التعليم عن الروح القدس
مقدمة:
يرتبط حضور الروح القدس في الخليقة بعطية الحياة، وهذا ما تُوضحه الكتب المقدسة. فالروح يعمل فينا بقوته وقدرته غير المخلوقة معطيا كل الأشياء المخلوقة وجودًا. هكذا يقول القديس أثناسيوس [إن الأشياء المخلوقة بالكلمة تنال قوة الوجود من الكلمة بالروح]. فقد كتب في المزمور الثانى والثلاثين ” بكلمة الرب تأسست السموات وبروح فيه كل قواتها “. وهذا واضح منذ اليوم الأول للخليقة، حيث تُعطى الحياة للخليقة وللكائنات الأولى بواسطة روح الله. وقد نفخ الله نفس الروح في وجه الإنسان الأول، لكى يجعل منه نفسا حية، بمعنى أن وجود الإنسان وحياته مرتبط بهذه العطية، فالإنسان صورة حقيقية لطاقة الإبداع الإلهية. يشرح القديس كيرلس الأسكندري هذا الأمر، فيقول [ إن الله جعل الإنسان شريكا في طبيعته الخاصة، لأنه ” نفخ في وجهه نسمة حياة ” أى روح الابن]. يقول أيضا : [إن الإنسان خُلق على صورة الله بنفخ الروح فيه .. عنصر مشابهة الله الذي هو ظاهر أكثر من غيره، هو عدم الفساد وعدم الفناء]. ويُعتَبر الإنسان الكائن الوحيد في الخليقة كلها الذي يُجسد إمكانية تحقيق الحياة فعلا، من خلال خضوعه لعمل روح الله فيه. فيتحول الكائن المخلوق المادى المعرض للفساد والفاني إلى كائن يحيا في “شركة” أى إلى كائن له حياة أبدية، وبنفس الطريقة، حلّ الروح القدس على العذراء القديسة ،مريم، لكى ينفخ في أحشائها الحياة الإلهية، لكى يتجسد كلمة الله من خلالها. وقد هب الروح أيضًا يوم الخمسين ” كريح عاصفة ” على جماعة التلاميذ الأوائل، لكى يجعل منهم الجسد الحي للبشرية. هذه المعطيات الكتابية تبين لنا أن الروح القدس هو معطى كل أشكال الحياة. وإذا خرج الإنسان خارج نطاق الحياة الروحية تحول إلى مجرد فرد يحيا لذاته، يسعى نحو المعرفة النفعية التي يسخرها لخدمة أغراضه وشهواته، وينحصر في اكتفائية مريضة ، تقود بالضرورة إلى الفساد والموت.
الطريق الوحيد الذي يقود نحو الحياة الحقيقية، هو في الخضوع لعمل روح الله، فالروح يُعطى الحياة، وفي نفس الوقت هو روح الحق، ومصدر المعرفة المحيية، كما يقول القديس مقاريوس: [ إن النفس العريانة والمقفرة من شركة الروح، الواقعة تحت فقر الخطية المرعب، لا تستطيع – حتى إذا رغبت – أن تثمر بالحق أى ثمر من ثمار روح البر قبل أن تدخل في شركة الروح]، ثم يضيف قائلا : [ إن أولئك الأغنياء بالروح القدس الذين عندهم الغنى السماوى حقا وشركة الروح داخل نفوسهم، فإنهم حينما يكلمون أحد بكلمة الحق .. ويريدون أن يعزوا النفوس فإنهم يتكلمون ويخرجون من غناهم ومن كنزهم الخاص الذي يمتلكونه في داخل نفوسهم]. ولذلك يصف القديس أثناسيوس قدرة الروح القدس على إعطاء الحياة فيلقبه بالروح المحيي ويقول: [ إنه يُدعى الروح المحيي وروح الحياة في المسيح يسوع لأنه منه تنال المخلوقات الحياة]، فالروح القدس يقود الإنسان في كل شئ إلى الكمال، وهو الذي يُعبر عن تنهد الخليقة وأنينها، ويهيئ تجلّيها الأخير في شخص المسيح القائم من بين الأموات . هكذا يتضح دور وعمل الروح القدس في الكون والإنسان إنه الحاضر في كل مكان والمالئ الكل.
لقد تعهد الروح القدس بكشف أعماق سر الله المكتوم منذ الدهور، يوم الخمسين، مُعلنا عن كل كنوز الحكمة والفهم المذخرة في المسيح لأجل خلاص العالم كله. ومن أجل هذا فقد أكد الرسول بولس على مدى الارتباط الوثيق بين نوال (قوة الروح القدس) وبين (حلول المسيح) بالإيمان في قلوب المؤمنين للحصول على كل ملء الله. يقول ” بسبب هذا أحنى ركبتي لدى أبى ربنا يسوع المسيح لكى يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله. أى أن الحصول على كل هذه العطايا للوصول إلى كل ملء الله، يتوقف على هذه الحقيقة ” أن تتأيدوا بالقوة بروحه “. هكذا تأسست الكنيسة كما يقول القديس إيريناؤس [ حيث توجد الكنيسة يوجد أيضا روح الله، وحيث يوجد روح الله توجد الكنيسة وكل نعمة.. المشتركون بالروح هم الذين يأخذون من أمهم طعام الحياة، ويتقبلون كل شئ من الينبوع الكلى الطهارة الجارى من جسد المسيح]. إذن هناك تلازم عميق بين حضور الروح القدس وتدبيره للكنيسة وبين تحقيق الكنيسة لوجودها كجسد المسيح الحى.
يقول العلامة ديديموس الضرير [لقد أسس كنيسته على الأنهار إذ جعلها بتدبيره الإلهى قادرة أن تأخذ الروح القدس الذي منه تفيض النعم كما من رأس الينبوع حيث تخرج أنهار مياه حية]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزى أيضًا: [ إن مخلصنا قال إن له أشياء أُخر يريد أن يقولها، ولكنه أوضح أن تلاميذه لم يكونوا قادرين آنذاك أن يحتملوها .. لذلك بقيت هذه الأشياء مخفية، ولكنه عاد ووعد بأن كل الأشياء ستعلّم لهم بواسطة الروح عندما يأتى ويحل بيننا]. وهكذا نحن أيضا نمتلئ من مشيئة الله بالروح القدس كما يقول القديس أمبروسيوس: [الذي ينال الروح القدس يمتلئ من مشيئة الله].
إن سر المسيح ابن الله الحى الذي فيه، جمع الآب كل شئ ما في السموات وما على الأرض، هذا السر قد ناله كل الرسل، بل وكل أبناء الله في كل الأمم كامتداد لعمله المحيي، يوم الخمسين ” والقادر أن يثبتكم حسب إنجيلى والكرازة بيسوع المسيح حسب إعلان السر الذي كان مكتوما في الأزمنة الأزلية ولكن أظهر الآن وأعلم به جميع الأمم. هكذا ظل هذا السر، سر الآب والابن والروح القدس يُستعلن بواسطة الروح القدس الذي انسكب يوم الخمسين، ولم ينقطع حضوره وعمله منذ ذلك اليوم . لقد صار للإنسان الآن إمكانية الشركة في حياة الثالوث بواسطة عمل الروح المحيي فينا تلك الشركة التي اعتبرها القديس يوحنا الإنجيلى مصدر فرح حقيقى وكامل ” لكى يكون لكم أيضا شركة معنا ، وأما شركتنا نحن فهى مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، ونكتب إليكم هذا لكى يكون فرحكم كاملاً”.
يؤكد القديس أمبروسيوس أيضًا، على أن كل النعم الإلهية كائنة في الروح القدس، يقول [النعمة تفيض من الروح القدس كما تاتي من الآب والابن، لأنه كيف تقوم النعمة بدون الروح مادامت كل النعم الإلهية كائنة في الروح القدس]. يتدفق النور وتتدفق الحياة داخل الإنسان، بل وداخل الكون كله هكذا بالروح القدس. إنه الينبوع الغنى بالحب الإلهى، الذي يُصير الإنسان على صورة الله ومثاله بالحقيقة، ويجعله قادرًا على ممارسة الحب على مثال الثالوث. ولذلك فإن الإنسان الذي لا يأتى في شركة مع الروح القدس، يوصف بأنه “جسداني” أو منقاد بفكر جسدى، بينما ذاك الذي ينقاد بنعمة الروح القدس يوصف بأنه “روحاني” ، وهو روحانى بالمعنى الشامل، ككيان واحد نفس وجسد، أي أن الروح القدس يعمل في كل الإنسان. وهكذا فإن [ فقدان شركة الروح القدس هو في الواقع فقدان للحياة الأبدية] كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم . ومن أجل هذا يؤكد التقليد الكتابي والآبائي على أن إمكانية تمتع المؤمنين بالحياة الحقيقية في المسيح لا تتأتى إلا من خلال عمل الروح القدس.