الخدمة الليتورجية في هذا اليوم، شعر بضعف أصابه حيث لحقه ألم في رأسه. فطلب من الأساقفة أن يمضوا به إلى الإسكندرية ليموت في مقر كرسيه. فحملوه في مركب، وكان معه ميخائيل أسقف القاهرة، وجرجس أسقف ممفيس. فلما وصل إلى الإسكندرية ثقل عليه المرض، ولحق بآبائه بعد أن أوصى بالراهب مرقس الذي كان قد هرب قبل ذلك من الدير إبان رسامته أسقفاً واختبأ بعيداً عن الأنظار. وفي يوم السادس عشر من طوبة عام ٧٩٠م، تنيَّح البابا يوحنا الرابع في نفس يوم سيامته بطريركاً. وأقام على الكرسي ٢٢ سنة بالتمام والكمال.
بركة صلوات الأبوين الجليلين مينا الأول ويوحنا الرابع تكون معنا ومع كنيسة الإسكندرية المقدسة، ويشيع فيها السلام والمودة بين جميع أهليها. آمين.