البطريرك الرابع عشر في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(٢٤٧ – ٢٦٤م)
نشأته:
أعظم أساقفة الكنيسة في القرن الثالث. تتلمذ لأوريجانوس، وبعد اختيار هيراكلاس للبطريركية تعين مديراً لمدرسة الإسكندرية سنة ۲۳۲ حتى سنة ٢٤٦م، ثم اختير للبطريركية بعد نياحة أنبا هيراكلاس. وكان عمره حوالي ٣٠ سنة عندما تولى مدرسة الموعوظين، وخلال هذه الفترة وضع كتاباً عن الطبيعة يردُّ فيه على الأبيقوريين القائلين بنظرية الذرات والجسيمات في تفسير خلقة الكون والطبيعة.
وله كتابات ورسائل حفظها لنا يوسابيوس القيصري تكشف عن أسلوبه الفصيح الشيق ومطالعاته الكثيرة في الأدب اليوناني الكلاسيكي؛ وقد جعلت البعض يتخوفون عليه من هذه المطالعات والدراسات كما يحكي هو عن نفسه:
[أنا نفسي عشت بين تقاليد وتعاليم الهراطقة التي تغذت عليها نفسي في بعض الأحيان. ولكن انتفعت كثيراً من وجودي طويلاً بينهم، إذ عرفت كيف أربكهم بعد أن نفرت من تعاليمهم. وقد حاول أحد الإخوة، وكان كاهناً، أن يحولني بعيداً عنهم لأنه كان يخشى علي من التلوث بحمأة آثامهم فتُسبى نفسي وأنا أعرف أن هذا حق. لكن جاءتني رؤيا من الله شددتني، وسمعت صوتاً يقول لي كأمر صريح : خُذْ كل ما تجده أمامك لأنك قادر أن تميز الصواب فاحصاً كل شيء، وكان هذا من البداية علة وسبب إيمانك بي (يحكي سنكسار الكنيسة أنه اهتدى للإيمان من مطالعاته الرسائل القديس بولس التي ابتاعها من أرملة عجوز). وقد قبلت هذه الرؤيا لأنها تتفق مع كلمة الرسول التي تقول للأقوياء: “امتحنوا كل شيء، تمسكوا بالحسن” (١ تس ١:٥)] .
هكذا تظهر أمامنا عظمة هذه الشخصية، فهو مثل أوريجانوس معلمه كان يفتش ويفحص ويقرأ كل ما تقع عليه عيناه، ولكن في الوقت نفسه كان يستلهم الله ويسترشد بروحه القدوس. لم نسمع أو نقرأ في حياة أوريجانوس عن مثل هذه الرؤيا أو هذا الإلهام. ولكن الإلهام الإلهى لا يكفي ما لم يرتبط الإلهام بالكلمة الرسولية. وهذا ما فات على أوريجانوس أن يفعله.
حياته أثناء البطريركية:
كما رأينا في حياة أنبا هيراكلاس البطريرك الـ ۱۳ أن عصره كان سلاماً للكنيسة، هكذا قضى ديونيسيوس ١٦ سنة في رئاسة مدرسة الإسكندرية في سلام. لكن بقية أيام بطريركته كانت على العكس، امتلأت بالمخاوف والرعب.
لقد عاصر آخر سنة من حكم الإمبراطور فيليب العربي الذي عُرف عنه تساهله وميله نحو المسيحية، لكن ذلك لم يمنع انفجار الغضب والكراهية من الوثنيين في الإسكندرية التي أثارها أحد المشعوذين الذي ادعى النبوة وكان شاعراً (41,42,44 HE, VI تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصري)، فقامت فيها سنة ٢٤٨م أعمال السلب والنهب والفوضى واقتحام بيوت المسيحيين وقتل واستشهاد كثير من أولاد البابا المؤمنين، كما كتب يقول في وصف هذه الأعمال المرعبة التي وقعت في السنة الأولى من بطريركيته (في رسالة إلى فابيوس بطريرك أنطاكية):
[لم يعد هناك طريق أو شارع أو ممر مفتوح أمامنا، سواء بالليل أو بالنهار. الجميع يصرخون في كل مكان دون أن يتوقفوا : “على كل واحد أن يُجدِّف ويلعن، والذي يرفض يقتاد ويُحرق بالنار”. فهرب المسيحيون وأصابتهم خسائر فادحة في الأرواح والأموال، لكن لم يرتد أحد منهم عن الإيمان إلا واحد فقط ]
41,42,44 HE VI – “تاريخ الكنيسة” ليوسابيوس القيصري.
بعد اغتيال فيليب العربي تولى الحكم أحد قواده ويسمى داكيوس سنة ٢٤٨م، الذي أصدر مرسوماً باضطهاد المسيحيين. والقصد من هذا المرسوم لم يكن مجرد تعبير شعبي عن الغضب ضد المسيحيين، بقدر ما هو محاولة من النظام الحاكم لاستعادة السيطرة على الأمور بدءاً بإعادة توحيد مؤسسات الإمبراطورية وتقويتها تحت شكل واحد. وبالطبع كان هناك الضعفاء من المؤمنين الذين في المراكز الكبرى في المدن (13-41:11 HE VI) الذين استسلموا وقدموا القرابين والذبائح، كما كان هناك شهداء ومعترفون أيضاً. وفي رسالة أرسلها إلى فابيوس بطريرك أنطاكية يقص البابا ديونيسيوس عن هذه المحاكمات ويصف حالة الكنيسة المضطهدة فيقول:
[كان بعض كهنة المدينة قد اختفوا حتى يتمكنوا من افتقاد الإخوة سراً، منهم مكسيموس الذي صار بطريرك الإسكندرية بعد القديس ديونيسيوس) وديوسقوروس وديمتريوس ولوكيوس. أما المشهورون من (أراخنة) المدينة مثل: فاوستوس وأكويلا، فجالوا في أنحاء مصر. والشمامسة الذين بقوا أحياء بعد وباء الدفتيريا أو الطاعون الذي اجتاح أفريقيا ومصر في حكم Gallus وفولسيانوس Volusianus سنة (٢٥٢م) مثل: يوسابيوس الذي صار فيما بعد أسقفاً على اللاذقية في سوريا سنة (٢٦٩م الذي شدده الله منذ البداية وهيأه ليوالي عمله بشجاعة بين المعترفين في المحاجر والسجون ليس بدون أخطار؛ فكان يقوم بدفن أجساد الشهداء الطوبانيين الذين كملوا لأنه حتى اليوم، ما زال الوالي يُسلّم كل من يقع في يديه إلى الموت التعسفي أو التعذيب بتمزيق الأعضاء، أو يتركهم يئنون تحت ثقل القيود الحديدية في السجون والمطابق، ويمنع كل من يحاول الاقتراب إليهم لمواساتهم أو تخفيف آلامهم. إلا أن الله لا يعدم وسيلة يقدِّم بها عزاء للمضطهدين بشجاعة ومثابرة الإخوة.]
تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصري – HE, VII 11:24,25
ورغم أن القساوة الظاهرة من الولاة والحكام كانت متماثلة في روما وقرطاجنة كما هي في الإسكندرية أيضاً، إلا أن مقاومة كنيسة الإسكندرية للاضطهاد كانت أفضل بكثير منها في أي مكان آخر – وبالذات روما حيث كانت الكنيسة منظمة تحت توجيه الأسقف والكهنة والشمامسة (راجع خطاب البطريرك لجرمانوس الأسقف المصري في 19-1:2 HE, VII – تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصري) فقد ظل ديونيسيوس مختفياً ثلاثة أيام في بيته بينما الجنود الرومان كانوا يتقصون عنه في كل مكان:
[…. لم يكن سهلاً علي في اليوم الرابع أن أرحل ، كما أمرني الله وفتح أمامي الطريق بطريقة إعجازية، فخرجنا معاً، أنا ومساعدي وبعض الإخوة].
وفي المساء قبضوا عليه واقتادوه إلى تابوزيرس (ضاحية بجوار برج العرب حالياً) حيث علم نبأ القبض على البطريرك من أحد الأشخاص المتوجهين إلى حفلة عرس في إحدى قرى المنطقة. فقام الجميع دفعة واحدة واندفعوا نحو مكان اعتقال البطريرك، فهرب حراسه ونجا من الاعتقال واختفى في إحدى نواحي ليبيا (كل المنطقة غرب الإسكندرية كانت تسمى ليبيا)، ومن مخبئه كان يراسل كنيسته ويعرف أخبارها (1,11:23 THE VII – تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصري).
في صيف سنة ٢٥١م قتل الإمبراطور داكيوس في حربه ضد الغوطيين (قبائل جرمانية على حدود المجر وفيما عُرف بعد ذلك بتشيكوسلوفاكيا)، وأعقبه جاللوس الذي قتل أيضاً سنة ٢٥٣م، وأعقبه فاليريان وابنه جاللينوس وكان من سياستهما التهدئة مع المسيحيين كما كتب القديس ديونيسيوس في إحدى رسائله إلى هيرمامون :
[… ونجاحه (نجاح) فاليريان يعتمد على مدى مودته ولطفه نحو شعب الله (الكنيسة)، إذ لم يسبق أحد من الأباطرة أن أظهر مثل هذا الإحسان… حتى أن كل حاشيته وأهل بيته من الأتقياء، كانوا حقاً كنيسة الله ] (10 HE, VII).
وبدأت كنيسة الإسكندرية تستمتع قليلاً بالسلام ما بين سنتي ٢٥٣ و ٢٥٧م، فكان ذلك فرصة للقديس ديونيسيوس لمعالجة الانقسامات وحل المشاكل الناجمة عن سنين الاضطهاد السابقة. وأهم قضيتين كانتا أمامه هما : “قبول المرتدين“، و”معمودية الهراطقة. وكان ديونيسيوس صاحب الموقف المعتدل الذي هو سمة مميزة لسلوكه في كل تدبير الكنيسة.
أولاً : قبول المرتدين:
بسبب الاضطهاد العنيف الذي شنه داكيوس ونوابه وولاته على الشعب المسيحي، كان الارتداد شائعاً وشديداً في كثير من الأحيان، كما يصفه القديس ديونيسيوس نفسه في رسالته إلى فابيوس بطريرك أنطاكية:
[كانت الرعبة التي تتهددنا مريعة وعظيمة حقاً … الجميع حقاً أحسوا بالويل، حتى أنه بين الصفوة المختارة (من المجتمع) أعد الكثيرون منهم أنفسهم للموافقة على المرسوم بتقديم الذبائح للأوثان، وآخرون من الذين كانوا يتولون أعمالاً رئيسية في المدينة اضطروا للامتثال بسبب التزامات واجباتهم العامة مع الجمهور[1]. آخرون انساقوا وراء أصدقائهم، وحينما نودي على أسمائهم تقدموا بالذبائح النجسة غير المقدسة. آخرون تقدموا بوجوه شاحبة كما لو كانوا هم شخصياً الذبائح التي ستقدم للأصنام، فكانوا موضع تهكم الجموع المتراصة في المشهد، وصار واضحاً للجميع أنهم أكثر جبناً ورعبة من مواجهة الموت أو تقديم الذبائح. ولكن كان هناك أيضاً من أسرع إلى مذابح الأصنام مؤكدين بصوت عال أنهم لم يكونوا أبداً مسيحيين قبلاً، هؤلاء هم الذين ينطبق عليهم ما أنبأ به المخلص أنهم من العسير أن يخلصوا … كما كان أيضاً هناك الذين ذهبوا بعيداً في التمسك بإيمانهم حتى القيود والحبس، وبعد عدة أيام أنكروا الإيمان وجحدوه عندما وقفوا أمام منصة القاضي، وغيرهم من الذين قاوموا التعذيب زماناً ثم ركعوا وخضعوا أمام منظر العذابات التي تجرى أمامهم ]
(13-41:9 HE, VI).
وبانتهاء هذه الأيام المرعبة وحلول السلام، كان الشهداء – قبل استشهادهم – والمعترفون الذين نجوا من التعذيب والموت يتوسطون لصالح هؤلاء المرتدين بإعطائهم أحياناً شهادات مكتوبة للرؤساء الدينيين. ومثل هذا الأمر كان يجري في كل مكان، ولكن في قرطاجنة مثلاً لم يجد قبولاً لدى الكنيسة عند حلول أزمنة السلام، بينما في الإسكندرية وقف القديس ديونيسيوس إلى جانب الراجعين، بل وكان محامياً عنهم بطريقته المعتدلة المقنعة كما يظهر من رسالته إلى فابيوس بطريرك أنطاكية الذي يشهد عنه يوسابيوس أنه كان يؤيد المعترضين على قبول الراجعين:
[الشهداء الأبرار الذين كانوا بيننا، هم الآن جالسون مع المسيح شركاء ملكوته يحكمون ويدينون معه وينطقون الأحكام معه. لقد بسطوا حمايتهم (أو شفاعتهم) على البعض من إخوتنا الذين سقطوا وارتدوا وصاروا مدانين بتقديم الذبائح للأوثان. هؤلاء الشهداء نظروا بأعينهم رجوع وتوبة أولئك الذين يمكن قبولهم لدى ذاك الذي لا يشاء موت الخاطئ بل بالأحرى توبته. لقد برهنوا على إخلاص نيتهم وقبلوهم (لما كانوا معهم في السجون) وجمعوهم واتحدوا بهم وشاركوهم الصلوات والموائد (أثناء الاعتقال والتعذيب). فماذا تحكمون أيها الإخوة؟ وماذا ينبغي علينا أن نفعل؟ أنوافق على ما صنعه الشهداء؟ أنحترم أحكامهم والغفران الذي منحوه (للراجعين)؟ ألا ينبغي أن نفعل الصلاح تجاههم؟ أم نقول إن قرار الشهداء غير عادل، فتظهر أنفسنا كمنتقدين لأحكامهم وننقض التدبير الذي وضعوه ] .
(HE, VI 42:5,6)
ولم يكتف القديس ديونيسيوس بذلك، بل وهو عالم أن فابيوس كان يميل إلى المعترضين على قبول الراجعين، قص الواقعة التالية:
[كان هناك كهل متقدم في السن يُدعى سيرابيون أمضى حياته الطويلة بلا لوم لكنه سقط في أثناء الاضطهاد ومراراً كثيرة التمس أن ينال الحِل ، فلم يلتفت إليه أحد[2] لأنه قدم وضحى للأوثان. ولما مَرِضَ مَرَضَ الموت، استمر ثلاثة أيام غائباً عن الوعي ثم انتبه في اليوم الرابع قليلاً ودعا حفيده قائلاً : “إلى متى يا بُني تؤخّرني ؟ أسرع، أرجوك، وامنحني الحل واستدع لي أحد الكهنة. وبعدما نطق بهذه الكلمات، سكت ثانية (غاب عن الوعي). فهرع الغلام إلى الكاهن، وكان ليل، ولكن الكاهن كان مريضاً فلم يستطع أن يذهب مع الغلام. وكنتُ قد أعطيت وصية أن الذين على فراش الموت إذا التمسوا نوال الحل مرات عديدة وبإلحاح وغيرة شديدتين يُعطى لهم حتى يفارقوا الحياة برجاء بهيج.
(كان مثل هذا القرار قد صدر من مجمع أساقفة أفريقيا في زمن معاصر لديونيسيوس، وأوصى بإعطاء الحل للمرتدين الراجعين إذا اقتربوا من خطر الموت، بشرط أن يكونوا قد سبق وألحوا في طلبه عدة مرات قبل مرضهم – ارجع إلى رسالة كبريانوس إلى أنطونيانوس: ANF Vol. V, p. 327)
ونظراً لعدم استطاعة الكاهن مغادرة بيته بسبب مرضه، فقد أعطى الغلام قطعة صغيرة من الإفخارستيا، وأوصاه أن يغمسها في قليل من الماء ليمكن بلعها ويضعها في فم الجد العجوز. فرجع الغلام حاملاً قطعة الإفخارستيا، وقبلما يدخل إلى الجد العجوز، استعاد سيرابيون وعيه وفاه بهذه الكلمات : هوذا قد رجعت يا غلامي، والكاهن لم يستطع الحضور. لكن أسرع وافعل ما أوصاك به حتى أرحل يا بني.
فغمس الغلام قطعة الإفخارستيا في قليل ماء وأسقطها في فم الرجل، وبمجرد أن ابتلعها، أسلم الروح. أليس واضحاً أنه استمر في الوجود على الأرض إلى أن ينال الحل؟ وبمجرد أن محيت خطاياه، استحق جزاء الخيرات التي قد صنعها قبلاً؟ ]
6-44:2 HE, VI
مراسلاته بخصوص نوفاتيان
من هو نوفاتيان؟
هو من فريجيا (آسيا الصغرى)، وكان من كهنة روما، واشتهر بالفصاحة في الأدب حتى صار متقدماً بين كهنة روما. ولذلك انتهز فرصة استشهاد بابا روما فابيانوس في اضطهادات داكيوس سنة ٢٤٩، وحاول أن يصير أسقفاً لروما. لكن لما اختير كورنيليوس لهذا الكرسي سنة ٢٥١، وكان هذا الأسقف متسامحاً تجاه قبول المرتدين الراجعين انقلب نوفاتيان ضد الكنيسة، وكون حزباً متعصباً، ونادى بأن المرتدين الذين جحدوا الإيمان وقدموا الذبائح للأوثان يلزم اعتبارهم محرومين إلى الأبد. ثم استغل بساطة ثلاثة أساقفة من ريف إيطاليا وضغط عليهم حتى رسموه أسقفاً، فصار أسقفا منشقاً ضد بابا روما واستمر يناوئ الكنيسة.
لذلك اهتم القديس ديونيسيوس بإرسال خطاب إلى نوفاتيان ينصحه باستخدام اللين وبالرضوخ لأحكام كنيسة روما، وأن يتخلّى عن مطامعه في أن يكون بابا روما، وكذلك بتغيير موقفه من الراجعين إلى الإيمان (45 HE VI).
ونستطيع أن نستشف من هذا الخطاب روح القديس ديونيسيوس السامية ومحبته الجمة لكنيسة الله التي تبلغ استعداد الموت من أجلها ومن أجل الحفاظ على سلامها ووحدتها. نستشف ذلك من مضمون النصائح التي يوجهها إلى نوفاتيان :
[كان الأحرى بك أن تتحمل كل ألم بدلاً من أن تقسم كنيسة الله. فإن الموت من أجل تجنب الانقسام لا يكون أقل مجداً من الاستشهاد تجنباً لعبادة الأوثان؛ بل إنه يبدو – وفي نظري – أعظم، لأنه في الحالة الأخيرة يستشهد المرء من أجل نفسه، وفي الحالة الأولى من أجل الكنيسة بأجمعها ] (45 HE VI).
كما يقول أيضاً في موضع آخر :
[(إذا أصغينا إلى نوفاتيان) فسنفعل عكس ما فعل المسيح الذي في صلاحه وجوده مضى إلى الجبال مفتشاً عن الخروف الضال. فإذا هرب بعيداً يدعوه، حتى إذا ما وجده يحمله على منكبيه بينما نحن إذ نرى الخروف آتياً إلينا نركله بأقدامنا بخشونة ] Triumph of Christ. p 131)
وقد أرسل كورنيليوس بابا روما للبابا ديونيسيوس يُعلمه بما حدث من انشقاق في كنيسة روما بسبب نوفاتيان وصرامته في التشدد مع الراجعين؛ فأجاب القديس ديونيسيوس مزكياً ومؤيداً موقف كنيسة روما من حرم نوفاتيان ومبدياً حرصه الشديد على وحدة الكنائس الأخرى في الشرق ضد بدعة نوفاتيان
[…. وأنه قد دُعِيَ من هيلينوس أسقف طرسوس في كيليكية، وفيرميليان أسقف كبادوكية (آسيا الصغرى) وثيئوكتستس في فلسطين المجمع في أنطاكية، حيث حاول البعض تأييد بدعة نوفاتیان ] (46:3 HE, VI).
ويعود البابا ديونيسيوس فيكرر نفس العبارات تقريباً في رسالته إلى البابا الذي أعقب كورنيليوس، معبراً عن فرحه بعودة السلام بين كنائس المشرق :
[اعلم، يا أخي أن كل كنائس الشرق وما بعدها التي كانت قبلاً منفصلة، رجعت مرة ثانية إلى الوحدة، وعاد كل رؤسائها بفكر واحد مبتهجين بفرح لا يُصدق بهذا السلام الذي طال انتظاره؛ أعني ديمتريانوس بطريرك أنطاكية)، ثيئوكتستس في قيصرية، مازابينوس في آليا (الاسم الذي أطلقه الإمبراطور هادريان على أورشليم بعد أن أعاد تخريبها عقب ثورة ابن كوكبا سنة (۱۳۵م) بعد استشهاد ألكسندروس مارينوس في صور، هليودوروس في لا ودكية اللاذقية بسوريا) هيلينوس في طرسوس وكل كنائس كيليكية، فيرميليانوس في قيصرية وكل كبادوكية … بالحقيقة كل سوريا والعربية التي كنتم ترسلون لهم من قبل عطايا، بلاد ما بين النهرين وبنطس وبيثينية وأستطيع أن أوجز كل شيء في كلمة واحدة هوذا كل البلاد في كل مكان مبتهجة تسبح الله لهذا التوافق في القلب الواحد والمحبة الأخوية] .(HE, VII 5:1,2)
كان هذا موقف القديس ديونيسيوس العظيم ورسائله التي تفيض فرحاً وعزاء وتشجيعاً الإحلال السلام وتقوية أواصر المحبة والفكر الواحد بدون الغيرة الكاذبة والحماس المزيف على الكنيسة، خاصة بالنظر إلى الظروف الأليمة التي اجتاحت المجتمعات المسيحية لقسوة الاضطهاد.
ثانياً: معمودية الهراطقة:
من المشاكل التي واجهت الكنيسة الجامعة وأصابتها بالقلق والاضطراب، موضوع الأشخاص الذين تعمدوا من يد الهراطقة، ثم اكتشفوا التزييف الذي عندهم فعادوا يطلبون الانضمام للكنيسة. بالنسبة لكنيسة روما كانت مصالحة هؤلاء الأشخاص مع الكنيسة لا تقتضي إعادة المعمودية، طالما قد تمت من وجهة نظر كنيسة روما حسب القواعد الإنجيلية، أي باسم الآب والابن والروح القدس، واكتفت الكنيسة بوضع اليد فقط. ولكن كنائس أفريقيا في عصر القديس كبريانوس، ومنذ أيام ترتليانوس كانت ترى أن الهرطوقي لا يصلح أصلاً لممارسة معمودية صحيحة مقبولة (راجع ترتليانوس De Baptismo XV). وهكذا قررت المجامع المكانية المتتالية في شمال أفريقيا – آخرها على عصر كبريانوس – نفس هذا المعنى. وكذلك أيضاً كنائس آسيا الصغرى وفريجيا وشمال سوريا، حيث انتشرت بينهم بدعة المونتانيين الذين كانوا يعتقدون أن نبيهم مونتانوس هو نفسه الروح القدس، فكانوا يقولون : باسم الآب والابن ومونتانوس.
وهكذا نرى موقف الكنائس يتلخص في الآتي:
1. كنائس أفريقيا، تُعلن أن معمودية الهراطقة باطلة حتى إذا كانت صيغة التعميد موافقة للإنجيل، وذلك بسبب عدم أهلية الشخص المعمد – خادم السر – لأنه لم يتسلم الروح القدس تسليماً قانونياً طقسياً. وقد عارض القديس أغسطينوس هذا التعليم فيما بعد قائلاً إن شخص المسيح نفسه هو الذي يعمد، سواء كان المعمد بطرس أو يوحنا أو حتى يهوذا! والقديس أغسطينوس كان أيضاً من شمال أفريقيا (Leberton, Zeiller; BK III, p.288).
2. كنائس آسيا وفريحية تبطل معمودية الهراطقة بسبب أن الصيغة التي تقال على المعمدين صيغة باطلة، لأن الصيغة التي يقولها المونتانيون هناك ليست حسب الإنجيل.
غير أن المراجع الكاثوليكية في هذا الصدد تحاول تبرئة بابا روما القديس ، ويقولون إن موقف كنيسة روما مماثل لموقف كنيستي الإسكندرية وفلسطين Leberton, Zeiller; BK III, p.289BK .p 132 ). ولكن على ما يبدو أن المراسلات التي جرت بين القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة وكان أحد المعارضين لموقف بابا روما – والأسقف فيرميليان أسقف قيصرية الكبادوك، تضمنت نقداً لموقف بابا روما بسبب طرده الأساقفة الشرقيين الذين قصدوا روما للتفاهم معه، ثم تهديده بقطع وحرمان أساقفة الشرق الذين خالفوا رأيه في ذلك الموضوع. وأما موقف القديس ديونيسيوس فكان يتميز بالاعتدال الكثير في هذا الموضوع والرغبة الملحة في جمع شتات المتفرقين. فمع أنه لم يُعارض موقف إستفانوس بابا روما في عدم إعادة معمودية الهراطقة، إلا أنه لامه بشدة على تهديده بالقطع والحرمان للذين لا يشتركون معه في هذا الرأي.
والحقيقة أن البابا استفانوس هدَّد بقطع وحرمان الأساقفة الذين أعادوا معمودية الهراطقة، كما جاء في تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصري (5:4 HE VII)، إلا أن موته وربما استشهاده وضع حداً لتصعيد المشكلة. كل هذا يجعلنا نحاول مرة أخرى اكتشاف موقف كنيسة الإسكندرية من هذه المشكلة، مما يقوله القديس ديونيسيوس نفسه:
[لقد تسلَّمتُ هذه القاعدة وهذا الحكم من أبي الطوباوي هيراكلاس، لأجل الآتين إلينا من الهرطقات، رغم أنهم قد ارتدوا عن الكنيسة، وهم في الواقع لم يرتدوا بل كانوا يجتمعون معهم (مع الهراطقة). لذلك فهم يلامون لالتجائهم إلى بعض المعلمين الكذبة. فبعدما طردهم من الكنيسة لم يقبلهم على التو عند رجوعهم رغم التماسهم هذا الأمر، إلى أن يقروا علناً بكل ما سمعوه من المنشقين، وبعد ذلك يقبلهم دون أن يطلب منهم معمودية ثانية، لأنهم قد نالوا الروح القدس من قبل على يديه].
ثم يستكمل يوسابيوس القيصري اقتباسه من رسالة القديس ديونيسيوس الكبير :
[وقد علمت أيضاً أن هذه ليست عادة جديدة دخلت إلى كنائس أفريقيا وحدها، بل منذ زمان بعيد كان الأساقفة السابقون لنا قد تبنوها في كنائسهم ومجامعهم في إيقونية وهي كبرى مدن ولاية ليكأونية وسينادا كبرى مدن فريجية وغيرهما. وإن محاولة قلب آرائهم وجذبهم إلى الخصام أمر لا أحتمله، لأنه قد كتب: “لا تنقل التخوم التي وضعها آباؤك (تث ١٤:١٩)] .
(HE, VII 7:4,5)
ويكرر القديس ديونيسيوس نصائحه وتحذيراته للقديس سكستوس بابا روما، لكن في قصة واقعية :
[أحد الإخوة المواظبين على الاجتماعات (أي القداسات)، الذي كان يعتبر لزمان طويل من المؤمنين – وقبل رسامتي وربما قبل رسامة هيراكلاس الطوباوي كان عضواً في الجماعة وحاضراً مع الذين تعمدوا أخيراً. وعندما سمع الأسئلة والأجوبة (وهي التي كان يلقيها الكاهن أو خادم السر على المعمد قبل إنزاله إلى مياه المعمودية)، أتاني نائحاً ومعطياً الويل لنفسه ووقع على قدمي معترفاً ومقرّاً أن المعمودية التي نالها من الهراطقة لم تكن بهذه السمة (القوية) ولا كانت تُشبهها بأي شكل كان، لأنها كانت من الجحود وعدم التقوى. وقال لي إن روحه تنخسه بالأسى حتى أنه ليس لديه ثقة أن يرفع عينيه نحو الله، لأنه عاش بهذه الكلمات والأعمال الجاحدة. وألح في التضرع أن ينال التطهير الكامل (الخطاياه) ونوال النعمة. ولكني لم أجرؤ أن أفعل هذا قائلاً إن انتظامه الطويل في التناول كان يغني عن ذلك. إذ لم أتجاسر أن أجدد من البداية ذاك الذي سمع التشكرات (الإفخارستيا واشترك في ترديد “آمين، الذي وقف بجوار مائدة المذبح ومد يديه ليقبل القوت الروحاني، وقبله واشترك طويلاً في جسد ودم ربنا يسوع المسيح. لكني نصحته أن يتشجع ويتعزى ويقترب إلى شركة القديسين بإيمان راسخ ورجاء صالح. لكنه لم يتوقف عن البكاء وارتعب من الاقتراب من المائدة (المقدسة)، ونادراً ما تجرأ على الحضور أثناء الصلوات.]
(HE, VII 9:2-5)
والذي يتبادر إلى الذهن من القراءة العابرة، أن القديس ديونيسيوس هنا لا يريد إعادة معمودية ذاك الإنسان الذي تعمد لدى الهراطقة. لكن الموضوع الذي يطرحه – في هذه الحالة الاستثنائية هو: هل ممكن أن تحل النعمة التي نالها هذا الإنسان خلال الفترات الطويلة التي كان فيها يتناول من الجسد والدم فينال التقديس، عوضاً عن النعمة التي تأتيه من المعمودية المقدسة فيما لو أعاد البابا ديونيسيوس معموديته مرة أخرى؟ ألا يمكن أن يكون ذلك إهانة لفاعلية الروح القدس العامل في سر الإفخارستيا خلال هذه السنين الطويلة؟ وفي هذه الرسالة يسأل القديس ديونيسيوس بابا الإسكندرية سكستوس بابا روما ليس عن إعادة معمودية الإنسان، سواء كانت صحيحة أو ناقصة، لأنه لم يتعرض لتفاصيلها مطلقاً؛ لكن يسأله ما هو الوضع بالنسبة لهذا الشخص الذي مارس شركة الإفخارستيا سنين هذا مقدارها ؟
اضطهاد فاليريان (٢٥٧ – ٢٦٠م):
بعد سني التسامح الأربعة من ٢٥٣ – ٢٥٧م، انقلبت الأوضاع إلى العكس. ويخبرنا القديس ديونيسيوس أن سبب هذا الانقلاب يعود إلى وزير المالية “ماكرينوس” في عهد فاليريان.
ماكرينوس هذا كان مصرياً، رئيس نقابة السحرة والمجوس في مصر (1,10:4 HE, VII).
وكانت أحوال الإمبراطورية في اضطراب نتيجة الحملات العسكرية ضدها عند الحدود. فكانت القبائل الغوطية تهاجم الحدود الشمالية الشرقية، والفُرْس يهاجمون الحدود الشرقية، بينما كانت الأوبئة والأمراض تهاجم الشعب بصفة مستمرة منذ بداية حكم داكيوس ولمدة ١٥ سنة. فكانت النتيجة أن خزانة الدولة أفلست وانحطت قيمة العملة. وفي الوقت نفسه، استطاع ماكرينوس أن يوهم الإمبراطور بأن سبب البلايا هو التسامح والتهاون تجاه المسيحيين، واحتقارهم لآلهة روما. وباعتبار ماكرينوس نقيب السحرة، ونحن نعلم عن شهرة مصر في السحر منذ أيام فرعون وموسى النبي، لذلك أوهم الإمبراطور واضطره لاستصدار قرار يمنع الاجتماعات المسيحية في المدافن، وإلزام رؤسائهم الدينيين بتقديم الذبائح والقرابين للآلهة الوثنيين، وإلا تصادر أموالهم وممتلكاتهم. وفي سنة ٢٥٨م، صدر مرسوم ثانٍ بإعدام الرؤساء الدينيين وكبار رجال الدولة المسيحيين الذين لم يقدموا الذبائح لآلهة روما، وبالتالي مصادرة أموالهم لصالح الدولة.
ويصف لنا القديس ديونيسيوس محاكمته التي جرت أمام نائب الإمبراطور في مصر (حيث كان الوالي الروماني برتبة نائب الإمبراطور). ويبدو أن هذا الوصف قد نقله ديونيسيوس عن المحاضر الرسمية للمحاكمة، حيث يظهر إميليانوس الوالي كشخص سياسي يحاول بالمنطق وبالدهاء السياسي أن يتفهم عناد المسيحيين ضد آلهة روما، حيث لا يمنعهم المرسوم الإمبراطوري من عبادتهم، لكن يُطالبهم باحترام الآلهة الأخرى وتقديم فروض العبادة لها:
[لقد تحادثت معكم عن الخير الذي يصنعه سادتنا الأباطرة فاليريان وشريكه في الحكم ابنه جاللينوس) تجاهكم وهم سيتساهلون معكم متى تحولتم إلى ما هو متوافق مع الطبيعة، فتوقروا الآلهة التي تخلص الإمبراطورية وتحفظها (سالمة)، وتتخلوا عن كل ما هو مضاد للطبيعة. فبماذا تجيبون؟ لا أتوقع أن تكونوا جاحدين لإنعامات أباطرتنا العظام الذين لا يطلبون سوى الخير العام.
فأجاب ديونيسيوس: ليس الجميع يوقرون الآلهة التي تقول عنها)، بل كل واحد يتعبد للإله الذي يعتقد أنه هو فعلاً هكذا. نحن نعبد الإله الذي خلق الكائنات، والذي سلم الإمبراطورية في يد قياصرتنا الأتقياء فاليريان وجاللينوس الإله الذي نعبده ونكرمه ونصلي إليه دوماً لأجل مملكتهم لتبقى سالمة.
فقال لهم إميليانوس: مَنْ ذا الذي يمنعكم من عبادته ما دام هو إلها من الآلهة الأخرى التي بحسب الطبيعة؟ لأنكم ملتزمون بعبادة الآلهة المعترف بها من الجميع.
فأجاب ديونيسيوس: نحن لا نعبد أي إله آخر سوى الله.
فأمر إميليانوس قائلاً: أرى أنكم جميعاً جاحدون وغير مستجيبين للطف قياصرتنا. وبالتالي، لن تبقوا بعد في هذه المدينة بل ستستبعدون إلى ليبيا، إلى خفرو المكان الذي اخترته لعمل اجتماعاتكم المألوفة، وإذا ما اكتشفت غياب أي واحد منكم عن المكان المحدد لكم بناء على أوامر قياصرتنا وممنوع منعاً باتاً عقد اجتماعات أو الاقتراب من المدافن لإقامته، أو كان في اجتماع؛ فإنه يُعرّض نفسه للموت والهلاك، ولن يعفى من العقاب القاسي. فامضوا إلى الموضع المرسوم لكم]
(11-11:9 HE, VII).
وما إن وصل الركب إلى خفرو”، حتى قذفهم الأهالي الوثنيون بالحجارة. لكن بعد قليل آمن البعض منهم، لذلك نقلهم الوالي إلى موضع أبعد في ليبيا محدّداً لكل واحد منهم مكان إقامته في مكان منعزل وحده. ولأسباب لا نعلمها، لم يَجْرِ عليهم مثلما جرى على كبريانوس في شمال أفريقيا الذي استشهد في هذا الوقت سنة ٢٥٩م. وفي نهاية هذا العام أو بداية العام التالي، وقع فاليريان في أسر سابور الأول ملك فارس، فتولى ابنه جاللينوس الحكم بعده. وقد أصدر جاللينوس مرسوم التسامح، ربما تحت تأثير زوجته المسيحية سالوينا، الذي يمنح بمقتضاه للمسيحيين حرية العبادة وحق المحافظة على أماكن عبادتهم وأموالهم.
انتهاء الاضطهاد:
وهكذا عاد ديونيسيوس الكبير إلى الإسكندرية بعد انتهاء الاضطهاد وحلول عصر السلام الذي سيستمر حوالي ٤٠ سنة، لكي يواصل كفاحه فيها؛ لأن المدينة انقسمت إلى فريقين: أحدهما يُشايع جاللينوس الإمبراطور الحقيقي والثاني : يُناصر ماكرينوس وأولاده، إذ أن ماكرينوس كان رئيس نقابة السحرة في الإسكندرية ووزير مالية الدولة. وفي ظل هذه الفوضى يصف القديس ديونيسيوس أحوال الإسكندرية:
[ليس من السهل على المرء أن يتنقل داخل حدود ولايته، بل ولا حتى الانتقال من شرق المدينة إلى غربها. فعبور الصحراء الرحبة التي فيها عَبَرَ شعب إسرائيل أيسر من التجول في قلب المدينة. ومياه الميناء الساكنة امتلأت بالدماء حتى يُخيَّل للناظر أنها مياه البحر الأحمر (!!)… ويتعجب الناس من أين أتت الأوبئة والأمراض من كل نوع؟ وما علة اقفرار المدينة العابرين فيها، حتى أن المرء لا يُقابل فيها سوى كهول على شفا الموت وأطفال صغار، مع أنها كانت مملوءة من الأشداء والأقوياء؟ ]
(10-1,21:3 HE, VII)
ثم يصف لنا البابا ديونيسيوس حال الكنيسة أثناء الاضطرابات التي سببتها الأوبئة، بالمقارنة مع ما فعله الوثنيون:
[حقاً، على هذا المنوال رحل عنا إخوتنا، ومنهم بعض الكهنة والشمامسة (وأراخنة الشعب) الذين كانوا مشهورين جداً. فكان هذا النموذج في مجابهة الموت بما أظهروه من تقوى عظيمة وإيمان قوي لا ينقص شيئاً عن الاستشهاد فكانوا يحملون أجساد القديسين أيديهم المجردة وفي أحضانهم ويغلقون (يُسبّلون) أعينهم وأفواههم، وعلى أكتافهم يحملونهم، ويضعونهم على فراشهم ويمسكون بهم ويحتضنونهم ثم يُغسلونهم الاغتسال اللائق ويكفّنونهم في الملابس. وبعد قليل ينالون هم أيضاً نفس هذه المعاملة، لأن الباقين أحياء كانوا بعد قليل يلحقون مَنْ سبقوهم أما عن الوثنيين، فكان كل شيء مختلفاً تماماً. كانوا يهجرون من ابتدأ منهم يمرض، ويهربون من أعز أصدقائهم، وكانوا يطرحونهم في الشوارع وهم نصف موتى ويتركونهم كأنهم نفاية بدون دفن بل كانوا ينفرون من أية خلطة أو شركة مع موتاهم، ورغم كل هذه التحذيرات والاحتياطات لم يكن سهلاً أن يهربوا من الوباء والموت ]
(10-1,22:8 HE, VII).
بدعة الحكم الألفي:
خلال نفي البابا ديونيسيوس في ليبيا، نشطت بدعة الألف سنة، تلك البدعة التي خمدت نتيجة ارتفاع المستوى الروحي الذهني لرجال الكنيسة خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين. ولكن الملاحظ دائماً، أنه نتيجة اشتداد حملات الاضطهاد ضد المسيحية، أن بعض النفوس تخور وتستسلم؛ والبعض الآخر يفتر جهادهم الروحي فيلتمسون عزاء في بعض الأفكار الجسدانية مثل: حكم الألف سنة، وكيفية ملك المسيح على الأرض، وفرض إنجيله بالقوة على الشعوب؛ فهذا بلا شك مبدأ متوارث من اليهودية الفريسية وعدم قدرتها على السمو الروحي المتناسب مع الإنجيل. ونشاط هذه البدعة كان متركّزاً في مدينة أرسينو بمقاطعة الفيوم، حيث ألف أسقفها، وكان يُدعى نيبوس، كتاباً سماه : “الرد على القائلين بالرمزية، وفيه يُنادي بوجوب تصديق الكتابات النبوية وسفر الرؤيا بالذات تصديقاً حرفياً كما قبله رجال العهد القديم وقديسوه، وهذا كان رد فعل ضد أوريجانوس ومن تبعه. وقد تنيح هذا الأسقف وصار بعده “كوراسيون Coracion” رأس هذه الجماعة في الفيوم. وكان لهذه الجماعة تنظيم ومعلمون وكهنة ونشاط أقلق القديس ديونيسيوس.
لذلك وضع القديس ديونيسيوس كتابين للرد على هذه الجماعة باسم: “على المواعيد الإلهية”؛ فند فيهما آراء نيبوس في مسألة الحكم الألفي، كما اجتمع مع كهنة وشعب المنطقة ورؤسائها ومعلميها لمدة ثلاثة أيام من الصباح حتى المساء، في حوار حر هادئ ظهرت فيه قدرة هذا القديس في الكلام والإقناع وطول الأناة والحوار الطاهر المقدس، حتى اقتنع الجميع بوجهة نظره، وأعلن كوراسيون هذا علانية: إنه قد تخلى نهائياً عن هذه المبادئ والتعليم، وإنه متمسك بكل الأسانيد التي قدمها أنبا ديونيسيوس.
ومن تعليق القديس ديونيسيوس على رأيه الخاص بخصوص سفر الرؤيا، أنه لا يرفض هذا السفر بل يؤمن بقداسته، وأنه موحى به من الله كسفر مقدس :
[لكن في الحقيقة إن أفكاره تفوق قدراتي الذهنية. ومع هذا أظن أن في كل قطعة منه معنى مختبئاً مثيراً للدهشة] (25:4 HE, VII).
ثم يقدم الأسانيد التي تجعله يعتقد أن كاتبه ليس هو القديس يوحنا الإنجيلي كاتب الإنجيل الرابع والرسائل، بسبب الاختلاف اللغوي والخصائص الأدبية الواضحة بين هذا السفر وباقي كتاباته. وهذا يرينا قدرة هذا القديس العلمية على استيعاب قواعد نصوص الكتاب المقدس التقليدية كما كانت في مدرسة الإسكندرية.
حوار حول موضوع الثالوث الأقدس:
كانت كنائس ليبيا تحت سلطة كرسي الإسكندرية، حيث قامت مناقشات خطيرة حول الثالوث الأقدس. ففي الخمس المدن نشأ سابيليوس ونشر بدعته التي ألغى فيها التمييز بين الثلاثة الأقانيم. وقال: إن الآب ظهر في العهد القديم للآباء والأنبياء، وهو هو نفسه في العهد الجديد تسمى باسم الابن، وهو هو الآن يُسمَّى الروح القدس؛ فالأقانيم ليست أكثر من ظهورات مختلفة الله الواحد.
وقد انتشرت هذه البدعة في ليبيا وامتدت إلى الإسكندرية، حتى أنه في أيام نفي ديونيسيوس لم يعد أحد في كنائس ليبيا قادراً أن يتكلم عن الابن. وسنوات المنفى منعت القديس ديونيسيوس من التدخل في الوقت المناسب للرد على المبتدعين ولكن منذ سنة ٢٥٧م، بدأ تدخله على النحو الذي يصفه القديس أثناسيوس بعد ذلك في مقالته: “على أفكار ديونيسيوس. فقد كتب القديس ديونيسيوس إلى مبتدعي هذه الهرطقة لكي يتركوها، ولكنهم لم يستجيبوا، بل ازدادوا جسارة في تجديفهم.
ثم توالت رسائل القديس ديونيسيوس إلى ليبيا والخمس المدن بل وحتى إلى كنيسة الإسكندرية. وبسبب قلقه على إظهار التمييز بين عمل الأقانيم الثلاثة، لم يؤكد أو لم تظهر في رسائله التأكيدات على وحدانية الجوهر الإلهي، وكان هذا الإغفال غير المتعمد فرصة فيما بعد للآريوسيين أن يتخذوا من رسائله حجة لتأييد دعواهم بخضوع الابن للآب، لأنه أقل منه كرامة، حسب معتقداتهم. لذلك شرح القديس أثناسيوس رسائل ديونيسيوس بطريرك الإسكندرية التي تبادلها مع سميه بابا روما، معترفاً بعدم وضوح بعض تعبيرات القديس ديونيسيوس، ولكنها على أية حال تناقض البدعة الآريوسية.
نياحته
دعا أساقفة كرسي أنطاكية سنة ٢٦٤م القديس ديونيسيوس الحضور مجمع المحاكمة بولس الساموساطي، وذلك بسبب تصرفاته الشخصية والمآخذ التي أُخِذَت عليه؛ ولكن القديس ديونيسيوس اعتذر عن الحضور الشيخوخته وضعف صحته، مستعيضاً عن حضوره برسالة أرسلها إلى المجمع وبعد قليل تنيح بسلام، وخلفه على الكرسي الإسكندري البابا مكسيموس البطريرك الـ ١٥.
وتعيد الكنيسة القبطية لنياحته يوم ٣ توت من كل عام.
- كانت العادة أن يتوجه كبار الموظفين إلى الميادين العامة وقاعات الاجتماعات، ليستمعوا إلى آخر الأوامر الإمبراطورية التي تُقال هناك جهراً. فكانوا هم أول من يجب عليهم أن يقدموا الذبائح للأوثان.
- كانت العادة أن يتوجه كبار الموظفين إلى الميادين العامة وقاعات الاجتماعات، ليستمعوا إلى آخر الأوامر الإمبراطورية التي تُقال هناك جهراً. فكانوا هم أول من يجب عليهم أن يقدموا الذبائح للأوثان.