البابا أثناسيوس الرسولي

البطريرك العشرون
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري

(۳۷۳-۳۲۸م)

نشأته:

سنكتفي بنبذة قصيرة عن حياة القديس أثناسيوس. فقد عاش وتربى طيلة فترة صباه في صعيد مصر، كما جاء على لسانه شخصياً، وبالذات في مدينة أخميم، وذلك كما ثبت في مخطوطة اكتشفت في دير أنبا مقار. وقد توفي والده ودفن بالإسكندرية بعد سنة ٣٥٨م.

وقد وردت قصة عن أيام صبوة أثناسيوس، بقلم المؤرخ روفينوس، يقول فيها إن الكسندروس بابا الإسكندرية التاسع عشر كان في يوم من الأيام مطلاً من نافذة البيت الذي يقطنه على البحر، فرأى صبية يلعبون على الشاطئ، فلما تحقق من حركاتهم، وجدهم يمثلون طقس العماد الذي تجريه الكنيسة؛ فأخذ يُراقبهم بشغف وابتدأ يحس أن عملهم هذا أصبح له وضعه السرائري. فاستدعاهم ولما استجوبهم علم أن الصبي أثناسيوس كان هو الذي يقوم بدور الأسقف في العماد، وقام فعلاً بعماد بعض الأولاد رفقائه عن قصد وبكل مستلزمات الطقس، وهؤلاء لم يكونوا مسيحيين بعد. أما البابا ألكسندروس فلم يأخذ الموضوع ببساطة. وبعد مداولات مع الإكليروس، اعتبر أن هذا العماد ساري المفعول، وامتدح أثناسيوس واحتفظ به عنده، وأَمَرَ أن تجرى لبقية الأولاد ما يلزمهم من الطقوس والتعاليم اللازمة لتكميل الطقس.

أثناسيوس سكرتير البابا الكسندروس

ومنذ دخول الشاب أثناسيوس في خدمة البابا ألكسندروس كابن له وسكرتير، يبدأ تاريخ أثناسيوس الكنسي فوظيفة سكرتير البابا الإسكندري كانت بحد ذاتها عملاً ضخماً متشعب المسئوليات. وكانت هذه الأيام من أحلى ذكريات القديس أثناسيوس خصوصاً في أيامه العصيبة إزاء المحن المتواترة التي عاناها.

دراسات أثناسيوس المدنية والروحية:

نحن نعلم من كتابات القديس أثناسيوس مقدار تحصيله العلوم ودراسة الفلسفة والبلاغة والشعر، واستخدامها في شرح وتوضيح أعماق الإنجيل، وخصوصاً في مواقف الدفاع والمحاجاة ضد الفلاسفة.

أما كل هذه الدراسات التي تلقاها أثناسيوس، سواء بجهاده الخاص أو على أيدي معلمين خصوصيين أو في مدرسة الإسكندرية، لم تكن إلا أمراً ثانوياً تماماً بالنسبة لشغف أثناسيوس أن يكون كاتباً متعلّماً في ملكوت السموات. وتظهر غيرته النارية في حبه للكتاب المقدس وتوقيره المطلق لسلطانه في جميع كتاباته. ولذلك نجد أن جميع كتابات القديس أثناسيوس مزدحمة بالآيات من العهد القديم والعهد الجديد؛ إما بنصها الكتابي المحدد، أو بروحها دون الالتزام بالحرف، بحيث لا يمكن أن يخلو سطر من سند كتابي.

تتلمذ القديس أثناسيوس للقديس أنطونيوس الكبير:

لقد تربى أثناسيوس، وهو بعد شاب على يدي القديس أنطونيوس الكبير. فقد لازمه زمناً طويلاً، وتعلم منه، وسكب ماء على يديه.

وهكذا كان تأثير الرهبنة، وبالذات القديس أنطونيوس على نفسية القديس أثناسيوس، عميقاً غاية العمق؛ إذ ظل وجه أنطونيوس بوداعته وحركاته الهادئة وسلامة نفسه وهدوئه منطبعاً على ذهن أثناسيوس لا يفارقه. مما جعل حياة القديس أنطونيوس أحد المصادر الهامة جداً التي ظلت تنضح على أفكار وسلوك أثناسيوس كل أيام حياته.

مؤلفات القديس أثناسيوس قبل رسامته أسقفاً:

بدأ النضوج الفكري والخصب الروحي مبكراً جداً في حياة أثناسيوس. فقد أكمل كتابين من كتبه وهما: “ضد الوثنيين” و “تجسد الكلمة” في سن مبكرة حوالي سنة ٣١٨م. فقد كتبهما، لا كلاهوتي يشرح عقيدة، بل كمؤمن يشهد المخلصه، وكتبهما لمنفعة أحد الوثنيين بعد دخوله الإيمان المسيحي، لذلك نجد الكتابين يُكمّل أحدهما الآخر. فالأول يدحض آراء الوثنيين، والثاني يثبت الإيمان المسيحي. ويتضح فيهما الفكر اللاهوتي الخاص بمدرسة الإسكندرية الذي ورثه أثناسيوس عن أسلافه، ثم عمقه وأفاض عليه من روحه ومن تجربته الإيمانية.

القديس أثناسيوس في مواجهة الملاتيين والأريوسيين

إنَّ تحالف الآريوسيين مع الملاتيين، جعل من جماعتهم المتحالفة ثقلاً كبيراً جداً على الكنيسة في مصر :

فالملاتيون هم أتباع ملاتيوس أسقف ليكوبوليس (أسيوط) الآن، وهذا لم يكن له بدعة أو هرطقة لاهوتية معينة، ولكنه كان ثائراً على الكنيسة أيام البابا بطرس خاتم الشهداء بسبب عدم قبوله في شركتها، بعد أن سقط مع جماعة كبيرة في التبخير للأوثان في وقت الاضطهاد الذي أثاره دقلديانوس على الكنيسة سنة ٣٠٣م. فلما قطعته الكنيسة من شركتها في مجمع خاص برئاسة البابا بطرس، أثار قلقاً عظيماً فيها وتزعم جماعة إكليروس منهم أساقفة وكهنة كثيرون، وقام هو برسامات متعددة من أساقفة وكهنة ورهبان حتى زادت شيعته جداً.

أما الآريوسيون هم أتباع آريوس الليبي الذي رسمه البابا بطرس شماساً، ولكنه عاد بسرعة وأسقطه من رتبته؛ ثم جاء البابا أرشيلاوس وأعاده إلى الشركة ورسمه قساً. وكان آريوس يطمع في أسقفية الإسكندرية، فلما رسم ألكسندروس بطريركاً، بدأ آريوس ينفث حقده وانتقامه علناً في الكنيسة.

انحرف آريوس في تيار الأسلوب العقلي وأخضع الإنجيل لفكره، وأراد أن يُحدّد صفات المسيح الجوهرية بنفس الأسلوب المنطقي الذي يُحدّد به الأمور المنظورة الأخرى: “إن كان هناك آب وابن، فالآب يلزم أن يكون سابقاً للابن… والنهاية، فالابن منفصل عن جوهر الآب. ثم من جهة أزلية الابن، فإن آريوس يجحدها، لأنها تقف حجر عثرة أمام الأسلوب العقلي المغلق الذي يريد أن يُحدّد بنفسه البدايات والنهايات لكل ما يدخل تحت الفحص العقلي: “الآب خلق لنفسه ابناً من لا شيء كأداة يخلق بواسطتها العالم”.

وبدأ القديس أثناسيوس يردُّ على هذا الأسلوب العقلي المغلق بأسلوب عقلي منفتح على الله. وبهذه الروح الواعية، وبإحساس أثناسيوس المتكامل العميق بحقيقة المسيح ووجوده الأزلي مع الآب، رافق أثناسيوس مُعلّمه البابا ألكسندروس إلى مدينة نيقية سنة ٣٢٥م للدفاع ضد آريوس عن يقين الإيمان بالفادي الذي أحبه. وكان أثناسيوس في التاسعة والعشرين من عمره وقتئذ.

القديس أثناسيوس في مجمع نيقية ٣٢٥م:

كان سر نصرة أثناسيوس في مجمع نيقية يكمن بصورة أساسية في ثقته بالمسيح الفادي الذي كان يُدافع عنه. فكان أثناسيوس يملك الحقيقة، لا في عقله ولا في لسانه فحسب، بل في قلبه، في شخص الرب يسوع الذي كان يتكلم فيه بروحه القدوس عند افتتاح فمه.

كانت سرعة أثناسيوس في كشف نقط الخبث عند الأريوسيين يُقابلها سرعة الرد وشدة الحجة واقتباس الآية. فكانت قوة عظيمة لائقة بهذه المحنة العظيمة. ولم يكن أثناسيوس مجرد محاجج بل كان يستطيع في نهاية كل محاجاة أن يضع المبادئ التي كانت موضع المناظرة في صورة قانون واجب القبول والنفاذ ولذلك انتهت جميع المباحث والحجج والمناظرات في مجمع نيقية إلى مبادئ إيجابية غاية في الرصانة اللاهوتية تنبع من الإنجيل وتصب فيه أي أنها تأخذ قوتها من الآيات ثم تعود على الآيات نفسها بالتوضيح والتطبيق. فمثلاً:

1. تأكد لدى الكنيسة بصورة واضحة لاهوت المسيح في مواضع كثيرة من الأسفار المقدسة.

2. تأكد لدى الكنيسة لاهوت المسيح بصورة واضحة في معنى كلمة “الابن الوحيد”

(مونوجينيس). 

3- تأكد لدى الكنيسة أنَّ لاهوت المسيح ضرورة جوهرية لتكميل عمل الفداء بالتدبير الإلهي.

4. تأكد لدى الكنيسة لاهوت المسيح، بشهادة التقليد، كحق قائم ثابت محفور في وعي الكنيسة منذ البدء وعلى ممر العصور لا يمكن أن يزعزعه مبتدع.

صطلاح “هوموؤوسيون” أي “مساو في الجوهر“:

إنَّ هذا الاصطلاح هوموؤوسيون homoousion قد استخدم سابقاً لكي يُعبّر عن الإيمان الصحيح بالمسيح كونه ابن الله الحقيقي، ولكنه اختير في مجمع نيقية ليكون محكاً دقيقاً لمدى التزام الآباء بالآيات التي توضح لاهوت المسيح.

لقد كان خصوم القديس أثناسيوس في مجمع نيقية وبعده مماحكين إلى أقصى حد حتى في استخدامهم الآيات؛ أما القديس أثناسيوس فكان دائماً، ومنذ شبابه، يتكلم ويدافع ويبرهن ويستخدم الآيات بدافع واحد يملك عليه كل تفكيره وشعوره وحماسه، وهو إخلاصه الشديد للمسيح الذي يحبه وغيرته الملتهبة في تكريمه وتعظيمه تعظيماً لائقاً بلاهوته. فكل عبارات القديس أثناسيوس اللاهوتية، وبالأخص homoousion أي “مساوٍ للآب في الجوهر”، تتعدى الوضع النظري أو التحديد القانوني، لتُعبّر عن حقيقة يراها أثناسيوس ويوقن بها ويجاهد حتى يراها الكل أيضاً ويوقنون بها.

لم يكن شيء في ذهن القديس أثناسيوس، وهو في طريقه إلى نيقية، أقوى يقيناً من أن يسوع المسيح هو ابن الله مُتجسّداً بكل معنى الكلمة وقوتها وبالتالي لم يكن في ذهنه، وهو عائد من نيقية، أقوى تعبيراً عن لاهوت المسيح من اصطلاح الـ homoousion ، أي أن المسيح مساوٍ للآب في الجوهر؛ إذ كان يعتبره القديس أثناسيوس أنه هو الاصطلاح المركز والمختصر الذي يضعنا في حالة الالتزام بعبادة المسيح عن استحقاق كلي وبكل تقوى ووقار !

نياحة البابا ألكسندروس، ورسامة القديس أثناسيوس بطريركاً:

عندما كان البابا ألكسندروس في النزع الأخير، وكل الإكليروس مجتمعون حوله يتباركون منه، بدأ ينادي بإلحاح: “أثناسيوس أثناسيوس”. ولكن لأن القديس أثناسيوس كان يخشى هذه اللحظة وما يمكن أن يكون وراءها من مسئولية هرب. فلما كرر البابا نداءه: “أثناسيوس! أثناسيوس، رد عليه أحد الإكليروس من الواقفين، وكان يُدعى أثناسيوس أيضاً، فاستنكر البابا رد هذا المدعي، وبدأ يُنادي أثناسيوس أيضاً. ولكن عندما تحقق من عدم وجوده، قال: “وهل تظن أن بهروبك يمكنك أن تفلت؟… لا يمكن !”.

وفي يوم ۲۲ برمودة الموافق ١٧ أبريل سنة ۳۲۸م تنيَّح البابا ألكسندروس. وكانت تزكية جميع أساقفة الإسكندرية ومصر وطيبة وليبيا والخمس المدن للقديس أثناسيوس ليكون أسقفاً على كرسي الإسكندرية بعدما يقرب من شهرين من نياحة البابا ألكسندروس.

جهاد القديس أثناسيوس وصراعه ونفيه:

لقد انقسمت حياة القديس أثناسيوس بصورة واضحة جداً، إلى فترات هدوء واستقرار، وفترات عنف وصراع. فكانت بداية أسقفية القديس أثناسيوس فترة هدوء واستقرار استمرت من يونية سنة ٣٢٨م إلى ۱۱ يوليو سنة ٣٣٥م. وفي هذه الفترة الهادئة قام القديس أثناسيوس برسامة فرومنتيوس أسقفاً على كرسي أكسوم في الحبشة أي إثيوبيا. وفي هذه الفترة أيضاً قام بجولة رعائية كبيرة سنة ۳۲۹م وصل فيها إلى حدود أسوان.

وفي هذه الأثناء لم يقبل آريوس ولا الآريوسيون هزيمة نيقية الماحقة، ولا ملاتيوس المتروبوليت المصري المنشق ارتضى بالحل الذي قرره مجمع نيقية. ولكن ليس الجانب الكنسي فقط بزعامة الأريوسيين والملاتيين هو الذي كان موضع خطر ومصدر الصراع بالنسبة للقديس أثناسيوس، وبالتالي للأرثوذكسية كلها؛ بل الإمبراطور قسطنطين نفسه الذي لم يستطع أن يحفظ حزمه ويحترم كلمته في ضبط الخارجين على قوانين مجمع نيقية. ففي ظرف ثلاث سنين كان قد بدأ يتذبذب هو نفسه بين الآريوسية والمسيحية الحقَّة، وبدأ يُسهل للآريوسيين استعادة كراسيهم وسلطانهم مشدوداً بفكرة وحدة الكنيسة وبالتالي وحدة الإمبراطورية وسلامتها، بالإضافة إلى شعور دفين بالحقد على البابا أثناسيوس بسبب بروز شخصيته.

وبدأ الآريوسيون والملاتيون يكيلون الاتهامات الباطلة ضد القديس أثناسيوس، وكانت كلها خارجة عن مضمون الإيمان والعقيدة والمسيح نهائياً. فعقدوا مجامع زائفة المحاكمة القديس أثناسيوس؛ ولكنه بنعمة المسيح، خرج منها سالماً. ولكنهم اخترعوا اتهاماً آخر يهم الإمبراطور نفسه، فأعلنوا أن أثناسيوس هدَّد أنه يستطيع أن يمنع القمح الذي يُرسل من الإسكندرية إلى القسطنطينية، مما أغضب الإمبراطور، وبدلاً من أن يُعطي فرصة للقديس أثناسيوس ليدافع عن نفسه، إذا به ينفيه بعيداً إلى مدينة تريف التي كانت عاصمة بلاد الغال (فرنسا) في ٥ فبراير سنة ٣٣٦م. وبعد موت الإمبراطور قسطنطين عاد القديس أثناسيوس إلى الإسكندرية سنة ٣٣٧م.

وهكذا تأرجحت حياة القديس أثناسيوس ما بين نفي وعودة إلى كرسيه عدة مرات، حتى أنه نفي ٥ مرات. وكانت المدة التي قضاها في المنفى بعيداً عن كرسيه حوالي ١٧ سنة؛ أما إجمالي المدة التي قضاها في الكرسي المرقسي حوالي ٢٧ سنة.

نياحة القديس أثناسيوس الرسولي:

في سنة ٣٧٢م، كتب القديس أثناسيوس كتابين ضد أخطاء أبوليناريوس. ولكنه تحاشى أن يذكر اسم أبوليناريوس، لأنه كان صديقاً قديماً له، بل وكان ممثلاً مع القديس أثناسيوس في مجمع عقد في الإسكندرية سنة ٣٦٢م بواسطة وفد رسمي من قبله، ولكن للأسف زاغت روح أبوليناريوس بعيداً عن روح الإنجيل. وللقديس أثناسيوس عبارات لاهوتية عميقة وشاملة وقاطعة في هذين الكتابين ضد أخطاء أبوليناريوس: “أنَّ المسيح إله حقيقي في الجسد، وجسد حقيقي في الكلمة”.

وظل القديس أثناسيوس يكتب ويشرح ويرد على رسائل ويتصرف كمستشار لكافة كنائس العالم، وكعون لكل أسقف مضطهد. وكانت رسائله وتوسطاته ذات احترام بالغ لدى كافة أساقفة العالم.

وظل البابا أثناسيوس بكل صحته لم تكل عيناه، ولا شاخ عقله قط، حتى ناهز الخامسة والسبعين من عمره، قضى منها ٤٥ سنة في خدمة أسقفيته بل والعالم المسيحي كله، إلى أن أسلم روحه الطاهرة في يدي الرب الذي أحبه سنة ٣٧٣م.

لقد تداعى البابا أثناسيوس تحت ثقل السنين، لتتلألأ عقيدة نيقية على ممر الدهور. لقد تنيح البابا أثناسيوس، وبقيت الـ “هوموؤوسيون” حية إلى الأبد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top