بين التوحد الأنطوني والكينونيا الباخومية

قد يبدو لأول وهلة أمام القارئ أن التوحد الأنطوني والكينونيا الباخومية قد سارا في طريقين متعارضين: حيث إن الأول يركز بشدة على الاعتزال عن العالم وقطع كل الربط والعلاقات بين المتوحد والمجتمع المحيط به؛ بينما الآخر نشأت أديرته داخل الكور والبلدان أو على أطرافها، مع اهتمامها بتبشير القرى والكرازة للوثنيين لاقتبال الإيمان وتعميدهم ليلة عيد القيامة.

لذلك علينا أن نرجع إلى الواقع التاريخي، فنجد أن القديس باخوميوس قد تتلمذ سبع سنوات للمتوحد بلامون، حيث إنه لم يكن معروفاً حينذاك سوى نظام التوحد في الرهبنة. هذه الحقيقة ينبر عليها القديس أنطونيوس عندما امتدح حياة الشركة في حواره مع زكاوس عضو الوفد الباخومي الذي زار القديس أنطونيوس لأخذ بركته في طريق سفره إلى الإسكندرية، إذ قال القديس أنطونيوس:

[… حينما دخلت حياة الرهبنة لم تكن قد بدأت حياة الشركة بعد حتى يتسنى لي أن أحيا فيها… وهذا هو السبب في اختياري حياة الوحدة. ثم بعد ذلك بدأت حياة الشركة التي هي امتداد لحياة الرسل، والتي مارسها القديس باخوم حتى أصبحت ملجاً لكل من يرغب في حياة التوبة… أما الآن فليس في وسعي أن أجمع معي آخرين وأعيش معهم في حياة الشركة… وإن حاولت ذلك فلن أقدر بسبب تقدمي في السن وشيخوختي. لذلك فضلت أن أستمر في حياة الوحدة].

وهذا يعني أن التوحد الأنطوني كان المظلة المتسعة التي امتدت تحت كنفها “الكينونيا الباخومية. وبعبارة أدق، فإنه في ضوء خبرة المتوحد الأنطوني انبثقت المهمة التي نفذها بإتقان القديس باخوميوس. ولا نبعد عن الحقيقة إن قلنا إن سيرة حياة القديس أنطونيوس التي كتبها القديس أثناسيوس الرسولي سنة ٣٥٧م هي التي ألهمت تلاميذ القديس باخوميوس بتسجيل حياته بتوجيه من تلميذه الوفي تادرس.

فدعوة القديس أنطونيوس للاعتزال عن العالم جاءته من الآية القائلة: «اذهب وبع أملاكك…» (مت ۲۱:۱۹). ومضمون حياة الشركة وجوهرها الحقيقي هو ترك المقتنيات وجحد العالم دخولاً إلى شركة الكنيسة الأولى كما فعل تلاميذ القديس باخوميوس ورهبان الكينونيا. إذن، الدوافع وراء التوحد الأنطوني والشركة الباخومية واحدة.

الفترة الإعدادية في حياة القديس باخوميوس:

في محاولة الغوص إلى الأعماق التي كان القديس باخوميوس يتحرك على هداها، تبرز أمامنا رغبته التلقائية في خدمة الإنسانية، التي تعارف الناس على تسميتها باسم “فيلانثروبيا” أي “محبة البشر” كثمرة التعليم الذي تلقاه خلال السنوات الثلاث التي انتظم فيها في سلك الموعوظين. إذ كان في تعليم الكنيسة للموعوظين، كما سجلته قوانين أبوليدس (القديس هيبوليتس) الخاصة بكنيسة الإسكندرية، تلك التزكية التي تؤهّل الموعوظ لتقبل سر المعمودية بعد قضاء فترة التعليم في صفوف الموعوظين ثلاث سنوات، أنه : “… قد سعى في عمل الوصايا في الزمن الذي وُعِظَ فيه، وأنه عاد (أي افتقد) المرضى، ودفع للعاجزين، وحفظ نفسه من الكلام الرديء، وأبغض المجد الباطل، وازدرى بالكبرياء، واصطفى له التواضع، واهتم بالفقراء القريبين منه”.

وفي ليلة عماد القديس باخوميوس رأى في رؤيا ندى الليل نازلاً على رأسه ثم تجمع في يده اليمنى وتحول إلى شهد عسل. وفيما هو متفكّر في ذلك، إذ بهذا العسل ينزل ويمتد على وجه الأرض. وفي حيرته جاءه صوت من السماء يقول: ” افهم هذا يا باخوميوس، لأن ذلك سيحدث معك بعد وقت قصير. وهكذا بدأ باخوميوس من منطلق تعاليم الكنيسة للموعوظين ومن تأثره بهذه الرؤيا في ممارسة عمل الرحمة مع كل إنسان نامياً في قامته الروحية. وكان يطيب قلب كل من يأتي إليه. وحدث أن تفشى وباء الطاعون في تلك القرية (شنيست) مما أدى إلى وفاة كثيرين. فذهب القديس باخوميوس لكي يخدم المرضى، ويُعِدَّ لهم كميات من خشب السنط – للاستدفاء كان يجمعها من الأحراش القريبة، ويقضي أيامه في خدمة هؤلاء المرضى إلى أن يشفوا.

ومع أننا نمتدح بلا شك هذه “الفيلانثروبيا” أي ” المحبة للبشر التي أظهرها نحو المرضى والمساكين، إلا أنه لم يقتنع بها؛ إذ تحكي سيرته أنه راجع نفسه قائلاً: “إن هذا العمل الخاص بخدمة المرضى ليس هو عمل الراهب، بل عمل الشيوخ الأتقياء (أراخنة الشعب) والكهنة. ومنذ الآن لن أقوم به حتى لا يسير خلفي كثيرون ويعثرون”.

إذن، يمكن القول إن المحبة التي أظهرها مسيحيو طيبة وترحيبهم بالغرباء والأعداء (وكان من بينهم المجند باخوميوس قبل إيمانه حينذاك)، ثم الكنيسة التي انتظم فيها القديس باخوميوس، بتعاليمها وتقاليدها، كانت جميعها بمثابة تدريب على المحبة الإنسانية: “الفيلانثروبيا قبلما ينتقل إلى المرحلة التالية تحت تدبير القديس بلامون لاستكمال مسيرته في النسك وجحد الذات والخروج من العالم. فالأولى، كانت المحرك الأول للنمو الروحي والثانية، امتداداً واستطراداً إلى القمة العليا وخدمة الروح بالروح. لذلك تتلمذ باخوميوس للقديس بلامون في أصوام وأسهار، في قراءة وهذيذ الكتب المقدسة في صلاة وتسبيح في تواضع وطاعة للشيخ المعلم. كلها عناصر نسكية متآزرة مارسها تحت كنف الشيخ المتوحد بلامون الناسك، فصاغت شخصيته وروحانيته لتتأهل للمهمة التي سيُكلف بها من قبل الروح القدس. فكل قصة وواقعة حدثت له مع أنبا بلامون معلمه، كان لها صداها وما يوازيها في سيرة وتعاليم القديس باخوميوس مؤسس الكينونيا.

النسك عند القديس باخوميوس:

هناك دلائل كثيرة في سيرته تُفصح عن استمراره في حرارة نسكه طيلة حياته، بل وتحفل أيضاً بالكثير من الإنذارات والتحذيرات ضد النساك المزيفين الذين تكبروا وانتفخوا نتيجة تطرفهم، سواء كانوا متوحدين منعزلين أو رهبان الكينونيا. ولا يغيب عن بالنا أن الالتزامات النسكية التي وضعها على رهبانه كانت في غاية الاعتدال حتى تتناسب مع كل القامات للأعداد الكبيرة التي جاءته. أما ما نراه من تقشف صارم شديد في حياته الشخصية فهو صدى لعظاته وتوجيهاته عن الصليب” و “الاستشهاد . فهو يشهد عن معلمه القديس بلامون: “كان في جسده كل حين سمات صليب الرب يسوع، والآلام التي عانى منها شخصياً خلال حياته المتقشفة هي: “… المسامير التي دقت في جسد الرب على الصليب”. 

فالنسك عنده هو التطبيق المباشر لحياة الرب يسوع ليكون هو قدوة مثالية للآلاف من تلاميذه ورهبانه. وهذه شهادة حية على سمو أعماقه الروحية ومدى إنكاره لذاته.

ومن هذا المنطلق ندرك العلة وراء إحساسه بالأسى والألم نتيجة ضياع الهدف من إماتة الذات من بعض تلاميذه فليس النسك هو إماتات جسدية وحسب، بل لابد أن ترافقه حراسة الأفكار المقاومة إيحاءات العدو، مع هذيذ دائم وترديد آيات الكتاب المقدس عن ظهر قلب والتأمل فيها، ثم صلاة بلا فتور ولا انقطاع، كلها أساسيات النسك في “الكينونيا الباخومية، تسلمها القديس باخوميوس من القديس بلامون، فصارت حجر الزاوية عنده ومنها امتد وتطور الدور الذي على الأب الروحي للجماعة أن يكونه، لأن التواضع والطاعة اللذين عاش بهما القديس باخوميوس سبع سنوات مع معلمه، صارا النموذج الذي صاغ على مثاله التلمذة الرهبانية لدى الجميع، وبصورة ممتازة في تلميذه المحبوب تادرس.

الأبوة الروحية ذات الإيمان القويم:

إلى جوار العناصر النسكية السليمة التي اتخذت مكانها الصحيح في أساسيات “الكينونيا الباخومية، تسلم أيضاً القديس باخوميوس من معلمه إيماناً قويماً وشركة كنسية متكاملة صحيحة، لتصير قيماً ثمينة للغاية في حياة الشركة. ولولاها ما استطاعت الكينونيا أن تجد مكانها في الكنيسة الجامعة الرسولية.

فالإيمان لم يكن سهلاً في الوقت الذي نال فيه القديس باخوميوس معموديته، إذ كان العصر مضطرباً بتيارات من البدع والهرطقات بدءاً من انشقاق ملاتيوس أسقف ليكوبوليس (أسيوط) وأتباعه ضد البابا ألكسندروس بطريرك الإسكندرية الـ ۱۹ ، وانضمامهم بعد ذلك للآريوسيين المقاومين للبابا أثناسيوس الرسولي، ثم هرطقات الماركيونيين والغنوسيين بتفرعاتهم المتشعبة، والذين اكتشفت مخطوطاتهم منذ أكثر من خمسين سنة في إحدى المناطق المتاخمة لدير شينوبسكيون قرب نجع حمادي. كل هذا كان أمام القديس باخوميوس كبحر تتصارع فيه التيارات الشديدة الجذب حتى يعسر اختيار الإيمان الكنسي الصحيح الذي سيتعمد على اسمه، فيقول في اعترافه لتلميذه تادرس:

[…. حين بدأت في ممارسة النسك، حاولوا أن يُسقطوني في هرطقة ملاتيوس، وأحياناً تعاليم ماركيون لأنضم إلى هرطقاتهم. وكنتُ أعلم أنه توجد هرطقات أخرى يدعي أصحابها أنهم يملكون الحق في حياتهم. ولما وجدت نفسي مضطرباً بكيت بدموع أمام الله لكي يكشف لي الحق، لأنني في حيرة من هذه الأمور . ثم اختطفت… وسمعت صوتاً من كل اتجاه يقول: هنا الحق ورأيت كثيرين يجرون في كل اتجاه نحو هذا الصوت ويتبعون الصوت في الظلام، وواحد يقود الآخر … ثم سمعت صوتاً يقول لي: لا تنخدع وراء الذين ساروا في الظلام؛ بل اتبع النور، لأن هذا هو الحق. وكان هذا الصوت هو صوت المسيح في شخص ألكسندروس البابا على كنيسة الإسكندرية (عام ۳۱۲ – ۳۲۸م). أما بقية الأصوات الأخرى التي كانت في الظلام فهي أصوات الهراطقة، وفي كل منها كان الشيطان هو الذي يتحدث ويقودهم إلى الانحراف … ثم ذهبت وعشت مع رجل الله بلامون (عام ٣١٦م) الذي كان يسير على خطى القديسين].

فكان اختيار الفتى باخوميوس للقديس بلامون الناسك ابن الكنيسة المستقيمة الإيمان، الصحيحة المعتقد هو الذي جعل أديرة الشركة فيما بعد عوناً لبطاركة الإسكندرية ضد الهرطقات؛ ليس بالمساجلات والمجادلات، ولكن بالاعتقاد القويم والحياة الطاهرة والعبادة الحارة والصلاة.

لقد كانوا يقتاتون على العطاء المزدوج الذي تقدمه لهم الكنيسة، أعني كلمة الله المدونة في الأسفار الإلهية، ثم “الإفخارستيا”. فكانوا يسمعون كلمة الله بصفة منتظمة خلال القراءات الكنسية وخدمة الليتورجيا وباقي الطقوس على يد الكهنة المستقيمي المعتقد الذين كان أسقف المنطقة يرسلهم للأديرة الباخومية؛ ومن خلال زيارات الأساقفة وافتقاد البابا أثناسيوس بطريرك الإسكندرية لهم. ثم كانت كلمة الله أيضاً تشرح لهم خلال الاجتماعات الأسبوعية التي يعقدها رؤساء البيوت والجماعات يومي الأربعاء والجمعة والتي يعقدها رؤساء الأديرة يومي السبت والأحد. وفي غير هذه الأوقات كانت كلمة الله هي هذيذهم الدائم بقية الأسبوع، يرددونها غيباً خلال أعمالهم أو في قلاليهم، وكلها مختومة بخاتم السلطان الكنسي.

ومن الناحية الأخرى، كان تناولهم من الجسد والدم الأقدسين يوحدهم بجسم الكنيسة الجامعة الرسولية من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها ورهبان الكينونيا – كأبناء أوفياء لهذه الكنيسة – كانوا يترقبون هذا القوت الروحي من أساقفة الكنيسة وكهنتها. وبذلك لم تكن “الكينونيا الباخومية فرعاً مستقلاً داخل الكنيسة، ولا قامت لتزيد التعددية في الكنيسة؛ بل هي إحدى الثمار المشتهاة لكنيسة الإسكندرية.

كلمة ختامية:

كان إيمان أبناء القديس باخوميوس أن “حياة الكينونيا” هي بعينها كنيسة الرسل التي قامت من ثلاثة قرون في أورشليم كما يشهد القديس تادرس:

+ “اجتمعنا هنا في هذه الشركة بترتيب إلهي وليس بترتيب بشري… إنها أماكن القديسين التي يسكن فيها الله” (أقوال القديس تادرس).

+ “الرسل هم الذين وضعوا حياة الشركة، ثم جاء أنبا باخوميوس بعدهم وأكملها” (تعاليم القديس تادرس)

+ “نسلك في حياة الشركة كأننا مواطنو السماء، ونحيا كأننا ملائكة.” (وصايا القديس تادرس)

وقد يتبادر إلى ذهن القارئ – في الختام – هذا التساؤل: هل توقفت وانقطعت هذه المؤسسة الضخمة البهية التي اجتذبت وما زالت تجتذب أنظار العالم المسيحي بقوة شهادتها المذهلة وتجديدها لكنيسة الرسل ؟ إطلاقاً فالوعد الذي أعطاه الرب يسوع وعلى رأسه إكليل الشوك للقديس باخوميوس ما زال موجوداً : إنَّ “… البذرة التي زرعتها لن تنتهي أبداً، بل ستحفظ في العالم حتى نهاية الأزمنة. لأنه طالما يجتمع إخوة في محبة المسيح ليعيشوا في شركة كاملة في المقتنيات وفي المحبة الأخوية وإنكار المشيئة الذاتية تحت قانون روحي وأب معلم، ستبقى الكينونيا قائمة حية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى