البابا داميانوس
البطريرك الـ ٣٥
(٥٦٣-٥٩٨م)
اختيار الراهب ”دميان“ بطريركاً:
وتستمر مسيرة الكنيسة القبطية حاملة وديعة الإيمان المستقيم وسط عالم مضطرب.
كان “دميان“ سكرتير البابا بطرس الرابع الراحل متضلّعاً في العلوم الكنسية الأرثوذكسية وكذلك في العلوم الدينية. وكان قد انتظم في الرهبنة وعاش داخل أسوار دير القديس يؤانس القصير في برية شيهيت مُمارساً حياة الصلاة والنسك والعمل كعادة أهل هذه البرية. ثم انتقل إلى دیر اسمه بیهانوثون في منطقة جبل طابور. وكانت أديرة شيهيت تنمو وتزدهر فيها الروحانية بالرغم من الاضطهادات التي لاحقت رهبانها بين الحين والآخر، وكان الأقباط يتبارون في تقديم عطاياهم للأديرة. فقام الرهبان بترميم أديرتهم وتجديد عمارتها بعدما لحقها الأذى بسبب تخريب قبائل البربر القادمة من شمال أفريقيا في غاراتها المتتالية.
فلما خلا الكرسي المرقسي بنياحة البابا بطرس الرابع أجمع الإكليروس مع الشعب على انتخاب هذا الراهب العالم والوديع في الوقت نفسه خليفة له ولكن كمثل ما حدث في رسامات الآباء البطاركة السابقين من تعطيل السلطات الحاكمة لها، لم يتمكن الأساقفة من وضع أيديهم عليه لرسامته إلا بعد مضي سنتين كاملتين على انتقال سَلَفِه. فلم يغتل البابا داميانوس الكرسي المرقسي إلا في سنة ٥٦٣ ميلادية (شرقية – بحسب التقويم الذي كان سائداً آنذاك – الموافق سنة ٣٧٩ للشهداء). وبذلك لم يتسلَّم مقاليد الرئاسة فعلاً إلا بعد انقضاء ٤ سنوات على نياحة البابا بطرس الرابع، وصار البطريرك الخامس والثلاثين في سلسلة بطاركة الإسكندرية المتعاقبين على كرسي مار مرقس الرسول الإنجيلي.
المواجهات مع هراطقة البدعة الآريوسية
وقد واجه البابا داميانوس أول ما واجه أتباع ميليتوس متروبوليت أسيوط أيام البابا بطرس خاتم الشهداء في القرن الرابع وقد تسللوا إلى أديرة شيهيت. وكان ميليتوس هذا قد انفصل عن الكرسي الإسكندري وشايع آريوس وسبب كدراً في عهد البابا ألكسندروس خليفة البابا بطرس. هؤلاء الأتباع الميليتيون أضافوا إلى انشقاقهم بدعة تناول الخمر في الليل قبل التناول من الأسرار المقدسة، فأمر بطردهم من الأديرة ولكن طردهم لم يكن بالعلاج الكامل، فرأى أن يُقرنه بعمل إيجابي، فكتب رسالة عنوانها: ”اللوغوس” أي “كلمة الله” ، تتضمن التعاليم اللاهوتية الأرثوذكسية. وأتبع هذه الرسالة بأخرى أطلق عليها اسم : “الميستاجوجيا” أي “الأسرار الإلهية”، أوضح فيها التعاليم الأرثوذكسية المختصة بأسرار الكنيسة.
وللبابا داميانوس رسائل فصحية عديدة (أي تلك التي كان يرسلها لشعبه في كل مكان في بدء الصوم الكبير وعيد القيامة المجيد، وهي عادة جرى عليها البابوات منذ البابا أثناسيوس الرسولي)، كما أن له رسائل تعليمية توضح العقيدة وميامر في تفسير التعاليم الكنسية. وكان البابا الجليل يرمي من وراء جميع مؤلفاته إلى توضيح العقائد المسيحية وترسيخها في أذهان رعيته.
نتيجة الإجراءات الإيجابية في مواجهة الهراطقة:
وكان من نتيجة هذا العمل الإيجابي في شرح وتوضيح التعليم عن طريق رسالتي اللوغوس و”الميستاجوجيا” وانتشارهما بين المؤمنين أن قَصَدَ أتباع ميليتوس الليكوبولي (نسبة إلى ليكوبوليس، وهو الاسم اليوناني القديم لأسيوط) إلى البابا الإسكندري. وبفضل ما أسبغه الله عليه من نعمة شرح الأسرار الإلهية، استطاع أن يقنعهم بالتعليم الصحيح ويردَّهم إلى الإيمان الأرثوذكسي وكانت مناقشاته معهم في رقة وعذوبة وسعة صدر تذكرنا بالبابا ديونيسيوس الذي استطاع ببرهان الروح والقوة الذي عنده أن يرد أسقف الفيوم وشعبها عن بدعة الحُكْم الألفي، والبابا أثناسيوس الرسولي أن يرد الأنطاكيين عن مقاومتهم لتعبير “الهوموؤوسيوس” أي “المساوي في الجوهر” ، والبابا كيرلس الكبير عمود الدين الذي استطاع يكسب الأنطاكيين أيضاً إلى صفّه في مجمع أفسس، وغيرهم كثيرون من الآباء الأساقفة الذين تمتعوا بحسن الحوار في إقناع المخالفين.
مواجهة مع البطريرك الأنطاكي
بعد أن مضت ثماني سنوات على رسامة البابا داميانوس، انتقل بطريرك أنطاكية ثيئوفانيوس إلى عالم الخلود، وخَلَفَه قس اسمه “بطرس” . وما إن رُسم هذا الأب أسقفاً على مدينة أنطاكية حتى بعث برسالة الشركة إلى البابا الإسكندري. ففرح البابا داميانوس حين وصلته هذه الرسالة، وجمع الأساقفة وقرأها عليهم – كما هي العادة – في تبادل الرسائل المسماة ”السينوديقا“ التي بين بابوات وبطاركة الكنائس الرسولية إثر رسامتهم مع بعضهم البعض ولكن لم يكد ينتهي من قراءتها حتى تبدل فرحه إلى حزن لما تضمنته الرسالة من ابتداع في عقيدة الثالوث الأقدس. فبادر بكتابة رسالة حاول فيها – بما حباه الله من نعمة ووداعة – أن يستميل ذلك البطريرك الأنطاكي إلى الإيمان الرسولي الآبائي، وذلك خشية أن تنفصم عُرى الصداقة والمودة بين الكنيستين الإسكندرية والأنطاكية. ولقد أثبتت رسالة البابا الإسكندري ما كان للآباء البطاركة الأقباط من غيرة ومعرفة لاهوتية علمية على أعلى مستوى كما يشهد بذلك علماء التاريخ الكنسي المشهورون.
على أن هذه الرسالة، بالرغم مما امتازت به من حكمة ومعرفة مع وداعة وتواضع العلماء، لم يكن لها أي أثر في نفس البطريرك الأنطاكي بطرس الذي أصرَّ على التشبث ببدعته التي تُفرّق بين الثالوث غير المفترق[1]. وهكذا تسبب هذا البطريرك في حلول الجفاء محل الود بين الأقباط والأنطاكيين طيلة العشرين عاماً التي قضاها على الكرسي الأنطاكي، حتى جدد البطريرك الأنطاكي أثناسيوس علاقات المحبة والوحدة في مجمع عقده في دير على ساحل البحر الأبيض المتوسط بمصر في أوائل القرن السابع.
معاونة الأساقفة والرهبان للبابا في خدمته:
لقد كان البابا داميانوس يدأب على كتابة الرسائل والميامر التي تهدف إلى إقرار الإيمان الأرثوذكسي في القلوب، وكان يوضّح جميع رسائله ويسندها بالآيات الإنجيلية المقدسة ومن كتابات آبائه البابوات والأساقفة المعتبرين أعمدة في التعليم الأرثوذكسي. وبسبب ما امتازت به من سلاسة المنطق والغيرة الرسولية مع روح الأبوّة الكنسية، فقد اجتذبت عدداً وفيراً من المبتدعين إلى العقيدة الأرثوذكسية. وكان أساقفة الكرازة المرقسية لا يقلُّون عنه علماً وغيرة وحكمة، فوجد البابا فيهم خير سند وعون في دحض البدع التي كانت منتشرة في أوساط كثيرة بسبب الشكوك والبدع التي سببها مجمع خلقيدونية في كثير من الأوساط.
ومن أبرز الأساقفة في عصره الذين امتازوا بالروحانية والعلم :
بيسنتيئوس أسقف قفط.
- يؤانس أسقف البرلس وتلاميذه يوحنا وقسطنطين وكلستيوس.
- الراهب يوليانس الكارز في بلاد النوبة مع رفقائه من الوفد القبطي إلى النوبة، ثم خليفته
- الراهب لونجينوس الذي استلم منه الشعلة.
وغيرهم من أراخنة وعلماء الكنيسة القبطية في هذا العصر. ومما يؤسف له أن غالبية هؤلاء الأساقفة والرهبان والأراخنة قد تجاهلهم التاريخ فلم يسرد لهم تراجم للآن، رغم أن مؤلَّفاتهم موجودة ويعرفها الباحثون.
نياحة البابا داميانوس
وداوم البابا داميانوس على تعليم شعبه وتثبيته على الإيمان الأرثوذكسي، مسنوداً بحياته النسكية العالية من أصوام وصلوات مدى حياته. وهذا النسك والجهاد الروحي لم يكن يؤثر في صحته لولا ما صادفه من ضيق وتعب في الكرازة والتعليم، فمرض بضعة أيام، انتقل بعدها إلى مساكن النور بعد ست وثلاثين سنة من رسامته (٣٥ سنة و ١١ شهراً، و ٢٨ يوماً)؛ حيث انتقل إلى الأخدار السماوية في ۱۸ بؤونة سنة ٥٩٨ ميلادية شرقية / ٣١٤ للشهداء.
صلاته تكون معنا .امين
- هذا البطريرك الأنطاكي وقع في الهرطقة بينما كان يُحارب الهراطقة مثله مثل سلفه بولس السموساطي أسقف أنطاكية في القرن الثالث، ونسطور بطريرك القسطنطينية في القرن الخامس، وغيرهما مِمَّن يُسمَّون في التاريخ “صيادي الهراطقة“. فقد كان هذا البطريرك الأنطاكي يريد أن ينقض بدعة “كونون أسقف طرسوس ، و فيلوبونتس الفيلسوف الإسكندري في اعتقادهما بأن في الله ثلاث طبائع متميّزة ولكن غير متحدة في ذات الجوهر ؛ وقد أفرط البطريرك في المهاجمة والمجادلة، فوقع في بدعة جديدة! ( الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة – الجزء الثاني – ص ۷۱،۷۰).