دراسات عابرة فى سفر التكوين: اليوم الأول انطلاق النور

اليوم الأول: انطلاق النور

وَقَالَ اللهُ: لِيَكُنْ نُورٌ فَكَانَ نُورٌ

يبدأ الله الخليقة في اليوم الأول بالنور – حتى نستطيع أن نرى بواسطة إنارة الإنجيل كل أعماله العجيبة والجميلة – قد أمر الله النور بالانطلاق كأنه كان مقيداً ففك قيده، وبذلك أخذت هذه الظلمة التي أحاطت بالأرض أن تتبدد. وهذا الانطلاق الذي أمره الرب كان لكي نستفيد نحن فقط، لأن الكتاب لما قال: «وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ» لم يكن يعني غير الأرض.

لذلك لم يكن ما يمنع أن تكون بقية المخلوقات (السماوات) مضاءة. والقول «لِيَكُنْ نُورٌ» – كما تفيد العبارة الأصلية – تعني إطلاق سراح سجين. فهي ليست لخلق النور، بل لإظهار النور على الأرض التي غمرتها المياه والظلمة.

ذلك لأن كل الكواكب التي خُلقت وعُبّر عنها بالكلمة «السماوات» هي أجسام مضيئة ومنيرة، بل حتى الأرض ذاتها قبل أن تتجمد كانت كتلة نارية ملتهبة. ثم أخذت قشرتها تتجمد شيئاً فشيئاً، فأصبحت كتلة مظلمة تحتاج إلى الإنارة. وهذه الأرض، لما كانت خربة وخالية، وحديثة الانفصال من المجموعة الشمسية، وأخذت قشرتها في الصلب، كانت درجة حرارتها مرتفعة إلى حد ما، للدرجة أن المياه التي كانت تكسوها من كل جانب كانت في تبخر سريع. وهذه بدورها تكون غيوماً كثيفة، وهذه الغيوم ما كان يمكن أن تنجلي فيصفو الجو لأن كمية الأبخرة المتصاعدة كانت كثيرة. ونستطيع أن نتصور هذا لو قارنا هذه الحالة بحالة بعض المناطق الباردة؛ حيث تمر أسابيع كاملة لا نرى فيها الشمس. هذه صورة مصغرة جداً لما تستطيعه الغيوم الكثيفة من حجب أشعة الأنوار.

ولكن لما أمر الله النور بالانطلاق – أي أنه أوجد له بعض المنافذ إلى الأرض – أصبحت درجة حرارة الأرض أخف من ذي قبل. وإن كان هذا أيضاً لا يعني تمام تصلب قشرتها، إنما هدأت الحالة بعض الشيء، وجاءت فترات صحا فيها الجو، فظهر النور على الأرض. لذلك كان التعبير الإلهي: «لِيَكُنْ نُورٌ» أو «لينطلق نور» فانطلق نور.

سلطان الكلمة الإلهي

يتكلم الوحي عن أعمال الله في اليوم الأول بذكر نص الأمر الإلهي: «لِيَكُنْ نُورٌ». ومما لا يستبعد أن تكون خلقة السماوات والأرض بنفس الطريقة («لِتَكُنِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ») من العدم، وبذلك يكون كل شيء قد تم بسلطان إلهنا المطلق.

ولكن هل معنى ذلك، أنه لكي تتم عملية الخلق، ينبغي النطق بكامل الأحرف والصوت المسموع؟ بالتأكيد كلا، بل يكفي أن يعلن الله إرادته فتتم كل الأشياء طبقاً لإرادته. إنما هذه صيغة أريد بها التعبير عن قوة الله الآمرة، وإليه يرجع الفضل في إيجاد هذا النور وتلك المخلوقات. وخضوعاً لهذا الأمر، خضوعاً تاماً وشاملاً، ظهر النور على الأرض، كما سبق للسماوات والأرض أن ظهرت في الوجود. وكل هذه المخلوقات في المادة والشكل قد خلقت كما أرادها الله – لا أكثر ولا أقل…

وقد كانت هذه المخلوقات لأنه أرادها – لكن مقتم كيانها – فهل بمجرد أن أمر خُلقت أم انصرم بعض الوقت بين الأمر والتنفيذ؟ في الواقع، إن ربنا وإلهنا لا يحتاج إلى وقت حتى تتم على يديه عملية الخلق، ولكن إن توسط وقت بين إعلان إرادة الله وتتميم إرادته – فهذا يعني أن الله قد عين بالضبط الزمن بالساعة والدقيقة والثانية وأجزاء الثانية، الذي تتم فيه أوامره طبقاً لإرادته التي لا ترد.

لقد كان النور أول المخلوقات في أول أيام الخليقة. وقد خلقه لكي يكون الطريق أمامنا مضاءً، به نستطيع أن نرى رؤيا العيان أعمال الله كلها متصلة في كل أيام الخليقة. وقبلاً كان على الغمر (القلب) ظلمة تحيطه من كل جانب، أما الآن فالنور الجميل والساطع يحتضنه. هذا نور أنار حياتنا وطرقنا فكشف خباياها.

ورأى الله النور أنه حسن

هو نور معرفة ابن الله …

الله الصانع الحكيم، صمم ثم أمر الشيء ليكون فكان، ثم رأى الذي صنعه فكان حسناً نائلاً الرضي والقبول. وهل لا يحسن في عينيه ما يصنعه بيمينه! ألم تحسن في عينيه أعمال يدي الخاطئ لما تكون خيراً يصنعه من أجله؟ فكيف لا تحسن أعمال يديه الكليتي الطهر والقداسة من أجل الإنسان.

ثم أنه نور، قد صنعه لكي تجنى منه فوائد ومنافع، وإذا بهذه الفوائد موجودة وأكيدة. والحسن في عيني الله هو الثمر والنتيجة الحسنة، وإتمام الغاية التي يقام لها. من أجل هذه الأسباب أيضاً، والإنسان راكع بركبتيه أمام عرش النعمة، يفتح عينيه في انسحاق وانكسار قدامه، فيراه نوراً في منتهى الحسن والجمال. فإذا كان الله صاحب الأعين الطاهرة رآه جميلاً، ألا يرى الإنسان العابد أن كل أعمال الله مكنسة بثوب من البهاء والحسن فائقين جداً.

ثم ماذا؟ لعلي لم أدرك هذا الحسن أو لم أحسه، فليكن لي تسليم الأطفال: يارب، كل ما تراه حسناً في عينيك، ليكن حسناً في عيني أيضاً، ولو لم أعلم سبباً لحسنه. ثم سرعان ما تنسكب دموع الفرح والسلام: إنه حسن جداً يا رب، لأني الآن أرى كذلك، إني أحس بجماله، وأنادي بما أحس. فما أعظم أحكامك عن الفحص وطرقك عن الاستقصاء!

فصل النور عن الظلمة

وفصل الله بين النور والظلمة. وهذا النور الجميل الحسن جعله يتميز عن الظلمة الشاملة التي جشمت على أرض خربة وخاوية. وفصل الله بين النور والظلمة حتى إذا ما لحق فجر النور بذيول الظلمة، ولت هاربة أمامه، فحينئذ يظهر مجده بهياً ونوره زاهياً. وكان هذا الفصل لازماً لأنه لم يكن ممكناً الجمع بين الأعداء – طبعاً وعملاً – وأية شركة للنور مع الظلمة؟ لكن النور يضيء في الظلمة والظلمة لا تدركه.

الظلمة التي كان لها سلطان الزمن على الخليقة الخربة – انحسرت اليوم – وساد عليها النور. فتميز النور بأعماله عن الظلمة بأعمالها، وأصبح في العالم معسكران: النور والظلمة. فالنور خطر على الظلمة ومهدد لها، فاضح لدهشتها ومشهر أنجاستها، والظلمة تضطهد النور وتمقته. لكن شكراً لله لأنه هو قائد جيوش النور، الله الساكن في النور الأعظم.

ثم إن هذا النور الذي خُلق في اليوم الأول – كما قلنا – يشبه إلى حد بعيد نور المسيح لما يشرق على قلب خاطئ لما يستيقظ من بين الأموات. على أن ظلمة الليل الذي يلحق هذا النور دامسة جداً، بلا قمر ولا نجوم. لذلك كان حرص الراجعين حديثاً إلى حظيرة الإيمان شديداً لئلا يلحق بهم الليل من جراء تهاون أو عدم سهر. ولكن شكراً لإلهنا فإنه يشفق علينا وسريعاً ما يشرق علينا بهاء اليوم التالي، لأن فؤاده حنون يرق للإنسان.

وكان مساء وكان صباح يوماً واحداً

ورب الأيام وملك السنين يطلق الأسماء على مسمياتها. فهذا نهار على الفترة – لأن بقية الأجرام السماوية لم تحتل مكانها في الفضاء للقيام بوظيفتها كاملة. وهذه الأنوار لم تكن مركزة محددة، لكنها مختلطة غير منتظمة. على أنه إذا ما سمحت الغيوم المحيطة بالأرض للأنوار أن تصل إلى الأرض، أصبح الوقت نهاراً. وإذا سادت الغيوم الجو، أصبح الوقت ليلاً، بلا قانون أو حكم ثابت. فهذا هو اليوم في طفولته.

مدة اليوم في سفر التكوين

هذا هو اليوم الأول من الخلق. فما هو هذا اليوم وكم مدته؟ مما سبق نستطيع أن نجزم أنه لا يمكن أن يكون ٢٤ ساعة، ذلك لأن الذي يسيطر على الليل والنهار للآن هو الأبخرة المتكثفة التي بلا ضابط. والمعقول جداً أنه يعني مدة من الزمن قد تمتد إلى آلاف السنين. والدليل على ذلك أن سفر التكوين نفسه تكلم عن مدة الأيام الستة كلها وقال عنها: «يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ».

على أن هذا التفسير لم نلجأ إليه احتيالاً لكي نتخلص من المأزق الذي يظن أننا أصبحنا فيه بعد ما تكلم علم طبقات الأرض عن عمر الأرض الذي يمتد إلى ملايين السنين، بل إنه تفسير يلجئنا إليه نص الكتاب وعبارته. والدليل على ذلك أنه قبل ما يظهر علم الجيولوجيا أو دعاته، ذهب هذا المذهب في التفسير القديس أثناسيوس الرسولي، والعلامة أوريجانوس، والقديس أوغسطينوس.

على أن الاكتشافات الحديثة قد تلقى ضوءاً على بعض غوامض الكتاب فتفسر تبعاً لهذا الاكتشاف، فيكون التفسير حينئذ ليس تخلصاً، ولكن آن الأوان لكي يوضح. وعلى سبيل المثال، لما قال الكتاب: «وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ»، فقبل العصور الحديثة ليس هناك من تفسير صحيح لهذه الآية، ومرماها الصحيح أصبح مستوراً إلى أن اتضح أن الحياة ظهرت أولاً في الماء، فحينئذ رجعنا إلى الكتاب فوجدناه يجيب بالموافقة، لأن روح الله كان يرف على المياه من قبل اليوم الأول.

وفي ذات الوقت، تبارك الله الذي يعلن حقائق في منتهى الخطورة، يقرؤها الجاهل فلا تعثره، ويقرؤها المتعلم فيرى خلال كلماتها أشعة نور العلم الإلهي الذي لا شاطئ لجنته.

على أن موسى يذكر أن هذا اليوم محدد بمساء وصباح، ولسنا نظن هذا إلا كناية عن المدة التي أتم الله فيها عمله، مبتدئة بالمساء. ولو كان المقصود منها فعلاً المساء والصباح بحصر اللفظ، فلماذا يدعوها موسى بهذه الأسماء وهو نفسه يذكر أن الله أسماها ليلاً ونهاراً؟ ثم ثالثاً: أين الشمس التي تنظم الأوقات؟

لذلك نستطيع أن نشكر علم الجيولوجيا إلى حد ما لأنه وضع حداً لاختلاف المفسرين بخصوص هذا الإصحاح، خصوصاً في معنى كلمة «يوم». ذلك لأن كثيرين قالوا إنه يوم بأربع وعشرين ساعة، وكثيرين أيضاً قالوا إنه مدة غير محدودة قد تمتد إلى آلاف آلاف السنين. أما الآن، فالرأي الأخير أصبح حقيقة لا يختلف فيها اثنان. هذا ليس خوفاً من علم الجيولوجيا فأطعناه، ولكن تعاوناً معه فاستخدمناه.

والحقيقة الروحية المهمة: إنه منذ أن ظهر النور – وهذه هي قاعدة الحياة – «وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ». وهل ظننت أن حياتك ستكون دائمة الإشراق والسعود منذ أن أمر المسيح إلهك أن يشرق عليك نور معرفتك، فتسبح في جو نعيمه والاطمئنان الروحي الجبل بالحسن والبهاء، فأشتهيت أن يكون هناك على الجبل… دائماً؟ لكن الرب لم يقبل لأن جسدانيتنا والصليب ينتظراننا مع مخلصنا: «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ».

نعم، إن الواقع يعلمنا أننا كثيراً ما تخلينا عن جزء من حياة التعبد والاهتمام بخلاصنا لكي نهتم بحاجات القريب – فنحمل آلام إخوتنا – وفي صدورنا قلوبنا المحزونة من أجل إخوتنا تمسي علينا الأيام… فنركع – وبعيوننا تترقرق دمعة الحزن المقدس على قتل بنت شعبي.

«وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً وَاحِداً».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى