(نيقية سنة ٣٢٥م)
بدخول الكنيسة عصر المجامع المسكونية، دخلت المسيحية حقبة جديدة من تاريخها. وأول هذه المجامع كان مجمع نيقية المسكوني الأول المنعقد سنة ٣٢٥م بسبب بدعة آريوس. والحقيقة أن هذه البدعة كانت مثل كل البدع والهرطقات التي مرت بها الكنيسة خلال الثلاثة القرون الأولى، والتي كانت الكنائس تناقشها وتحكم عليها بواسطة مجمع محلي يعقده أسقف المدينة مع مساعديه من الأساقفة والكهنة والشمامسة؛ إذ كانوا يستعرضون فيه الهرطقة ويناقشون صاحبها محاولين إقناعه ورده عن خطئه، ثم يصدرون حكمهم بعد ذلك فيها.
ولكن بعد دخول الدولة الرومانية كمناصرة للكنيسة المسيحية صارت هي اليد الفعلية والسلطة التنفيذية للمجامع، وصار الإمبراطور هو صاحب المبادرة لحل المشاكل اللاهوتية والتعليمية. لذلك ما أن انفرد قسطنطين الكبير بالحكم سنة ٣٢٤م، وضم الشرق لسلطانه بعد حربه مع صهره ليسينيوس – زوج أخته قسطنطيا – حتى واجهه الانقسام الحادث في كنيسة مصر وفلسطين وآسيا الصغرى بسبب هرطقة آريوس الذي استغاث بصديق تلمذته يوسابيوس النيقوميدي أسقف العاصمة الإمبراطورية وقتئذ نيقوميديا، والذي كان قريباً من الإمبراطور.
من هو آريوس؟ (٢٥٦ – ٣٣٦م)
كان آريوس من مواليد ليبيا، وتعلم في أنطاكية حيث بدأت فيها مدرسة لاهوتية أسسها أحد العلماء المسيحيين ويُدعى لوسيان، الذي كان عالماً في نصوص الكتاب المقدس، كما اشتهر بمراجعاته لنص الترجمة السبعينية. هذه الأبحاث كان قد بدأها أوريجانوس في الإسكندرية وأكملها في فلسطين، وعنه ورث لوسيان (أو لوكيانوس) هذا النشاط العلمي. ولكن للأسف كانت للوسيان أخطاؤه اللاهوتية، لأنه تتلمذ لبولس السموساطي أسقف أنطاكية المعزول حوالي سنة ٢٦٤م. وقد توفي لوسيان هذا شهيداً في اضطهاد دقلديانوس. لكن ذلك لم يمنع الكنيسة من أن تقول عنه إنه كان آريوسياً قبلما يوجد آريوس.
وبعد عودة آريوس من أنطاكية استقر في الإسكندرية، وسيم شماساً على يد البابا بطرس خاتم الشهداء، الذي اشتم فيه – فيما بعد – رائحة الاعتداد بالذات والغرور مع انسياقه وراء الفلسفة اليونانية فظهرت بوادر هر طقته، وكان التحذير الذي نبه إليه خلفاءه أرشيلاوس البطريرك الـ ١٨ وألكسندروس البطريرك الـ ١٩.
ورغم هذا التحذير، كان مظهره النسكي، وذلاقة لسانه وقدرته المنطقية، وطلاقة حديثه، وطلاوة تعابيره؛ سبباً في أن يقوم أرشيلاوس – حينما صار أسقفاً للإسكندرية – برسامته كاهناً رغم تحذير سلفه القديس بطرس خاتم الشهداء.
وعلى كل حال لم يبق البابا أرشيلاوس على كرسي الأسقفية سوى ستة أشهر، وتولى بعده البابا ألكسندروس الذي حاول رد آريوس بالحوار الهادئ دون جدوى. وعقد بعد ذلك مجمعاً حضره آريوس فأصر على عناده؛ ولذلك عاد القديس ألكسندروس فعقد مجمعاً مكانياً ثانياً سنة ۳۱۸م من مئة أسقف من مصر وليبيا مع الكهنة والشمامسة، فحرموه وقطعوه من الكنيسة هو ومؤيديه، وكانوا أسقفين من ليبيا، وخمسة كهنة، وستة شمامسة.
أسباب انتشار البدعة:
1. السنوات التي أعقبت فترات الاضطهاد، مع وجود العديد من المرتدين الذين لم يقبلوا قوانين التوبة للرجوع إلى الكنيسة جعلتهم فريسة سهلة للوقوع في الهرطقات (مثل أتباع ملاتيوس).
2. طبيعة الشعب الإسكندري، حيث ينتشر في مدينة الإسكندرية الفلاسفة الوثنيون ونشاطهم ونهضاتهم لإحياء تراثهم الفلسفي.
3. وضماناً للانتشار والتبعية، ألف آريوس قطعاً شعرية ولحنها ووقعها كأغاني شعبية يتغنى بها العامة في الأسواق والشوارع، وأسماها: “الوليمة”، ويصفها القديس أثناسيوس الرسولي أنها موقعة على أنغام خليعة سهلت انتشارها.
4. شخصية آريوس نفسها ؛ فقد كان شيخاً يناهز السبعين عاماً، ناسكاً متقشفاً مهيب الطلعة، شاعراً موهوباً (ارجع إلى كتاب: القديس أثناسيوس الرسولي”، للأب متى المسكين، الطبعة الثالثة : ۲۰۰۸ ، ص ٤٤١ – ٤٤٥ ) .
ملخص التعليم الأريوسي:
تعليم آريوس هو قاعدة تبدأ منها الآريوسية فتغلق على الذهن الإدراك الصحيح للعلاقة الكائنة بين الله الآب وبين الله الابن. فاللاهوت في الله ليس فقط غير مخلوق، بل وأيضاً غير مولود والعامل المشترك في كل الهرطقات والبدع هو قيامها على مبدأ صحيح وتعليم إنجيلي حقيقي، ولكنه ينحصر فيه وحده ثم يبني عليه المبتدع نظرية منطقية تبدو أمامنا صحيحة وكأنها نظرية هندسية : “بما أنه كذا وكذا وكذا … إذن النتيجة هي كيت وكيت وكيت. هذا المنطق قادر على الوقوف أمام الحوار والجدال، ولذلك ينتهي بصاحبه إلى النتيجة التي ترفضها الكنيسة.
فكان تعليم الآريوسية هكذا:
1. إذا كان الآب قد ولد الابن، فالمولود يتحتم أن يكون له بدء وجود.
2. فإن كان للابن بدء وجود فبالتالي كان هناك زمن ما بعيد كان فيه الابن غير موجود.
3. إذن، فالابن مخلوق من العدم أو من اللاشيء.
وهكذا يكون الابن من أصل آخر غير جوهر الله الآب، ولكن هذا من وجهة نظر آريوس لم يكن يمنع أبداً أن يكون وسيطاً بين الله والبشر. فهو إله ثانٍ أو ثانوي، أو بمعنى آخر تكون ألوهيته تشريفية – بالتبنّي – بسابق علم الله وليس بحسب الجوهر بسبب استحقاقه الذي سيعلنه حينما يحل في جسد إنسان على الأرض.
هنا – بحسب آريوس – بنوة اللوغوس هي نعمة موهوبة للوغوس من الله، مثلنا. لكن ليس هناك شركة حقيقية جوهرية في الألوهية بين الآب والابن. والنتيجة التالية – وقد جاءت متأخرة نوعاً ما – بحسب هرطقة مقدونيوس – أن الروح القدس هو بكر أعمال خلقة الابن، كما أن الابن هو بكر أعمال الآب.
هذا التسلسل المنطقي سهل ومقنع عقلياً لمفكري القرن الرابع، لأنه يُقدم جواباً بسيطاً لكل التساؤلات الصعبة عن العلاقة بين الآب والابن ويتفادى الدخول في تفاصيل العلاقة السرية الداخلية بين الأقانيم. وبهذه السهولة المنطقية ينفتح الباب رحباً وواسعاً للإنسان غير المتعمق في كلمة الله لكي يُصدق هذه البدعة.
رد الفعل الآريوسي:
2. لم يستسلم آريوس بسهولة لقرار مجمع أساقفة كنيسة الإسكندرية، فلجأ إلى فلسطين و آسيا الصغرى حيث كان رفقاء تلمذته من مدرسة أنطاكية قد صاروا أساقفة من أمثال: يوسابيوس القيصري المؤرخ الكنسي المعروف وأحد المتحمسين لأوريجانوس؛ ويوسابيوس النيقوميدي، وكان أسقف بيروت ثم استطاع بطموحه وعلاقاته السياسية أن ينتقل إلى نيقوميديا قريباً من مقر الحكم الإمبراطوري ليكون أسقفها، وحتى بعد بناء القسطنطينية صار هو أسقفها سنة ٣٣٦م وقام بعماد قسطنطين الكبير. وقد عُقدت مجامع محلية في فلسطين وآسيا الصغرى رفضت قرارات القديس ألكسندروس و ساندت آریوس.
2. تصاعد الخلاف بسبب اعتراض أساقفة المدن الكبرى على المجامع المحلية. وقد أيد كل من مكاريوس أسقف أورشليم ويوستاثيوس أسقف أنطاكية وأسقف طرابلس وغيرهم البابا ألكسندروس.
3. تشدد البابا ألكسندروس في موقفه فأرسل رسائل لكل أساقفة العالم يشرح فيها خطورة التعليم الآريوسي، ويحذر من قبول آريوس.
وهكذا كان الموقف عندما انفرد قسطنطين الكبير بحكم الإمبراطورية الرومانية المتسعة والممتدة من الجزر البريطانية وأسبانيا غرباً حتى العراق شرقاً. وكان لابد من مواجهة هذا الاضطراب؛ لذلك كلف قسطنطين مستشاره الديني، وهو القديس هو سيوس أسقف قرطبة بأسبانيا، والذي كان أحد المعترفين الذين تعذَّبوا من جراء اضطهادات دقلديانوس وجاليريوس، والمشهود له بالتقوى والعلم، لكي يتدخل ويصالح الأطراف المتخاصمة. وقد سبق لقسطنطين أن انتدب الأسقف هوسيوس لمثل هذه المهام في شمال أفريقيا، ونجح في دحض بدعة دوناتس هناك. وبالفعل جاء القديس هوسيوس إلى الشرق واجتمع مع آريوس وحزبه، ومع القديس ألكسندروس، ولكن بدون فائدة مرجوة بسبب تعنت وعناد آريوس. لذلك اقترح الأسقف هوسيوس على الإمبراطور قسطنطين عقد مجمع مسكوني.
مجمع نيقية سنة ٣٢٥م:
بدأت جلسات مجمع نيقية في ٢٠ مايو سنة ٣٢٥م. ونيقية مدينة لا تبعد كثيراً عن العاصمة نيقوميديا مقر البلاط الإمبراطوري. وقد حضر المجمع ۳۱۸ أسقفاً بحسب تقليد الكنيسة الشرقية (الكنيسة الكاثوليكية لم تستقر بعد على هذا العدد). ورغم التسهيلات التي أوصى بها قسطنطين من تسخير وسائل المواصلات والاتصالات الإمبراطورية لتسهيل سفر وراحة الأساقفة الذين سيحضرون، إلا أن حضورهم لم يكن متناسباً مع التجمعات السكانية داخل حدود الإمبراطورية. فقد كان من الحاضرين أكثر من مائة أسقف من آسيا الصغرى، وحوالي ثلاثين من سوريا وفينيقية، وأقل من عشرين من فلسطين ومصر. أما الغرب فبالكاد حضر منهم ثلاثة أو أربعة أساقفة تصادف وجودهم في البلاط الإمبراطوري آنئذ لأسباب أخرى بخلاف انعقاد المجمع، وكان منهم هوسيوس أسقف قرطبة والمستشار الديني للإمبراطور. أما أسقف روما سلفستر فأرسل اثنين من كهنة روما يمثلانه، وإن كان هذا الأمر بموجب الصدفة البحتة، إلا أنه في المجامع المسكونية التالية كان بابا روما يمثله وفد أو مندوبون من طرفه. وحضر أيضاً البابا ألكسندروس بصحبة شماسه الشاب أثناسيوس، وبعض الأساقفة مثل بفنوتيوس أحد المعترفين.
ومن الجانب المعارض، حضر آريوس نفسه مع مؤيديه، وكان أقواهم يوسابيوس أسقف نيقوميديا وصديق تلمذة آريوس القديم.
جلسات المجمع:
إذا حاولنا أن نستعرض الحوارات التي دارت في قاعات الاجتماع، سنرى أن الاتجاهات اللاهوتية السائدة كانت هي:
1. الجناح الأيسر المتطرف، وهو يمثل الآريوسية الصلبة العنيدة، وهم جماعة قليلة العدد ملتفة حول يوسابيوس النيقوميدي وآريوس وأتباعه.
2. الجناح الأيسر المعتدل أو المحافظون ويمثلون التعليم اللاهوتي المتردد الذي لا يهتم بالتحديدات والتعريفات بقدر ما يتمسك بحرفية الكلمات، إذ لابد أن تكون من الكتاب المقدس. ويهتم هذا الجناح بالمحافظة على الوحدة كنظام قبل كل شيء، ويمثله يوسابيوس أسقف قيصرية فلسطين.
3. جناح اليمين المعتدل وهم الذين اكتشفوا خطورة الهرطقة الأريوسية وكانوا يتكتلون حول البابا ألكسندروس وشماسه الشاب واللاهوتي الفذ أثناسيوس، وانضم إليهم القديس هوسيوس أسقف قرطبة في أسبانيا.
4. أخيراً، جناح اليمين المتطرف، ويجتمع حول يوستاثيوس أسقف أنطاكية، ومارسيللوس أسقف أنقرة، الذي تطرف إلى الجهة المضادة بإنكاره تمايز أقانيم الآب والابن والروح القدس، وهو ما يسمى بـ “المونارخية”.
وبعد مداولات ومشاورات حادة قدّم إلى المجمع صورة الإيمان الذي تلقنه كنيسة أورشليم للموعوظين والمؤمنين الجدد وقت المعمودية. وهاك قانون إيمان كنيسة أورشليم مقارناً بصيغة إيمان مجمع نيقية :
إيمان كنيسة أورشليم | الإيمان النيقاوي |
نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل ونؤمن برب واحد يسوع المسيح كلمة الله، إله من إله، نور من نور حياة من حياة، الابن الوحيد الجنس بكر كل الخليقة مولود من الآب قبل كل الدهور، الذي به خلق كل شيء، وتجسد لأجل خلاصنا.
|
نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل، نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء، هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، تأنس وصلب عنا…
|
ورغم أن قانون إيمان كنيسة أورشليم لا يتناقض لاهوتياً مع مفاهيم الكنيسة وتعليمها، إلا أنه لا يُعطي جواباً على المشكلة المعروضة على المجمع، أي إيضاح العلاقة بين الآب والابن، تلك التي تعثر فيها آريوس. وقد لاحظ الشماس أثناسيوس كيف كان إحساس الرضا والموافقة من جانب الآريوسيين على هذه الصيغة. لذلك أضيفت على هذه الصيغة بعض التعريفات المحددة مثل: مولود من الآب قبل كل الدهور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر (هوموؤوسيوس) . وقد أثارت هذه الكلمة (هوموؤوسيوس) كثيراً من الجدل واللغط، لأنها حاصرت الآريوسيين وكشفت خداعهم من جهة إيمانهم بتدني الابن عن الآب، فحاولوا استبدالها بكلمة أخرى قريبة جداً منها وهي : (هومويؤوسيوس) أي مشابه للآب في الجوهر، لكن آباء المجمع رفضوها، لأنها لا تشرح المعنى الدقيق المسلم كتقليد كنسي تعليمي، لأن مشابهة جوهر الابن لجوهر الآب تفسر بمعنى وجود إلهين، بينما الإيمان الإنجيلي هو: فإنه فيه (أي في المسيح) يحل كل ملء اللاهوت (أي الألوهية) جسدياً» (كو (٩:٢).
بقية قرارات المجمع (أهم القرارات)
أهم قرارات مجمع نيقية بعد الرد على بدعة آريوس، هي:
1. إعطاء لقب بطريرك لأساقفة المدن الكبرى روما، الإسكندرية، أنطاكية.
2. تحجيم الملاتيين الذين كانوا يقاومون القديس ألكسندروس بحدود تحد من نشاطهم. وكما نعلم أن ملاتيوس أسقف ليكوبوليس (أسيوط) كان قد سقط في الارتداد في اضطهادات دقلديانوس، ثم عاد وتاب ولم تعجبه القوانين التأديبية التي وضعها القديس بطرس خاتم الشهداء للراجعين، فانفصل عن الكنيسة وكون كنيسة مستقلة متشددة سماها: “كنيسة الشهداء”، ورسم أساقفة وكهنة في المدن التي كان أساقفتها في السجن أو في المنفى ودخل إلى مدينة الإسكندرية في غياب أسقفها عندما كان القديس بطرس في السجن. وكان الملاتيون مشايعين لبدعة آريوس وبقيت شوكتهم تُنخّص على كنيسة الإسكندرية إلى ما بعد منتصف القرن الرابع.
3. كان من ضمن المقترحات التي قدّمت للمجمع، قرار بفرض البتولية على الإكليروس.
وكان مثل هذا القرار قد صدر قبل مجمع نيقية بحوالي عشرين سنة (سنة ٣٠٥م) في مجمع محلي في أسبانيا، وهو مجمع الفيرا (قانون۳۳)، لذلك فمن المرجح أن يكون القديس هوسيوس أسقف قرطبة هو الذي قدم هذا القرار. ولكن الأسقف المصري بفنوتيوس أسقف طيبة الأقصر – عارض هذا القرار علانية، وكان هذا القديس من المعترفين الذين تعذَّبوا على يد مكسيميان إذ قلعت عينه، كما أنه اشتهر بصنع المعجزات، وكان بتولاً غير متزوج. وقد وقف هذا القديس أثناء مناقشة هذا الاقتراح وقال: “إن هذا النير الثقيل جداً ما ينبغي أن يلتزم به الإكليروس، لأن الزواج والمعاشرة الزوجية مكرمة وغير نجسة. فلا يجب أن تلزم الكنيسة بهذا التشدد المتطرف، إذ لا يستطيع الجميع أن يعيشوا في بتولية مطلقة، لأن عدم وجود هذا القرار سيحفظ للزوجة عفتها، وقد يُساء إليها إذا امتنع رجلها وهو من الإكليروس عن معاشرتها. لذلك يكفي المحافظة على التقليد الكنسي القديم، وهو أن الذين يقبلون سر الكهنوت دون أن يكونوا متزوجين فليبقوا هكذا. وإن كان المدعو للكهنوت متزوجاً فلا ينفصل عن زوجته، ويكفي المثل هؤلاء ألا يتزوجوا ثانية في حالة موت الزوجة.
وهذه هي قوانين الرسل المعمول بها منذ القرنين الثاني والثالث في الكنيسة الشرقية. وهكذا امتنع المجمع عن إصدار هذا القرار المجحف بحق سر الزيجة المقدس، وما زال سارياً حتى الآن في الكنائس الشرقية الأرثوذكسية بعائلتيها.
4. تعييد الفصح: قرر المجمع ما كانت تمارسه أغلب الكنائس كعادة تقليدية، وهو تعييد الفصح احتراماً ليوم الصلب الأسبوعي وليس بحسب اليوم الشهري؛ أي بأن يكون يوم الصلبوت هو الجمعة، والقيامة يوم الأحد بدلاً من الالتزام بالتاريخ الشهري وهو الرابع عشر من شهر نيسان، وهو التقليد الذي تمسكت به كنائس آسيا الصغرى بخلاف سائر كنائس العالم. وهذا ما كان سارياً في الإسكندرية وفي روما.
ويرجع هذا الخلاف إلى أوائل القرن الثاني، حيث حاول بوليكاربوس أسقف سميرنا وتلميذ القديس يوحنا الإنجيلي التفاوض بشأنه مع أنيسيتوس أسقف روما سنة ١٥٤م، ولكنهما لم يتفقا. ورغم اختلافهما إلا أن أسقف روما قدَّم ضيفه الأسقف بوليكاربوس لخدمة القداس ورفع الذبيحة الإلهية، وافترقا كصديقين. وفي نهاية القرن الثاني، حاول فيكتور أسقف روما إجبار كنائس آسيا الصغرى بالتخلّي عن احتفالها بالفصح المسيحي مع الفصح اليهودي (١٤ نيسان) مهدداً بالقطع من الشركة والحرومات لكل من يخالفه، إلا أن بوليكراتس أسقف أفسس وقتئذ رفض الخضوع للتهديد. وتدخل القديس إيرينيئوس (ومعنى اسمه : ابن السلام) وهو أصلاً من آسيا الصغرى، ولكنه صار بعد ذلك أسقفاً على ليون في بلاد الغال – فرنسا – ليحث أسقف روما على المحافظة على الوحدة أفضل وأهم من توحيد العادات المستقرة في كل كنيسة، وقد نجح ابن السلام (القديس إيرينيئوس) في مهمته.
وبمرور الزمن ضعفت جماعة “الأربعة عشريين – كما كانوا يدعون – وكان مجمع نيقية فرصة مناسبة لتوحيد الاحتفال بعيد الفصح؛ وأُسند لبطريرك الإسكندرية مهمة تحديد الاعتدال الربيعي بدلاً من اقتباسه من اليهود، وكذلك حساب الأشهر القمرية، وهو نظام الأبقطي المعروف في الكنيسة القبطية والمنسوب للبابا ديمتريوس البطريرك الـ ۱۲، وهو الحساب الفلكي الذي قام به عالم الفلك المصري بطليموس القرن الثاني قبل الميلاد). ولذلك كان على البطريرك الإسكندري بعد تعييد الإبيفانيا عيد الغطاس أن يُرسل إلى بطاركة وأساقفة العالم تحديد موعد عيد الفصح في رسائل ،فصحية، وكانت فرصة مناسبة يستعرض فيها بطريرك الإسكندرية مع أساقفة العالم المشاكل اللاهوتية أو التعليمية المعقدة. وما زال التاريخ يحفظ لنا جزءاً كبيراً من رسائل القديس أثناسيوس الفصحية، وكذلك رسائل خلفائه من أمثال القديس كيرلس الكبير .
5. انتهى المجمع إلى تجريد وقطع آريوس والأسقفين المنحازين له. وبعد ثلاثة أشهر حاول يوسابيوس النيقوميدي مع اثنين من أساقفة آسيا الصغرى سحب موافقتهم، فتم نفيهم أيضاً، وإن كانت قد جرت بعد ذلك أحداث غيرت مجرى التاريخ نتيجة مؤامرات هذا الأسقف الأريوسي (يوسابيوس النيقوميدي).
ملاحظات أخيرة:
١. تقييم هذا المجمع: أثارت كلمة “مساوٍ للآب في الجوهر” الكثير من الانتقاد حتى بين اللاهوتيين الكاثوليك المعاصرين حتى أنهم يقولون – بلهجة مخففة طبعاً – إن إدخال هذا المصطلح يعني اعترافاً كنسياً جماعياً بالمنطق العقلاني، لأن هذه الكلمة لم ترد في الكتاب المقدس، بل هي استنتاج العقل الإنساني لأجل تحديد وتعريف العلاقة بين الآب والابن في محاولاته لشرح وتفسير الوحي الإلهي.
والحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا أبداً، أن مصطلح الـ “هوموؤوسيوس” ليس من نتاج العقل البشري للآباء المجتمعين في نيقية، بل هو مصطلح تقليدي كنسي تداوله آباء الكنيسة منذ القرن الثاني الميلادي؛ إذ نراه في كتابات القديس إيرينيئوس، وأوريجانوس الذي يشرح بها علاقة الآب بالابن في شرح رسالة العبرانيين بنفس المعنى الذي قصده مجمع نيقية (٢). ولقد كان القديس أثناسيوس الرسولي من أشد المتمسكين بالتقليد الكنسي رغم أنه درس وتتلمذ لجميع آباء كنيسة الإسكندرية المعروف عنهم تألفهم مع الفلسفة اليونانية ابتداء من كليمندس وأوريجانوس وثيئوغنسطس. ومع ذلك بقي التقليد الكنسي راسخاً في أعماقه دون أن يتشوه بأية صورة من صور الفلسفة اليونانية والتقليد الكنسي في مدرسة الإسكندرية اللاهوتية هو الدعامة الرئيسية لفهم وشرح الكتاب المقدس، ويشهد بذلك دراسة كتابات آباء الإسكندرية في القرنين الثاني والثالث، حتى أن القديس أثناسيوس يقول دائماً ويكرر مراراً: “إننا نحن شهود الحقيقة واقعة أمامنا، ولسنا شراحاً أو مفسرين.
2- المعروف لدى الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية أن قوانين مجمع نيقية الأصلية عشرون قانوناً.