تفسير سفر التكوين الأصحاح الثامن


وقوف الطوفان وابتداء المياه في النقصان (ع1-5)

«ثم ذكر الله نوحاً وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك. وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء. فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً. وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبل أراراط. وكانت المياه تنقص متوالياً إلى الشهر العاشر. وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال.» (التكوين 8: 1-5)

«ثم ذكر الله نوحاً»: هذا تعبير مجازي بلغتنا المقصود منه أن الله لا ينسى أولاده وخلائقه، وأنه يتمم مواعيده دائماً مع عبيده. وفي وسط المخاطر الشديدة، وبين مياه الطوفان المدمر، نرى الله يذكرهم.

«وأجاز الله ريحاً على الأرض»: لكي تحمل السحب وتبددها، وتجعل الفيضانات تتراجع. «ورجعت المياه رجوعاً متوالياً»: أخذت تنحسر وتجف.

«وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه واستقر الفلك… على جبال أراراط»: هذه المدة من ابتداء نزول الطوفان (التكوين 7: 24) حيث نقصت المياه نسبياً واستقر الفلك على قمة جبل أراراط. وأراراط كلمة عبرية معناها أرض مرتفعة، وهي من الأصل الأكادي “أرارطو”. وهنا عدة آراء بخصوص موقع جبل أراراط المذكور هنا، أشهرها رأيان: الأول أنه أحد الجبال الواقعة بين أرمينيا وكردستان، والثاني وهو الأرجح أنه إحدى قمم الجبال المعروفة اليوم باسم أراراط بأرمينيا، ولعلها القمة التي تدعى بالتركية “أغري داغ” أي الجبل الشاق، ويبلغ ارتفاعه 17,260 قدماً.

وجبال أراراط تدعى في بعض الترجمات جبال أرمينية.

«وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال»: أي ظهرت رؤوس باقي الجبال الأقل ارتفاعاً من أراراط.

إرسال الغراب (ع 6-7)

«وحدث من بعد أربعين يوماً أن نوحاً فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها. وأرسل الغراب. فخرج متردداً حتى نشفت المياه عن الأرض.» (التكوين 8: 6-7)

بعد أربعين يوماً من اليوم الذي ظهرت فيه رؤوس الجبال، أرسل الغراب أولاً ليعرف أحوال المياه على الأرض، ولعله ظن أن المياه التي استغرقت أربعين يوماً في تغريق الأرض تجف أيضاً في أربعين يوماً. وقد أطلق الغراب من إحدى طاقات الفلك التي كان قد عملها، وهي خلاف الكوّى القريب من السقف. «وخرج الغراب متردداً» أي يروح ويجيء، ولعله كان يبيت في الفلك أو فوقه. ولا شك في أن ما رآه من الجيف الطافية على الماء وجد فيه طعاماً لنفسه، ففضل ذلك على الدخول إلى الفلك. والخاطئ الذي تلهيه ملذات العالم، وتحلو له جيف الخطايا والمآثم والشهوات فيظل متردداً عليها ويرفض الدخول إلى حظيرة النعمة، والاحتماء في أحضان الرب، يشبه هذا الغراب الجاهل.

إرسال الحمامة (ع 8-12)

«ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض. فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأن مياهاً كانت على وجه كل الأرض، فمد يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضاً سبعة أيام أخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فآنت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضاً.» (التكوين 8: 8-12)

أرسل نوح الحمامة ثلاث مرات لتفقد الأحوال على الأرض، وربما يكون ذلك بعد غياب الغراب بسبعة أيام:

(۱) ففي المرة الأولى لم تجد الحمامة مقراً لرجلها بالنسبة لكثرة المياه فعادت إلى الفلك.

(۲) وفي المرة الثانية عادت وفي فمها ورقة زيتون خضراء، فعلم نوح أن الأشجار قد ظهرت فوق المياه. وأوراق الزيتون الخضراء يشار بها روحياً إلى السلام والخير، والحمامة في ذلك تمثل صانعي السلام وأصحاب البشارات الطيبة للعالم. والكتاب يقول: «ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخيرات» (رومية 10: 15).

(۳) وفي المرة الثالثة كانت المياه قد قلت على الأرض فلم تعد الحمامة إلى الفلك.

نلاحظ أن الفترة بين إرسال الحمامة في كل مرة كانت سبعة أيام. وهذا يدل على أن الآباء كانوا يهتمون بحساب التواريخ وتقسيم الزمن إلى أسابيع، ويرجع إلى أنهم كانوا يقدسون السبت ويحافظون على العبادة الأسبوعية.

«فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأن مياهاً كانت على وجه كل الأرض فمد يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك»: لنا في هذا القول الإلهي بعض التعاليم الروحية:

(۱) أن النفوس النقية لا تجد لها مقراً بين أمواج الخطايا، ولا يسعدها أن تتردد بين الجيف، ومقر راحتها الوحيد هو صدر حبيبها حيث تهرع إليه فيقبلها إليه ويريحها من متاعبها. فيا أخي لا تتجول هنا وهناك بعيداً عن رب المجد، لأنه هو وحده فلك النجاة، وإذا أتعبتك أمواج العالم، وحاول اليم أن يغرقك، فأسرع ولا تتوان، واقرع الباب فيفتح لك، ويمسكك بيمينه، ويدخلك إلى حجالته. وحينئذ يحق لك أن تترنم: «أدخلني الملك إلى حجالته. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر» (نشيد الأنشاد 1: 4). وتذكر دائماً أن «حبيب الرب يسكن لديه آمناً. يستره طول النهار. وبين منكبيه يسكن» (تثنية 33: 12).

(۲) وقد يسمح الله بانتقال بعض أحبائنا من هذا العالم، فلا ينبغي أن نحزن كالباقين الذين لا رجاء لهم. إن الرب لا يحب أن يطول مكثهم في أرض الشقاء، التي يغمرها طوفان قاتل من الآلام والهموم والمحن، وفيضانات مدمرة من الخطايا والتجارب، وإنما يدخلهم إليه في المجد.

وكما امتدت يد نوح وأدخلت الحمامة إلى الفلك لنجاتها وحياتها واستقرارها، تمتد يد حبيبنا السماوي لتأخذ نفوس أولاده. إنها لا تدخلها إلى فلك نوح لتحيا حياة مؤقتة، وإنما إلى ديار النعيم لتكون معه إلى الأبد.

جفاف المياه (13-14)

«وكان في السنة الواحدة والستمائة في الشهر الأول في أول الشهر أن المياه نشفت عن الأرض. فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض.» (التكوين 8: 13-14)

في اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الواحدة والستمائة من حياة نوح، رأى نوح أن المياه قد نشفت، بمعنى أنها اختفت ولكن الأرض كانت لا تزال موحلة. وتم جفاف الأرض وخلوها من الأوحال في اليوم السابع والعشرين من الشهر الثاني. والغطاء الذي كشفه نوح عن الفلك هو سقفه، ويرجح أنه كان مصنوعاً من جلود الحيوانات الموصولة ببعضها.

خروج نوح ومن معه من الفلك (ع 15-19)

«وكلم الله نوحاً قائلاً: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد: الطيور والبهائم وكل الدبابات التي تدب على الأرض. أخرجها معك. ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه. وكل الحيوانات وكل الدبابات وكل الطيور وكل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.» (التكوين 8: 15-19)

تتضمن هذه الآيات:

(۱) أمر الله لنوح بأن يخرج من الفلك هو وجميع الأحياء التي كانت معه. ونلاحظ أن نوحاً دخل إلى الفلك في اليوم السابع عشر من الشهر الثاني من السنة الستمائة من حياته (التكوين 7: 11)، وظل فيه حتى اليوم السابع والعشرين من الشهر الثاني من السنة الواحدة والستمائة، أي أن مدة إقامته بالفلك كانت سنة وأحد عشر يوماً. ونعود فنرى هنا دقة التواريخ في الكتاب المقدس مما يدل على جلاله وصحته.

(۲) وعد الله بالبركة لجميع هذه الأحياء، بمعنى أنها ستتوالد وتتكاثر لتعمر الأرض من جديد، حيث يقول لنوح عنها: «ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض». ومعنى «تثمر» هنا: تلد وتنتج.

(۳) تنفيذ نوح لأمر الله وخروجه هو ومن معه من الفلك.

تقديم نوح ذبائح للرب (ع20)

«وبنى نوح مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح.» (التكوين 8: 20)

كان أول عمل عمله نوح بعد نجاته من الطوفان وخروجه من الفلك أنه بنى مذبحاً للرب وقدم عليه ذبائح من جميع الحيوانات والطيور الطاهرة، إقراراً بمراحم الله وتعبداً لجلاله وتعبيراً عن شكره وتمجيده. ومن الواجب على المؤمنين أن يعلموا أن كل ما يقابلهم من نجاح ومن خلاص هو من الله، وأن يقدموا إليه تعبدهم وشكر قلوبهم دائماً.

قبول الرب ذبائح نوح (ع21-22)

«فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضاً أميت كل حي كما فعلت. مدة كل أيام الأرض: زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال.» (التكوين 8: 21-22)

في هذه الآيات:

(۱) إعلان رضى الله حيث يقول: «فتنسم الرب رائحة الرضا»، ومعناها أنه اشتم رائحة السرور، وهو تعبير مجازي يعني أنه سر بذبيحة نوح وقبلها، وأنه رضي عن البشر وعن بقية الخلائق وكلها تمثلت في نوح والأحياء التي معه.

(۲) إعلان عزم الله على عدم إهلاك العالم إهلاكاً كاملاً فيما بعد.

(۳) وعن عدم لعنه الأرض من أجل شرور الإنسان مرة أخرى.

(٤) وعن استمرار قيام قوانين الطبيعة بعملها.

«وقال الرب في قلبه»: أي قال الرب لذاته، وهذا تعبير مجازي يعبر عن عزم الرب على عمل ما.

«لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته»: أعلن الله أنه لن يلعن الأرض وأنه لن يعود يهلك الأحياء من أجل شرور الإنسان كما فعل في أيام نوح، والسبب في ذلك أن الإنسان فيه ميل إلى الشر حتى تكاد الخطية تكون من طبعه. وقوله: «لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته» يعني أن أفكاره وطرقه الشريرة ظهرت بعد أن خلقه الله بمدة وجيزة. والدليل على ذلك أن آدم أخطأ وهو في الجنة، وقايين قتل أخاه بعد سكنى الإنسان على الأرض بقليل، وكان البشر حديثي العهد على الأرض حينما أخطأوا وأهلكهم الله بالطوفان.

وقد يسأل البعض: لماذا الله إذن بالطوفان الذي أهلك العالم في أيام نوح؟ ونجيب بأن الله سمح بذلك لكي يعلن بغضه للخطية، ويوضح للأجيال بشاعة العصيان وسوء عواقبه، ولكي يكون الطوفان الأول عبرة لجميع الأجيال وشاهداً عليها. وإن كان الله يبيد العالم جميعه لأجل الخطايا، فإنه كثيراً ما يلحق بالخطاة عقوبات وخسائر مروعة، كما أنه يذخر لهم الويل والعذاب الأبديين في الآخرة.

ونلاحظ أيضاً أنه وإن كانت الخطية تستحق القصاص، إلا أن الله بإمهاله يعطي الإنسان فرصاً للتوبة عله يرجع ويتوب ويحيا، وهذا مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية الفائقة.

«مدة كل أيام الأرض: زرع وحصاد…»: أي مادامت الأرض خاضعة لجميع نواميس الطبيعة وظواهرها، تظل قائمة بعملها لخدمة الإنسان وبقاء العالم رغم انحرافات الإنسان وزيغانه، لأن الله لفرط محبته «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين» (متى 5: 45).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى