البابا بنيامين الأول
البطريرك الـ ٣٨
وسط الكارثة – حياة من بين الموت
(٦١٧-٦٥٦م)
تداخل الكنيسة فى القسطنطينية في السياسة، وبدء الانهيار:
يبدأ هذا العصر بأحداث سياسية تخص الإمبراطورية البيزنطية في القسطنطينية، لكن بعض (وليس كل) رجال الكنيسة في ذاك العصر تداخلوا في السياسة بصورة سافرة، وناصروا أحد فريقين كانا يتناحران على الفوز بكرسي القيصرية في القسطنطينية فوقا، وهرقل الذي كان أيضاً يريد أن يستقل بحكم مصر بعيداً عن السيطرة البيزنطية.
ويقول المؤرّخ المعاصر لهذه الأزمنة الأسقف يوحنا النقيوسي” إن بعض الإكليروس مع شعب مدينة الإسكندرية (ثم بعد ذلك الأسقف ثيئودور وسكان نقيوس مدينة المؤرخ يوحنا) انضموا إلى فريق هرقل ضد فريق فوقا”. وأتى التبرير والتأييد الديني من شيخ متوحد يُقيم فوق عامود على شاطئ النهر لمدة ٤٠ سنة تنبأ لقادة فريق هرقل حينما سُئل: “عمَّن سيكون له النصر؟” فأجاب قائلاً: “إنك قائد جيش هرقل ستنتصر على “بونوس” (قائد جيش فوقا) وتخلع حكومة فوقا، ويصير هرقل إمبراطوراً في هذه السنة“.
وخضع القطر المصري لحكم هرقل من العاصمة الإمبراطورية في القسطنطينية، وقتل الإمبراطور السابق فوقا.
البابا بنيامين البابا الثامن والثلاثون على كرسي الإسكندرية:
لما تنيح البابا أندرونيقوس سنة ۳۳۳ ش (سنة ٦١٧م) اختار الشعب الراهب العابد بنيامين تلميذ البابا الراحل بسبب استقامته أيام سكرتيريته للبابا وغيرته وتفانيه في العمل وطهارته وزهده وصبره وسكونه وهو يعمل وهكذا أصبح هو البابا الإسكندري الثامن والثلاثين. وبسبب كل هذه الصفات، ولما كان مُدركاً عِظَم المسئولية الملقاة على عاتقه، فقد دأب على تعليم شعبه منذ اليوم الأول لاختياره وبينما كان منشغلاً في عمله تمكّن الإمبراطور هرقل من إجلاء الفرس عن مصر.
مشروع هرقل لاتحاد المذاهب المختلفة:
كان هرقل مشغولاً بتوطيد مُلكه على كافة الإمبراطورية الرومانية، ولما تم له ما أراد حول وجهه نحو مصر بهدف تخليصها من يد الفُرس، إلا أنه شعر بضرورة الاتحاد مع الأقباط ليفوز بغرضه.
فاستدعى إليه أثناسيوس بطريرك أنطاكية وطلب منه الانضمام لمذهب الطبيعتين؛ فأتى البطريرك وحاول إقناع الإمبراطور بالمذهب الأرثوذكسي. فمال الإمبراطور إلى كلامه، وتفاهم مع سرجيوس بطريرك عاصمة ملكه، ومع أحد أساقفة الكنيسة الغربية وبعض أساقفة اليونان، بأن يضعوا منشوراً يسمونه “الأكثيسيس“ للاتحاد، لا يذكرون فيه اسم مجمع خلقيدونية المكروه من المصريين ومن ثمَّ عيَّن أسقفاً من آسيا الصغرى اسمه “كيروش“ (أو قيرش) ليكون بطريركاً على الإسكندرية، وأرسله إلى مصر ومعه هذا المنشور وطلب من البابا الإسكندري بنيامين أن يقبله؛ فرفض. وكانت حجة رفضه أنه لا يبحث في منشور يصدره ملك كل اهتمامه بالغزو والفتح، ولا شأن له بالمسائل الدينية، وأنَّ هذه الوحدة والاتحاد بين المذاهب هي لغرض سياسي بحت يهم مصالح الملك. وهنا تظهر موهبة الإفراز والبصيرة الروحية التي لدى البابا بنيامين في الإفراز والتمييز بين ما هو سياسي وما هو كنسي ديني، والتي افتقر إليها كثيرون من رجال الكنيسة في عصره.
وكانت النتيجة أن البطريرك الملكي المفروض من الملك بدأ عملية اضطهاد للأقباط لإرغام البابا الإسكندري على التوقيع على المنشور بالقوة فهدد حياته وحياة الكثيرين من أراخنة الأقباط الذين كانوا محيطين بالبابا ومشتركين معه في الدفاع عن الإيمان فاضطر البابا بنيامين ومعظم رجالات الأقباط المقدَّمين المقدامين لترك مدينة الإسكندرية، وهرب البابا بنيامين فأمسكوا شقيقه مينا وعذَّبوه ثم دفعوه إلى عمق المياه، فاستشهد شهادة للإيمان وهكذا انقلب هرقل وعميله قيرش ضد الأقباط.
وسنرى كيف سيكونان هما أنفسهما اللذين يُسلَّمان مصر لأيدي الغزاة الفاتحين فيما بعد.
وهكذا بَدَت مصرنا العزيزة التي بنى مجدها آباؤهم المصريون – من طبقة الفلاحين وحتى الملوك الفراعنة – ثم أكمل العمل آباء وشعب الكنيسة القبطية في الإسكندرية والوجهين البحري والقبلي، منذ عصر القديس مرقس الرسول سنة ٦٠م وحتى القرن السابع – الذي نكتب أحداثه – هكذا بدت مصرنا العزيزة في أوائل القرن السابع في صورة لا تُحسد عليها. ففي ناحية منها وقف الطغاة المستبدون سواء من الحكام الغرباء في مدينة القسطنطينية، أو من الداخل من عملاء القسطنطينية الوافدين إلى مصر من العاصمة الإمبراطورية؛ وقف هؤلاء وأولئك ينفثون الغدر والتنكيل بالمصريين المتمسكين بإيمان آبائهم، بينما في الناحية الأخرى وقف المصريون صامدين رافعي الرؤوس. فكانت النتيجة الحتمية لهذه الحالة : انتشار الفوضى والاضطراب وضياع الانتماء القومي للوطن، إذ كان مُحرَّماً على المصريين تكوين جيش قومي لهم.
الغزو العربي من الجنوب الشرقي:
في البداية كانت مجرد تجارة يقوم بها أبناء الجزيرة العربية حيث يحصلون على احتياجاتهم مصر من التوابل والبقول والمنسوجات (التي اشتهرت بها مدينة “قُفْط” جنوب مصر وسميت بالقباطي). وخلال هذا التبادل التجاري، عرف العرب ظاهر مصر، ولمسوا بعضاً من حضارتها وظلت في خيالهم رمز الوفرة والازدهار، وظل مجيئهم إليها لا ينقطع في رحلات أُحادية الوجهة أي من شبه الجزيرة العربية إلى الشام (سوريا) ثم إلى مصر والعودة دون أن يُشاركهم أبناء مصر في رحلات عكسية إلى بلاد الجزيرة.
وفي رحلة من رحلات الشتاء والصيف الدءوبة، كانت رحلة رجل من الجزيرة العربية اسمه: عمرو بن العاص، الذي زار مصر لأول مرة في تاريخ سابق لهزيمة الروم البيزنطيين أمام الفرس في أوائل العقد الأول من القرن السابع الميلادي. دخل عمرو بن العاص مصر حسب إحدى الروايات – مع كاهن (أو شماس) مصري يتبع المذهب الخلقيدوني والبطريرك قيرش، كان يحج في القدس وتصادق هناك معه؛ فاصطحبه الكاهن إلى مصر، حيث جال معه في البلاد طولها وعرضها على ضفاف النيل، وفي الوجهين البحري والقبلي ثم وصل إلى الإسكندرية حيث راعه عمارات الإسكندرية الناصعة البياض ومدارسها الفلسفية واللاهوتية، وسمع من الكاهن عن الخلافات المذهبية والاضطهاد الذي يسوقه بطريركهم الخلقيدوني قيرش على الأقباط الذين لا يوافقون مذهبه.
وعاد عمرو بن العاص إلى بلاده ولكن بعد أن كان قد درس مداخل مصر ومخارجها وتحصيناتها وتدني درجة حرية أهلها في إدارة وطنهم، وحرمانهم من الدفاع عن وطنهم، بل ومن الطغيان والظلم البيزنطيين لأهلها. وبعد سنوات قليلة عاد عمرو بن العاص إلى مصر، ولكن بجيش لا يتجاوز أربعة آلاف مقاتل، وذلك في سنة ٦٣٩م. وكانت المقاومة من المصريين شديدة بالرغم من هروب قادة وجيش البيزنطيين المحتل، وعلى الأخص بعض بلاد الوجه البحري، ولكن عنفوان الجيوش العربية كانت تُحطّم وتحرق كل ما يُصادفها وكل مَن يُقاومها. ويصف الأسقف يوحنا النقيوسي الذي عاصر هذه المرحلة الأهوال التي لاقاها المصريون في كلمات موجزة بعد أن وصف تفصيل الأحداث بقوله : “وهنا فَلْنصمت لأنه يصعب علينا ذِكْر الفظائع التي ارتكبها الغزاة عندما احتلوا جزيرة نقيوس (الذي هو أسقفها) في يوم الأحد ٢٥ مايو سنة ٦٤٢م“.
ويشير يوحنا النقيوسي إلى أن الجمهور المصري لم يقف موقف المتفرج الساكن السلبي، أو الفار الهارب المذعور أمام الاجتياح العربي – رغم أنه أعزل بل كان هذا الجمهور نواة المقاومة في هذه المدن التي كان الحرق جزاءً لمقاومتها – وخصوصاً مدن الشمال (الوجه البحري)، حتى أن ” عمرو” مكث اثني عشر شهراً يُحارب المصريين الذين كانوا في شمال مصر ولم يستطع دخول مدنهم وحتى عندما كان عمرو يحرق مدينة كان أهلها يخرجون ليلاً ويُطفئون النار على قدر استطاعتهم.
غزو الإسكندرية بعد مقاومة الأقباط 6 أشهر،
وخيانة الوالى البيزنطي من وراء ظهر الأقباط
ولما وصل عمرو بن العاص إلى الإسكندرية، وبعد جهادٍ طويل مع المصريين (يوم ٢٠ توت/ ٢٩ سبتمبر سنة ٦٤٣م)، استعد الإسكندريون لمقاومته. ولكن سبق السيف العذل، فإن البطريرك الخلقيدوني قيرش المسمى لدى العرب باسم “المُقَوْقَس” كان قد سلَّم المدينة من وراء ظهر الشعب المصري، فقام الأهالي على هذا البطريرك الدخيل وأرادوا الفتك به فتكلَّم قيرش مع الهائجين قائلاً: “إني عملتُ هذا الترتيب لأخلّصكم أنتم وأولادكم”، ثم توسل إليهم باكياً متوجّعاً أن يكفُّوا عن الشغب، فتوقفوا. وهكذا سقطت المدينة.
وكما يقول المؤرخ يوحنا النقيوسي شاهد العيان المعاصر لهذا الغزو، شارحاً ما عاناه المصريون قائلاً: “وكان النير الذي وضعوه على المصريين أثقل من الذي وضعه فرعون مصر على بني إسرائيل”.
موت هرقل وعودة البابا بنيامين:
ولما رأى هرقل ما كان من استيلاء العرب على مصر، مات محزوناً مرذولاً. وبينما كان الغازي العربي ينشغل في تدبير مصالحه بالإسكندرية سمع رهبان وادي النطرون وبرية شيهيت أن أُمة جديدة ملكت على البلاد، فسار منهم إلى عمرو سبعون ألفاً حفاة الأقدام بثياب ممزقة، يحمل كل واحد منهم عكازاً؛ فخاف عمرو أن يكون هذا الجيش قوة مقاومة، ولكنهم تقدموا إليه وطلبوا منه أن يمنحهم حريتهم الدينية ويأمر برجوع بطريركهم من منفاه.
فأجاب عمرو طلبهم، وأظهر مَيْله للأقباط فازداد هؤلاء ثقة به ومالوا إليه خصوصاً لَمَّا رأوه يفتح لهم الصدور ويُبيح لهم إقامة الكنائس في وسط الفسطاط الذي بناه بمساعدة الأقباط وجعله عاصمة الديار المصرية ومركز القيادة.
وقرب عمرو إليه كثيرين من الشعب المصري واعتمد عليهم في إصلاح شئون البلاد ووظفهم بوظائف عالية، فكان منهم الحكام والرؤساء والكتاب وجُباة الضرائب (الخراج)؛ فقاموا بخدمة البلاد بأمانة، ولا عجب فهم يخدمون وطنهم الذي حُرموا من خدمته قروناً طويلة. وقسم عمرو القطر المصري إلى كور (جمع Khora خورا” بالقبطية واليونانية أي مدن أو محافظات) يرأس كُلاً منها حاكم مصري تأتيه القضايا، فينظر فيها ويُصدر أحكامه.
في غياب البابا والأساقفة: أراخنة المصريين كانوا يعتنون بالكنيسة:
كان بعد الحروب واختفاء البابا بنيامين وأساقفته من أمام قورش حاكم وبطريرك الملك البيزنطي، أن أراخنة المصريين كانوا يعتنون بالكنائس وذخائرها ولم يفتروا عن أن يسهروا على أمانها وسلامتها في هذه الأزمنة الصعبة.
وكان من بينهم عالم اسمه يوحنا الجراماتيكي. فدخل على عمرو الذي كان قد عرف مقامه من العلوم، فأكرمه عمرو، وسمع من ألفاظه الفلسفية ما لم يكن للعرب بها معرفة، ففتن بها. ثم قال له يوحنا العالم يوماً: “إنك قد أحطت بمقتنيات الإسكندرية وختمت كل الأصناف الموجودة بها، فما لك به من انتفاع فلا نُعارضك فيه، وما ليس لك به انتفاع فنحن أولى به. فقال له “ما الذي تحتاج إليه؟ قال: “كُتب الحكمة التي في الخزائن الملوكية”. فقال له عمرو : “هذا ما لا يمكنني أن آمر فيه إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب”. فكتب عمرو إلى عمر وعرفه قول يوحنا، فورد إليه الرد يقول فيه: “وأما الكتب التي ذكرتها، فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله، ففي كتاب الله غِنَى عنها؛ وإن كان فيها ما يُخالف كتاب الله، فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها”. فشرع عمرو في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها فاستنفدت في مدة ستة أشهر.
وكان من بين الأراخنة المشهود لهم سينوتيوس (بالعربية شنودة)، هذا قد تقدَّم إلى عمرو ورجاه أن يأمر بعودة البابا بنيامين فطلب منه عمرو أن يبعث هو برسله إلى البابا الشريد ليطلب إليه أن يعود إلى مقر رئاسته آمناً مطمئناً وفَرِحَ المصريون بهذا التصريح، وسارع رسل سينوتيوس إلى البابا بنيامين في الصعيد ليبلغوه بما جرى.
وما إن وصل الأنبا بنيامين إلى بابليون حتى خفَّ سينوتيوس إلى استقباله ونيل بركته وإبلاغه بكل ما جرى بينه وبين عمرو. ثم اتفق معه على الموعد الموافق لمقابلة الحاكم العربي الجديد. فلما التقى الرجلان الكريمان تحادثا مليّاً في جميع الشئون الخاصة بمصر ورفاهيتها، وعلى أثر الزيارة أعلن عمرو تقديره للبابا الإسكندري على رؤوس الأشهاد، إذ قال: “إنه لم يُحادِث في حياته رجلاً من رجال الله أطهر ذيلاً، وأنقى صحيفة، وأجل منظراً من البابا بنيامين”.
وفي ذات الوقت الذي يفرح فيه الشعب بعودة البابا بنيامين وباقي الأساقفة وتأمين أموال الكنيسة، وممتلكاتها يسوده الحزن والغم الشديدين من جراء تزايد أعباء الضرائب والجزية والخراج التي فرضها عليهم الحكام الجدد.
ويبدأ البابا بنيامين في استئناف رعايته للكنيسة وحفظه للإيمان الأرثوذكسي، ولكن بمعاناة شديدة بعد الدمار الذي أحدثه البطريرك الدخيل قورش ثم الغزو الفارسي ثم الغزو العربي.
وبعد غياب ثلاث عشرة سنة، منها ١٠ سنين في عهد الإمبراطور البيزنطي هرقل، وثلاث سنين قبل الغزو العربي للإسكندرية؛ رجع البابا بنيامين إلى مقر كرسيه. فبدأ في الحال في إعادة البناء الذي تصدّع منذ مجمع خلقيدونية والاضطهاد البيزنطي للمصريين، ثم التخريب الفارسي في غزوتهم القصيرة، فأخذ في جذب الذين أضلّهم هرقل، فرجع منهم كثيرون.
تعمير الأديرة:
ثم وجه البابا بنيامين التفاته نحو الأديرة التي خربها الفرس أثناء تملكهم لمصر واجتهد في إصلاحها، فرمم أديرة برية شيهيت وبدأ بدير الأنبا بيشوي إذ وجد أن البربر كانوا قد خرَّبوه تماماً. ثم امتد بالبناء إلى بقية أديرة تلك المنطقة التي هي الحصن الحصين لإيمان الكنيسة، والخزانة الأمينة لحفظ تراث الآباء الذين سلَّموا الإيمان الرسولي من جيل إلى جيل.
على أن المباني الحجرية لم تكن تغني عمَّا ضاع من تراث أدبي كنسي نتيجة حريق كُتب الحكمة في حمامات الإسكندرية. وكان معروفاً في تلك الحقبة من التاريخ أن المكتبة الباباوية في الإسكندرية تحوي المراجع والوثائق الأصلية لكل قوانين الكنيسة وقرارات المجامع الكنسية. وإلى بابوات الإسكندرية كان يلجأ الآباء رؤساء الكنائس الأخرى في العالم يسألونهم عن النصوص الأصلية ومضاهاة ما عندهم من نسخ عليها. وليس من المعروف على وجه التحقيق مصير المكتبة التي كان لها وجود تاريخي أيام البابا كيرلس الكبير قبل الغزو الفارسي ثم الغزو العربي بعد نياحته بأقل من مائتي عام. أما مكتبة دير الأنبا مقاريوس فكانت في أمان حتى غارة البربر الخامسة سنة ۸۱٧م التي كانت كارثة عليها، إذ أن معظم مخطوطاتها أُتلف أو تمزق أو حمل بواسطة البربر، والقليل الذي نجا حمله الرهبان إلى دير نهيا بالجيزة.
وما إن أتم الرهبان تجديد دير الأنبا بيشوي وكنيسته، حتى الأنبا بيشوي وكنيسته، حتى كان رهبان دير الأنبا مقاريوس قد انتهوا من بناء كنيستهم الكبرى المسماة في المخطوطات القديمة “القاثوليكا” أي الكنيسة الجامعة، فانتدبوا بعضاً منهم ليتوجهوا إلى البابا بنيامين ليرجوه أن يحضر إلى ديرهم ليُكرّس هذه الكنيسة الكبرى التي كانت مبنية على ۲۰ عاموداً من أجود أنواع الرخام القوطي، ومزيَّنة بالأيقونات الغنية الجميلة. فأتى معهم في اليوم الثاني من طوبة سنة ٦٥٥م، حيث عبر في طريقه إلى القاثوليكا” تحت قوس ما يزال قائماً إلى الآن في مدخل دير القديس أنبا مقار؛ فاستقبله شباب الرهبان في السابع من الشهر حاملين سعوف النخل في أيديهم، ومن ورائهم الشيوخ الحاملين المجامر والصلبان، ثم توجهوا إلى الكنيسة وبدأ البابا بنيامين مع مساعديه في تدشين الكنيسة، وفي مخطوطة قديمة محفوظة بدير الأنبا مقار يروي البابا بنيامين قصة تكريس الكنيسة كما نقلها تلميذه أغاثو القس.
أهم ما جاء في هذه المخطوطة القوانين المختصة بالصلاة في هذه الكنيسة، وبعض القوانين ومن المختصة بالحياة الرهبانية وتنبأ عن أيام صعبة ستمر بها الرهبنة في أيام فتور وبرود وارتداد.
العودة لمهام الرعاية وتثبيت المؤمنين:
وعاد البابا بنيامين إلى مقر كرسيه وانهمك في تثبيت المؤمنين وتعمير الكنائس التي خرَّبها الغزاة من كل نوع. وفي هذه الأثناء كان المسيحيون في البلدان الأخرى ما زالوا منشغلين بالمجادلات الغبية ولم يتعلموا من كارثة الغزو الفارسي ثم الغزو العربي، والتي كانت بسبب انقسامهم حول الأمور العالية التي تعلو على إمكانيات عقولهم الصغيرة. ولما اشتد النقاش بين الأساقفة حول موضوع عويص: “هل للمسيح مشيئة واحدة أم مشيئتان”؟ رأى الإمبراطور أن يدعو إلى عقد مجمع في القسطنطينية لبحث هذا الموضوع، ولكن طبعاً لم يكن للكنيسة القبطية مندوبون فيه، ولم يُسمع لها صوت ولا رأي فيه؛ بل حضره البطريرك الخلقيدوني قيرش الذي سلّم مصر لأيدي العرب، وترك البلاد نهائياً إثر توقيع المعاهدة بينه وبين عمرو بن العاص الذي هيّأ الفرصة للبابا بنيامين ليتسلّم مقاليد رئاسته ويعيش في مقر كرسيه بالإسكندرية.
وحسناً لم يحضر بابا الكنيسة القبطية هذا المجمع حتى يتفرّغ للمّ أشتات رعيته وإعادة إعمار ما تَهَدَّم من معابدهم وأديرتهم.
أغاثو تلميذ البابا بنيامين:
كان يعيش مع البابا بنيامين إنسان مملوء نعمة وحكمة اسمه “أغاثو “. وكان قساً في الكنيسة. وفي زمن الإمبراطور هرقل كان يتزيَّا بزي العلمانيين في مدينة الإسكندرية ويطوف ليلاً بيوت الأرثوذكسيين المختفين من اضطهاد البطريرك الخلقيدوني قيرش وذلك ليثبتهم ويقضي حوائجهم ويناولهم من الأسرار المقدسة، وفي النهار كان يحمل على كتفه قفة فيها آلات النجارة ويتظاهر أمام المضطهدين بأنه نجار حتى لا يعترضوا سبيله.
ومكث هكذا ١٠ سنوات يقوم بهذه الخدمة الفدائية الخفية، فحَفَظَ للكنيسة أبناءها وقادتها إلى حين رجوع البابا بنيامين إلى مقر كرسيه.
فلما عاد البابا إلى كرسيه أقامه وكيلاً له في تدبير البيعة وعلى الأخص أنه أصيب في سنتيه الأخيرتين بمرض في رجليه أقعده عن العمل فخدمه أغاثو هذا خلال هاتين السنتين خدمة الابن البار بأبيه المحبوب.
رسامة مطران لإثيوبيا وإرساله مع راهب قديس
كما قام البابا بنيامين برسامة مطران جديد لإثيوبيا وأرسله إلى هناك ومعه راهب اسمه تكلاهيمانوت عُرف بقداسته وتقواه وقد أدَّى خدمات جليلة للشعب الإثيوبي، ولا يزال الإثيوبيون يكرّمونه ويجلونه حتى هذا اليوم ويقولون إنه أول من أسَّس الرهبنة الإثيوبية في بلادهم، وهو شفيع إثيوبيا وملوكها ورؤسائها.
انتقال البابا بنيامين إلى دار الخلود
وقد أبدى القديسون عطفهم على هذا البابا المجاهد الصبور، فشفعوا فيه لدى الآب السماوي ضارعين إليه أن ينقله سريعاً من دار الشقاء إلى دار البقاء، فتقبَّل الله منهم هذه الشفاعة وأرسل إلى صفيه بنيامين البابا أثناسيوس الرسولي (الذي عانى مثله النفي بعيداً عن مقر كرسيه)، وبصحبته قديسين آخرين فظهر له ثلاثتهم في حلم وبشروه بقرب انتقاله إلى بيعة الأبكار.
وما إن انبلج فجر تلك الليلة حتى فاضت روح الأنبا بنيامين بين يدي الآب. وكان انتقاله في اليوم الثامن من شهر طوبة المبارك (۱۷ يناير)، وهو ذات اليوم الذي كان قد كرّس فيه هيكل الأنبا مقار الكبير في شيهيت، فتحققت بذلك نبوَّة الشاروبيم الذي أبلغه بذلك يوم تكريس الكنيسة، وكان ذلك عام ٦٥٦م. وبهذا قضى ۳۹ عاماً على الكرسي المرقسي (٦١٧-٦٥٦م).