الطقس الآشوري والليتورجيا الآشورية 

الطقس السريان الشرقي هو أبسط الطقوس الشرقية، ومن أقدمها. نشأ في مناطق بعيدة عن المؤثرات الهيلينية، ولم ينطق إلا بالآرامية، فحافظ أكثر من سواه على الصيغة السَّاميَّة للجماعات المسيحيّة الأولى المنحدرة من اليهودية. وهو طقس تأمل وإصغاء للكلمة تتناوب فيه قراءات طويلة من المزامير على وتيرة واحدة في كنائس خالية من الزينة، وهو في ذلك طقس بسيط قنوع. وكل صلواته تبدأ حتماً بالصَّلاة الرَّبيَّة. ولا يوجد باب أو حجاب يحجب رؤية الهيكل. ولقد انحسرت طقوس الأسرار ولم يبق منها إلا الضروري. 

وكان التنظيم الأساسي للطقس السرياني الشرقي على يد البطريرك إيشوعياب الثالث الذي اتبع النظام الجاري استخدام آنئذ في دير مار كورئيل، ودير مار أبراهام الملقب بالدير العالي (ديرو علويو) على ضفاف نهر دجلة في الموصل، وأجرى عليه بعض الإضافات ،والإصلاحات مكسباً إياه وجهه الجميل الذي لازال عليه حتى اليوم، مع ما لحقه من إضافات عبر الأجيال وخاصة في القرن الحادي عشر على يد البطريرك إلياس أبو حليم، والثالث عشر على يد البطريرك حُب الله الثاني. 

 

غير أن الطقس السرياني الشرقي قد تأثر بمؤثرات لاتينية أقحمت عليه في القرن السادس عشر، لاسيَّما في الجزء من الكنيسة الآشورية الذي انضم إلى روما وتسمى باسم الكنيسة الكلدانية. فقد حافظت هذه الكنيسة على الممارسة الليتورجيَّة التي يستخدمها النساطرة مع بعض التّعديلات. وعلى الرَّغم من حذف اسم تيودور الموبسويستي واسم نسطور من عنواني الأنافورات الخاصة بهما، إلا أنهما لازالتا تُستخدمان في صلوات الكنيسة الكلدانية. 

وكان آخر إصلاح ليتورجي لهذه الكنيسة في القرن التاسع عشر هو قام به مار عبد يشوع خياط متروبوليت آمد، والذي صار بطريكا باسم عبد يشوع الخامس خياط (1894 – 1899م). حيث أصدر كتاباً بعنوان: ” الصَّلاة الفرضيَّة للكهنة حسب طقس السريان المشارقة وهم الكلدان”. 

والليتورجيا الآشورية مستقلة وفريدة في نوعها، وهي تحمل في طيَّاتها آثار الحضارات التي تعاقبت في بلاد ما بين النهرين من سامية، وبابلية، وآشورية وفارسية، ويهودية ومسيحية. ولقد أثرى الرهبان والبطاركة الأقدمون هذه الليتورجيا الآشورية أمثال أفراهات الفارسي ومار شمعون البطريرك الشهير ومار أفرام ومار ماروتا متروبوليت ميافرقين والشاعر نرساي وكثيرون غيرهم. 

وعلى خلاف التقليد السرياني الغربي الأنطاكي والذي يُظهر تنوعاً في الأنافورات، فالتقليد السرياني الشرقي يعرف ويستعمل ثلاث أنافورات فقط هي: 

( أ ) أنافورا الرَّسولين أدّاي وماري، (قداشا تشليحي).
(ب) أنافورا تيودور الموبسويستي، (قداشا دامبشقانا).
(ج) أنافورا نسطور، (قداشا دمار نسطوريوس). 

ولقد تم اختيار هذه الأنافورات الثلاث منذ القرن السابع الميلادي، من قبل البطريرك إيشوعياب الثالث، والذي منع في نفس الوقت استعمال الأنافورات الأخرى. 

وتعد أنافورا الرُّسُل، أي أنا فورا أدّاي وماري، هي الأقدم بين هذه الأنافورات الثلاثة، والأكثر تكريماً، والأكثر استخداماً بينها حتى اليوم وهي تُستعمل بدءًا من اليوم الذي يتلو أحد الشعانين حتى نهاية السنة الطقسية ماعدا أيام الأعياد. 

أما الأنافورتان الأخريان فهما أقل استعمالاً. ويُحتفل بأنافورا تيودور الموبسويستي Theodor of Mosuestia من أوَّل السَّنة الطّقسية حتى أحد الشعانين، إلى جانب أيام الأعياد. أما أنافورا نسطور فتُستعمل في خمسة أعياد فقط هي: الغطاس، ويوحنا المعمدان، ومعلمي الكنيسة اليونانيين، ويوم الأربعاء لصوم أهل نينوى، ويوم الثلاثاء من الأسبوع المقدَّس. 

وإلى جانب أن آسيا الصغرى هي منشأ أنافورات تيودور الموبسويستي ونسطور إلا أنهما يعودان إلى التقليد البيزنطي. ولقد تمت ترجمتهما من اليونانية إلى السريانية في منتصف القرن السادس بواسطة الجاثليق مار آبا، وساعده في ذلك مار توما “معلم الرَّها“ . ومن الناحية الأخرى لابد وأن تكون أنافورا أدّاي وماري قد نشأت في سوريا نفسها في وقت مبكر جداً، وربما في الرَّها في القرن الثاني أو الثالث. 

أنا فورا أدّاي وماري 

وهي من مدوّنات أوائل القرن الثالث المسيحي قبل ظهور بدعــــة أريوس، ونسطور، وقبل حدوث الانشقاق بين الكنائس، ولذلك فهي تمثل الصلوات الإفخارستية في صورتها البدائية الأصيلة. وهي تنقسم إلى قسمين ينتهي كل منهما بذكصولوجية. وبين هذين القسمين أضيفت بعض الأواشي أو الصَّلوات التوسلية Litany في عصر لاحق. 

القسم الأوَّل: هو صلاة شكر تتميز ببساطتها المتناهية، إذ بمقارنتها بصلوات الشكر في باقي القداسات ذات الطابع السرياني يتضح لنا مدى قدّم هذه الصَّلاة. وهذه الصَّلاة تقدّم الشكر لله الآب والابن والرُّوح القُدُس، أولاً على عمله في الخليقة وأخيراً على عمله الخلاصي. 

والتسبحة الشاروبيميَّة، التي تقابلنا بعد ذلك فهي من الصلوات التي أُضيفت على النَّص الأصلي. لأنه بقراءة النص بكامله بدون هـذه الإضافة يظهر مدى انسجام وتطابق الصَّلاة بكاملها. وفي هذا تتشابه صلاة الشكر هذه مع مثيلتها التي وردت في التقليد الرسولي لهيبوليتس، والتي هي من مدوّنات نفس العصر، في كونها لا تحتوي على التسبحة الشاروبيمية. 

القسم الثاني : يظهر فيه تأثر الكاتب بالعشاء الرباني كما أورده القديس بولس الرسول، فيركز على آلام وموت ودفن وقيامة ربّنا ومخلصنا يسوع المسيح. حيث يبدأ هذا القسم بقوله: “ونحن كذلك يارب نحن خدامك المجتمعين باسمك، نقف في حضرتك في هذه الساعة وقد قبلنا حسب التقليد هذا السر الآتي منك، وبابتهاج نمجد ونعظم ونذكر، ونتمم هذا السر العظيم والمرهوب، والمقدَّس والمحيي والإلهي الذي لآلام وموت ودفن وقيامة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح. 

ليتورجية أدّاي وماري تشهد لتقليد شرقي سحيق في القدم

إن الفكر الأرثوذكسي التقليدي الذي برز بوضوح منذ العصور الوسطى كرد فعل للاهوت الكاثوليكي، هو أن تقديس القرابين يتم لحظة استدعاء الرُّوح القدس ليجعل من الخبز جسد المسيح المقدَّس، ومن الخمر دمه الكريم. 

أما العقيدة الكاثوليكية في ذلك والتي استقرت منذ القرن الثاني عشر أن استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه تتم في رواية التّأسيس، وهي القسم الأكثر أهميَّة في صلاة القداس بحسب الفكر اللاتيني. وهي فكرة لم تكن مقبولة حتى بين اللاهوتيين الغربيين أنفسهم. وإن تطور هذا الرأي قد دعمه حقيقة أن صلاة استدعاء الرُّوح القدس في التَّقليد اللاتيني تتم قبل رواية التأسيس وليس بعدها. 

ورواية التأسيس هي تلك الكلمات التي قالها الرب في ليلة العشاء الأخير عند تقديس الخبز والخمر. وأوَّل ذكر لها ورد عند القديس بولس الرَّسول، والأناجيل الإزائيَّة. وهي تبدأ بكلمات: أخذ خبزاً على يديه الطاهرتين … خذوا كلوا هذا هو جسدي خذوا اشربوا هذا هو دمي …،، أو ما يشبه تلك العبارة السابقة. 

ولكن أنافورا الرُّسُل الآشورية (أنافورا الرَّسولين أدّاي وماري) لا تدعم الموقف التّقليدي الأرثوذكسي أو الفكر التقليدي الكاثوليكي. فأقدم المخطوطات لهذه الليتورجيَّة والتي ترجع إلى القرن العاشر أو الحادي عشر للميلاد، لا يرد فيها ذكر لرواية التأسيس. 

أما صلاة استدعاء الرُّوح القدس في هذا القسم الثاني فيُظن أنها مضافة في زمن لاحق. ومع ذلك تبقي صلاة استدعاء غير مستوفية شروطها كما في الليتورجيَّات السريانية الأخرى، إذ يأتي الاستدعاء بعد الأواشي وليس قبلها، فضلا عن عن أنه يخلو من طلب صريح بأن يحل الرُّوحِ القُدُس على القرابين ليجعل منها جسد المسيح ودمه الكريمين، مكتفياً بطلب الحلول على القرابين ليباركها ويقدسها، لتكون سبباً للصَّفح عن الزَّلات وغفران الخطايا، ومنح الحياة الجديدة في ملكوت السموات، فيقول نص الاستدعاء: 

“فلتأت أيها الرَّب، وليحل روحك القدوس على تقدمة عبيدك فيباركها ويقدّسها، فتكون لنا أيها الرَّب من أجل الصفح عن الذنوب، ومغفرة الخطايا، ومن أجل الرَّجاء الكبير بالقيامة من الأموات، ومن أجل حياة جديدة في ملكوت السموات مع كل أولئك الأموات الصالحين في نظرك“. 

وفي الحقيقة فإن الجدل القديم بين الأرثوذكس والكاثوليك عما إذا كان حضور المسيح في سر القربان يتم في لحظة استدعاء الرُّوح القـ القدس، أو بواسطة كلمات التّأسيس، هو أمر مستحدث. لأن كل الليتورجيا بكل صلواتها وأقسامها لا غنى عنها بكليتها لتتميم السِّر. واختيار لحظة معيَّنة تنصب عليها الأهميَّة الكُبرى دون غيرها في الصَّلاة الليتورجية هي نتاج فكر لاتيني غزا الشرق منذ القرن الثاني عشر تحت اسم “اللاهوت المدرسي”، وهو اللاهوت الذي اعتمد على المنطق في إثبات العقيدة دون التحام حقيقي بالليتورجيا. وعلى الرغم من أن الكنيسة الأرثوذكسية لم تنزلق في متاهات اللاهوت النظري الغربي عن اللحظة التي تصير فيهـ القرابين جسد الرَّب ودمه الأقدسين، إلا أن صدى هذه التعاليم قد تسرب في تعليم الكنيسة الأرثوذكسية برغم أن ليتورجيتها ظلت حتى اليوم لا تحمل أي سند يدعم هذه التعاليم النظرية. 

فالتقليد القبطي القديم شاهد أصيل على التّقليد الشرقي، فهناك أكثر استدعاء في ليتورجيَّة القدّيس مرقس )القداس الكيرلسي)، فضلاً أن قداس القديس سرابيون المصري والذي يعود إلى القرن الرابع يتم فيه استدعاء الابن لتقديس الأسرار وليس استدعاء الرُّوح القدس. 

ومن بين الأنافورات الكثيرة التي تستعملها الكنيسة السريانية الغربية، هناك ثلاث أنافورات تفتقد كلمات التّأسيس هي أنافورا القديس بطرس، وأنافورا إكسيستوس Xystos الرُّوماني، وأنافورا ديونيسيوس يعقوب بار صليبي. 

وكذلك الأنافورا الإثيوبية للقديس يعقوب السروجي، والتي هي ذات أصل ،سرياني، فهي تروي حقيقة أن المسيح قد احتفل بالقربان مع تلاميذه، ولكنها لا تذكر أية كلمات قالها الرَّب في تلك المناسبة. فيقول الكاهن في تلك الأنافورا:

“أنت أخذت خبزاً بيديك المقدَّستين لتعطيه لرسلك الأطهار. أنت الذي باركت ،آنئذ، بارك أيضاً الآن هذا الخبز. ومرَّة أخرى (كنت أنت) تمزج. كأسا من الخمر بالماء لتعطيه لتلاميذك . أنت يا قدست آنئذ قدس الآن أيضاً يارب هذه الكأس. أنت يا من وزعت آنئذ، وزّع الآن أيضاً هذه الكأس. يا من وحدت آنئذ وحد الآن أيضاً هذه الكأس مع هذا الخبز ليكونا جسدك ودمك”. 

هذا بالإضافة إلى أن أنافورا القدِّيس يوحنا ذهبي الفم، وفقاً للتقليــــد السرياني لا تحتوي سوى على كلمات ذات دلالة فقط لرواية التأسيس، وذلك فيما يختص بالخبز فقط، أما عن الكأس، فرواية التأسيس واضحة: 

”… كذلك أخذ الكأس، بارك، قدس، وأعطي تلاميذه، قائلاً: خذوا اشربوا جميعاً من أجل غفران الديون، ومغفرة الذنوب، ومن أجل الحياة الأبدية”

إلا أن التأسيس في هذه الحالات مسجل كحقيقة، ولكن في أنافورا الرَّسولين أداي وماري غير مذكور على الإطلاق. وبرغم هذا فإن لاهوتيي كنيسة المشرق الآشورية يرون أن هناك من الأسباب الهامة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن أنافورا أداي وماري هي دليل قديم على أن حضور المسيح في القرابين يتم عن طريق الاحتفال الليتورجي بأكمله مع الأنافورا التي تمثل صلاته العُليا. وأن الاحتفال الليتورجي بدون رواية التأسيس قد يُعتبر تقليداً صحيحاً يرجع إلى بدايات الكنيسة، وهو التقليد المحفوظ بشكل أساسي في سوريا، والمشهود له في ليتورجيا الديداخي التي تعود إلى أواخر القرن الأول المسيحي.

أنافورا نسطور 

لقد دارت مباحثات بين بعض من علماء الليتورجيا عن العلاقة بين أنافورا القدّيس يوحنا ذهبي الفم البيزنطية وليتورجية القسطنطينية التي استخدمت في كنائس المدن. فاتجه رأي البعض إلى أنه قد أُعيدت صياغة هذه الأخيرة باللغة السريانية، وأصبحت تُعرف باسم “ليتورجية نسطور“، أو أنافورا نسطور. بينما رأى البعض الآخر أن ليتورجية نسطور هي الأقدم من حيث أنها الأقصر، والتي ربما كانت نتاج صياغة جديدة لنص قديم حفظ لدى النساطرة. 

 

ثم أثبت الأب انجبردينج Fr. Engberding بما لا يدع مجالاً للشك، بأن نسطور هو الذي أعاد صياغة ليتورجيَّة القدِّيس يوحنا ذهبي الفم بعد أن أضاف عليها من مذاقه الخاص مسهبا فيها ومكسبا إياها خاصية لاهوتية جعلتها قريبة الشبه بليتورجيَّة القديس باسيليوس في بنيتها الداخلية. ولكن مع إعادة صياغة النَّص في ظل معتقد نسطور، لم يكن ممكناً أن يظل النص في إطار استخدامه الأرثوذكسي الصحيح. 

وانتشرت هذه الليتورجية التي تسمت باسم نسطور انتشارا واسعا في معقل الأريوسيَّة في بلاد فارس مثلما حدث لكثير من ليتورجيات قبلها، كليتورجية القديس يعقوب التي انتشرت انتشاراً واسعاً نظراً لأهمية المدينة المقدسة التي خرجت منها هذه الليتورجيَّة، وكذلك ليتورجية القديس باسيليوس، والذي كان من أكثر المتحمسين للرهبنة، وهو الطريق الذي انتشر في أرجاء العالم كله. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *