البابا أندرونيقوس
البطريرك الـ ٣٧
(٦١١-٦١٧م)
من المؤلم أن بلادنا كانت مطمع الغزاة من الشرق، طمعاً في خيراتها الوافرة واعتدال جوها وكرم نهرها الفياض وخصوبة أرضها الغرينية. وكان هؤلاء الغزاة لا يكتفون بسلب خيراتها التي وهبها الله لأهلها المصريين الكادحين الطيبين، لكنهم كانوا يغدرون بهم فيستبدون بشعبها الثابت الصبور.
وكان الضغط الأجنبي على أشدّه في ذلك العصر (القرن السابع) نظراً للوهن الذي أصاب أطراف الإمبراطورية البيزنطية في الشرق نتيجة الاضطرابات التي أعقبت مجمع خلقيدونية وتمشك أهل مصر والمشرق بالرؤية والعقيدة اللاهوتية للقديس كيرلس الكبير ومن بعده القديس ساويرس الأنطاكي في وجه الحُكّام البيزنطيين القابعين في القسطنطينية؛ والسبب الثاني الذي شجع الغزاة – وهو مرتبط بالسبب الأول – أن التنكيل الذي نگل به الجنود البيزنطيون شعوب الشرق نتيجة هذا الجدل الديني أفقد هذه الشعوب قدرة الدفاع عن أرضهم وحدودهم، مما جعل الغزاة الآتين من الشرق يتجسّسون حرية هذه الشعوب ويطمئنون على فقدانها، فيطمعون في خيراتها ويستسهلون غزوها.
وهكذا بدأ الغزو الفارسي أولاً يجتاح سوريا وفلسطين، ثم انتقل إلى مصر حوالي سنة ٣١٦- ۳۱۷ للشهداء، حيث بدأت الجيوش الفارسية تعيث في البلاد فساداً وتنشر الرعب والفزع في كل مكان، وكانت نزعة الفرس إلى التخريب عنيفة إلى حدّ أنهم كانوا يُخربون لمجرد التخريب.
أعمال الغزو الفارسي التخريبية:
وأول هذه الأعمال التخريبية كان انقضاضهم على الأديرة المتاخمة للإسكندرية وتدميرها عن آخرها، ويُقدِّر مؤلّف كتاب تاريخ البطاركة الأنبا ساويرس بن المقفَّع في القرن العاشر (أي بعد الغزو الفارسي بثلاثمائة سنة) عدد الأديرة بستمائة دير عامر كأنها أبراج الحمام.
لكن هذا المؤرّخ يصف حالة الرهبان في هذه الأديرة وصفاً مؤلماً، إذ يقول إنهم كانوا مستغنين بطرين بلا خوف من كثرة نعمتهم ويفعلون أفعال الهزء ! ويقول إن جيش الفرس أحاط بهم من غربي الديارات ولم يبقَ لهم ملجأ، فقُتلوا جميعهم بالسيف إلا قليلون اختفوا ونجوا.
ويقول إن جيش الفرس انتقل إلى الصعيد وفعل نفس الأمر برهبان الأديرة هناك وقتل سبعمائة راهب، وغير ذلك من البلايا التي فعلها.
حدث كل هذا في نهاية عهد البابا أنسطاسيوس، وقبل تولّي خليفته البابا أندرونيقوس.
رسامة الشماس العالم أندرونيقوس أسقفاً على مدينة الإسكندرية العظمى:
فلما تنيح البابا أنسطاسيوس، تأخرت رسامة خليفة له بسبب تدخل الفرس الغزاة وإصرارهم على اعتناق المسيحيين الأرثوذكس هرطقة النسطورية التي كانت منتشرة في بلاد فارس. فأَبَى المصريون الإذعان لهذا الحكم التعسُّفي. وأخيراً، تمكنوا من إقامة البابا السابع والثلاثين بعد القديس مرقس الرسول على كرسي الإسكندرية (سنة ٣٢٧ش/ ٦١١م)، وكان عالماً غنياً جداً مُحباً للصدقة، وشماساً في كنيسة الإنجيليين، وكان أهله من مُقدَّمي المدينة. ومن أجل قوة نفوذ سلطانه لم يقدر الهراطقة أن يُخرجوه من الإسكندرية إلى الأديرة، فسمحت له الحكومة بالبقاء في مقر كرسيه. فجلس في القلاية البطريركية بالإسكندرية دون مساس بحريته. ولذلك، عم السلام على الكنيسة طوال فترة حبريته القصيرة.
وقد تمت رسامته في الكنيسة المرقسية بالإسكندرية تبعاً للتقليد الأصيل بدلاً من أن تتم في أحد الأديرة كما حصل مع سلفائه بعد مجمع خلقيدونية.
ولم يقض البابا أندرونيقوس في باباويته غير فترة قصيرة حتى بدأت الجيوش الفارسية تعيث في الأرض فساداً كما أوضحنا.
وكأن الآلام التي عاناها الأقباط المصريون على أيدي البيزنطيين لم تكف حتى يتبعها هذا الطغيان الجديد. وخلال هذا الاستبداد الوحشي وهذا الإمعان في التخريب من جانب الفرس المستعمرين، كان البابا أندرونيقوس يتنقل بين شعبه المعذب يواسي الحزين ويضمد جراح المكلوم. وكان في الوقت نفسه يُذكّر هذا الشعب المتوجع المحتمل للمحن بالتعاليم الروحية التي تؤهل المظلوم والمكلوم لأن يرى الرجاء من وراء الضيق والألم.
تأخُر إقامة البطريرك الملكي الدخيل ثم إقامته:
كان إمبراطور ذلك الزمان هو هرقل قيصر الرومان وكان البطريرك يوحنا الرحيم البطريرك الملكي الدخيل (الذي كانت سيرته طيبة وتعاون مع بطريرك الكنيسة السابق البابا أنسطاسيوس) قد توفي قبل البطريرك المصري بسنة واحدة.
ولم يتمكن الإمبراطور البيزنطي من إقامة بطريرك ملكي في مصر بسبب انشغاله بالدفاع عن القسطنطينية عاصمة ملكه.
وهكذا استمرت الكنيستان المصرية والملكيَّة بلا رئيس حتى أقام المصريون بطريركهم. فتنبه الأروام (اليونانيون في مصر أتباع مجمع خلقيدونية) وأرادوا محاكاتهم خوفاً من أن يستقل البطريرك المصري بإيراد الكنائس التي صارت في حوزتهم فلم ينتظروا أمر القيصر بل انتخبوا رجلاً يُدعى “جرجس”، ورسموه بطريركاً لهم.
بدء ظهور بنيامين الراهب الذي سيصير خليفة لأندرونيقوس:
في ذلك الوقت، وبالرغم من تخريب الفُرْس للأديرة في الإسكندرية والصعيد، إلا أن الله حفظ ديراً لم يخربه الفرس ورعى فيه راهباً. وكان هذا الراهب هو بنيامين من دير يُعرف باسم “كينوبوس” (غالباً أحد أديرة الحياة المشتركة الباخومية).
وعاش هذا الراهب تحت إرشاد شيخ اسمه ثاؤنا ربَّاه بخوف الله حتى برع في العلوم الروحية وبلغ درجة فائقة في القداسة وكان أكثر قراءته في إنجيل يوحنا حتى حفظه وكان يسلك في النسك والصلاة. وذات مرة نظر في إحدى الليالى في منامه رجلاً منيراً وقف به وقال له: افرح يا بنيامين الخروف المتواضع والراعي معاً الذي يرعى القطيع الناطق الذي للمسيح.
فلما سمع هذا الكلام اضطرب وقلق. ثم إنه قام مسرعاً فأعلم أباه ثاؤنا. فقال له: لا تتعجرف يا ولدي فإن الشيطان أراد بهذا أن يُهلكك بالكبرياء، فامض الآن واستيقظ لنفسك ولا تعثر بالمجد الفارغ، لأني هوذا لي في هذا الدير خمسون سنة ما رأيتُ شيئاً من هذا، ولا قال لي أحد إنه رأى مثل هذا فسكت بنيامين وقبل قول معلّمه . وكانت النعمة تتزايد عنده يوماً بعد يوم.
وكان الشيخ ثاؤنا وكل من يعرفه يبهتون من نعمة الله التي عليه . فأخذه الشيخ ثاؤنا ومضى إلى الأب أندرونيقوس البطريرك وشرح له حاله، فاحتجزه عنده ورسمه قساً وجعله مساعداً له في أعمال البيعة.
انتقال البابا أندرو نيقوس بعد ست سنين من جهاده
وقضى هذا البابا الجليل سنواتٍ ستاً (أو ما يزيد بقليل) مداوماً على عمل الرحمة والافتقاد لشعبه، مشاركاً ومشتركاً معهم في آلامهم وآمالهم، حيث رأى اضطهاد الفرس الكريه لشعبه وصبر على ما حل به ومات شيخاً وهو حافظ الأمانة المستقيمة أمانة آبائه.
وكانت نياحته في ٨ طوبة سنة ٣٣٣ش / ٦١٧م في عصر الإمبراطور هرقل.
ونُقدِّم هنا تحليلاً لحال علماء الكنيسة في وسط هذا العصر المليء بالمآسي والمحن
الكنيسة جمعت بين الثبات على الإيمان والبحث العلمي:
كانت مصر في القرنين التاليين لمجمع خلقيدونية فريسة للاضطرابات والقلاقل نتيجة للصراع الذي لا هوادة فيه : صراع بين أباطرة القسطنطينية المستعمرين المستبدين، وبين الشعب المصري الثائر عليهم وعلى استبدادهم.
وإنه لمن دواعي فخرنا واعتزازنا أن الكنيسة رغم التوتر المتزايد ظلت ثابتة على عقيدتها في جلال ووقار، متمسكة بإيمانها الذي سلّمه إياها الرسل وخلفاؤهم.
ومما يزيد الثبات مجداً أن الكنيسة شجّعت البحث العلمي والتفكير الحر، إذ وجدت فيهما الوسيلة التي يستطيع بواسطتها بعض الناس أن يلمحوا قَبَساً من حقيقة الأسرار المسيحية. ولقد كان آباء الإسكندرية يفرحون حين يجدون شخصاً يسعى إلى سَبر غور التعاليم المستعلنة في الكتاب المقدس. وبهذا الموقف الحكيم بإزاء الساعين نحو المعرفة أقامت الكنيسة صرح الإيمان شامخاً على أساس متين، بل لقد درس آباء الكنيسة الفلسفة الوثنية بدلاً من أن يستخفوا بها أو بالمقبلين على تعلّمها لأنهم كانوا يعدونها درجات توصل إلى المسيحية.
ولم يكن جمعهم بين التعاليم المسيحية والفلسفة غير المسيحية بالنقيض الوحيد؛ بل لقد جمع آباؤنا بين شتّى المتناقضات، إذ قد عرفوا أن يجمعوا بين قيمة الفرد إلى جانب أهمية الجماعة، وبين تقديرهم للعزَّة الإنسانية مع إدراكهم لضعفها. فَهُم قد رأوا في المسيح الرقة والعذوبة المتناهيتين مقترنتين بالقوة والحزم كما رأوا في الخالق المبدع الآب السماوي الرحوم الذي يرعى الإنسان كحدقة عينه، بينما هو ضابط الكل والسر المرهوب. وليس بغريب أن يُدركوا أن الله قد جمع كل هذه المتناقضات، لأنهم جمعوا المتناقضات في أشخاصهم، إذ قد امتلأت نفوسهم سكينة مع أنهم عرفوا الفقر والجوع والتشرد والعذاب.
ولقد دفع المصريون أفدح الأثمان في سبيل الاحتفاظ بعقيدتهم الأرثوذكسية صافية نقية. وكانوا، كلما أمعن الأباطرة استبداداً، ازدادوا ثباتاً واستبسالاً. ولقد ظل الأباطرة على بطشهم حتى عندما كانوا يضطرون إلى محاربة جموع القبائل المتبربرة التي نجحت في النهاية في الظفر بهم، وحتى عندما كانوا يُقاتلون الفرس الذين لم يهادنوهم ومن أبرز الأمثلة على استبداد الأباطرة البيزنطيين بالمصريين فرضهم دخلاء على السدة المرقسية، يُعيّنونهم في القسطنطينية ويُرسلونهم إلى الإسكندرية يصحبهم الجند مزودين بالأوامر المشددة بأن كل مَن لا يخضع لسلطانهم سيلْقى أقسى العذاب وأمره. وفي سنة ٦١٧م .ش، حين انتقل البابا أندورنيقوس إلى مساكن النور، كان الإمبراطور هرقل لا يزال متربعاً على عرش الإمبراطورية الشرقية. وقد أحرز الفرس في أيامه عدة انتصارات إلى حدّ أنهم اغتصبوا مصر من قبضته وظلوا مُسيطرين عليها ست سنوات، وأخيراً نجح في إجلائهم عنها.
ولم يكد يستقر به المقام ثانية حتى عاود سياسة البطش والفتك، ففرض عليهم بطريركاً دخيلاً، وطرد باباهم الشرعي من جهة إلى أخرى واضطهد جميع الذين لم يقبلوا الإذعان لصنيعته. ولأن البابا أندرونيقوس كان سليل عائلة شريفة ذات نفوذ واسع استطاع أن يبقى في الإسكندرية. ولكنه – بالرغم مما لعائلته من نفوذ نفوذ – لم يستطع لم يستطع أن يُخفّف من حدة الاستبداد البيزنطي، كما لم يتمكن من أن يُجنّب أساقفته مرارة النفي. ولم يكن له يومذاك من عزاء إلا في صحبة سكرتيره المتفاني بنيامين. وقد تبادَل البابا الشيخ وسكرتيره الشاب المحبة والإعجاب. وبهذه العاطفة الجياشة المتبادلة بينهما استطاع كل منهما أن يُعزّي الآخر ويُشدّده.