يوسابيوس القيصري 

مؤرخ تاريخ الكنيسة 

مقدمة : 

يضع العلماء اللاهوتيون إسم «يوسابيوس القيصري» على رأس قائمة آباء الكنيسة في عصرهم الذهبي، وذلك ليس عن تقييم لشخص يوسابيوس نفسه، بل تكريماً للعمل الفكري الذي قام به واشتهر إسمه بسببه، وهو كتاب «تاريخ الكنيسة»

و «التاريخ» في المسيحية له شأن لاهوتى خاص. فالمسيحية هي ديانة «تاريخية» بمعنى أنها تمثل حدث دخول الله في التاريخ، بالتجسد الإلهي، الأمر الذي حوّل مجرى التاريخ تحولاً جذرياً. فالله بعد أن كان يبدو أنه خارج التاريخ، يحركه و يدفع أحداثه (من خلال شخصيات التاريخ الشهيرة) من الخارج، استعلن الآن سيداً على التاريخ من داخله، يعمل من داخل التاريخ نفسه، يقوده ويحركه من داخل البشرية الجديدة التي اتخذها لنفسه وقدسها وجعلها كالخميرة التي تجدد العالم أجمع.

الظروف الذي واجهت اللاهوت الأوريجاني

بعد موت أوريجانوس بنصف قرن انتشر لاهوته في كل الكنيسة الشرقية، وكان معتبراً أنه اللاهوت العلمي الحقيقي الوحيد الذي يتماشى مع الثقافة الرفيعة، وعلى الأخص مع الفلسفة. 

وقد انحاز لهذا اللاهوت قادة المسيحية ذوو النشاط الذهني، والمسيحيون العاملون في المدارس اللاهوتية ومراكز التعليم الأخرى، وأساقفة الكراسي الكبرى، وجاهدوا في سبيل أن يعلموا و يعملوا بحسب روح هذا العلم الجديد.

ولكن المفاهيم بدأت تتغير وتختلط بمفاهيم أخرى، وتعدّل نفسها لتواجه الظروف الجديدة في الكنيسة والأفكار السائدة في العالم، مما أدّى إلى مصاعب شتى لم يكن من السهل التغلب عليها. فالمبادىء الأرسطوطالية أفسدت الأسس الأفلاطونية لمنهج أوريجانس، والإهتمامات الكنسية ومتطلبات الإنجيل واجهت المنطق الأرسطوطالي. وبدأت المشاكل تظهر. 

كان أوريجانوس مفكراً منهجياً، وبهذه الصفة صبغ تفاسيره ولاهوتياته بنمط موحد وحيد، هو النمط المنهجي الفكري. أما جيل اللاهوتيين بعده، فقد حاولوا أن يستخدموا مناهج جديدة غير تلك التي استخدمها. ودائماً ، كان التحول من فلسفة أو من منهج قديم إلى منهج جديد يبرز شخصيات جديدة. و «بامفيليوس » كاهن كنيسة قيصرية نموذج لهذا الجيل الجديد.

من هو بامفيليوس؟ 

«بامفيليوس» كان محامياً غنياً من بيروت في فينيقيا، قرر تحت تأثير «بيريوس» مدير المدرسة اللاهوتية الإسكندرية، أن يهجر عمله العام و يكرس حياته كلها لخدمة الكنيسة، وإذ صار كاهن كنيسة قيصرية صار بالتالي أمين المكتبة فيها، تلك المكتبة التي كانت تحوي تراث أوريجانوس ومؤلفاته فبدأ ـ بحكم عمله- يصنف و يفحص هذه الكتب. 

وبدأ بامفيليوس يتحمس لإصدار نص معتمد من الكتاب المقدس، ولكن على أساس نص أوريجانس المسمى «الهكسابلا » وتفاسيره على العهدين القديم والجديد. 

ولإتمام هذه المهمة احتاج إلى معاونين ومساعدين . فتقدم «يوسابيوس » ليكون عضواً عاملاً في تلك الجماعة الدراسية، وبدأ يساعد بامفيليوس. أما بامفيليوس فقد شجع يوسابيوس كيف يكون معتمداً على نفسه وذهنه، ودان يوسابيوس لمعلمه بامفيليوس بالفضل الكثير، وعبر عن امتنانه وحبه لأستاذه إذ قرن إسمه بإسمه (كما كان يفعل العبيد وقتئذ وحسب المبدأ القديم القائل «من علمني حرفاً صرت له عبداً»). 

وهكذا دخل يوسابيوس في تاريخ آباء الكنيسة باسم «بامفيليوس يوسابيوس». وما زال يوجد مخطوط قديم من نسخة الكتاب المقدس التي أعدها بامفيليوس و يوسابيوس معاً، يحوي ملاحظة تسجل هذا العمل المشترك في مراجعة الكتاب المقدس. 

لقد استلم يوسابيوس من معلمه تكريم أوريجانوس تكريماً عميقاً، وانشغل بتراثه الأدبي حتى يزيد من شهرة هذا العلامة الفذ، وبدأ في أن يصدر مجموعة مراسلاته، الأمر الذي ساعد على منع ضياع هذا التراث أو تشتته.

وفي خلال الإضطهاد الأخير أُودع بامفيليوس في السجن. وقرر وهو في مواجهة الموت أن يعد دفاعاً آخر عن أوريجانوس في مواجهة نقد زملائه المسجونين وباقي اللاهوتيين الذين كانوا يقاومون أوريجانوس ولاهوته. وهذا الدفاع هو العمل الأدبي الوحيد الذي تركه بامفيليوس ، كما أنه أول عمل أتاه يوسابيوس تلميذه، إذ أنهى هذا العمل وأكمله بعد وفاة معلمه.

ومات بامفيليوس شهيداً، أما يوسابيوس الذي كان ما زال مجهولاً في ذلك الوقت، فقد هرب لحياته إلى صور ومن هناك إلى مصر. وبعد أن انتهى الإضطهاد عاد في سنة ٣٦٣ إلى قيصرية وصار أسقفاً عليها، ودخل في صداقة متينة مع قسطنطين الملك، وكان ذا تأثير عليه. وبدأت شهرته كعالم تطغى على شهرة معلمه، منذ ذلك التاريخ

بدء نشاط يوسابيوس العلمي: 

أكمل يـوسـابـيـوس دراساته الجامعية دون تعب، بالرغم من عواصف الإضطهاد المتلاحقة، وبدأ يجمع معلومات عن الإستشهاد و باقي الحوادث التاريخية التي حدثت في الكنيسة ما استطاع أن يضع يده عليها. وهكذا بدأ يكتب تاريخ الكنيسة

ولكنه بالرغم من كفاءته، إلا أنه أخفق في استيعاب قضية عصره التي كانت تختص بالجدل حول الثالوث. وإذ فقد استقلاله الفكري ووضوح رؤيته، رغب – في مرحلة من مراحل الصراع الأريوسي أن يصنع السلام بأي ثمن ولو بالمساومة على الحق ، مما جعله يظن ــ في سبيل ذلك – أن تعليم القديس أثناسيوس عن «الهوموؤوسيوس – وحدة الآب مع الإبن في الجوهر» ، يؤدي إلى بدعة «السابلية»، فانجذب أكثر فأكثر تجاه الأريوسية

أراد أن يكون عنصر مصالحة، في مجمع نيقية سنة ٣٢٥م. ولم يوقع على قانون الإيمان في مجمع نيقية سنة ٣٢٥م إلا بناء على أمر من الإمبراطور، ولم يستخدم قط في كتاباته بعد سنة ٣٢٥ تعبير «الهومؤوسيوس». 

وصف لكتابات يوسابيوس التاريخية 

من أبرز أعمال يوسابيوس : 

1- التواريخ Chronicles و ينقسم إلى قسمين : 

القسم الأول : ويهدف إلى سرد تاريخي لأهم الأحداث في كل أمة. وفيه يسرد تاريخ الكلدانيين والمصريين واليونانيين والرومانيين. 

والقسم الثاني : يقدم جدولاً تاريخياً لتوافق الأحداث معاً Synchronisation.
تبدأ من تاريخ ميلاد إبراهيم ( سنة ٢٠١٦ – ٢٠١٥ ق . م). و يتتبع فيها تواريخ الكتاب المقدس إلى صلب المسيح، حتى سنة ٣٠٣م. كل ذلك بالمقارنة مع تواريخ العالم السياسية. وكان هدف يوسابيوس أن يثبت أن الديانة اليهودية – التي تُعتبر المسيحية هي الإمتداد الشرعي لها ، هي أقدم من أية ديانة أخرى
وقد ترجم القديس چيروم القسم الثاني إلى اللاتينية . 

2 – كتاب «تاريخ الكنيسة»:

وهو تجميع حقائق ووثائق ومقتطفات من عدد كبير من الكتابات التي ألفت في السنوات المبكرة للكنيسة. وهي تصف حياة الكنيسة في عصورها المبكرة وحتى انتصار قسطنطين (سنة ٣١٣م) ، وذلك في ٩ كتب، وكتاب عاشر أضيف في فترة لاحقة من حياة يوسابيوس ليغطي الحقبة حتى سنة ٣٢٣ (هزيمة ليسنيوس وانفراد قسطنطين بالحكم)

إن قيمة تاريخ يوسابيوس أنه يسجل و يذكر لنا الشيء الكثير عن كتابات الآباء، وما فُقد منها وما اندثر. وإذا شئنا الدقة ، فكتاب تاريخ يوسابيوس هو تاريخ المصادر والمراجع الآبائية، وهو المصدر الوحيد لنا الذي يعرّفنا ببعض الكتابات التي ليس لها الآن مصدر آخر يعرفنا به. 

المصادر التي اعتمد عليها يوسابيوس : 

١ . المكتبة العامة بروما : 

يتكلم يوسابيوس عن المكتبة العامة في روما حيث يمكن لأي رائد للمكتبة أن يجد كتاب «فيلو» عن الفضائل ( ت . ك ۲ : ۱۸ : ۸) ، وكتابات يوسيفوس المؤرخ اليهودي ( ٩:٣ : ٢ ). 

٢ . مكتبة كنيسة أورشليم :

وقد أسس هذه المكتبة ألكسندر أسقف أورشليم ( ٢١٢ ٢٥٠ )، تلميذ بنتينوس وكلمنضس الإسكندري ، وهو صديق أوريجانوس

وقد استخدم يوسابيوس هذه المكتبة بنفسه وأثبت بعض الكتابات المسيحية التي وجدها فيها وهي: كتاب بيريللوس أسقف بوسطرة ببلاد العرب، وهيبوليتس، وغايس أسقف روما ( ت. ك.  ٦: ٢٠)

٣ . مكتبة قيصرية : 

وهي مدينته التي وُلد فيها وأقيم عليها أسقفاً ( ٦ : ۳۲ : ۳ ، ۷ : ۲۸ : ١ ) . وكان يقوم بتشغيل كتبة لينسخوا مستخرجات من هذه المكتبة. 

وقد أسس هذه المكتبة أوريجانوس وأستاذه بمفيليوس. وكانت تحوي مجموعة كبيرة من كتابات العصور المسيحية المبكرة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً

لقد جمع يـوسـابـيـوس أكثر من مائة رسالة لأوريجانوس ( ٦: ٣:٣٦) ، وقام بتجميع مجموعة من الكتابات الخاصة بقصص استشهاد الشهداء الأوائل ( ٤ : ١٥). بالإضافة إلى مجموعات أخرى ومجلدات أخرى

وهناك ملاحظة أخرى عن هذه المكتبة تفيدنا أن أوزيوس أسقف قيصرية حوالي سنة ٣٦٧م قام بتجديد بعض كتابات فيلو على رقوق من الجلد؛ هذا يعني أن معرفة يوسابيوس عن فيلو كانت غالباً مستمدة من هذه المكتبة. وقد دمّر العرب هذه المكتبة سنة ٦٣٧م. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى