تفسير سفر التكوين الأصحاح الثالث 


حديث الحية إلى حواء (ع1-5)

«وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل. وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا. بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر.» (التكوين 3: 1-5)

الحية معروفة بالدهاء والمكر. وقوله «أحيل جميع حيوانات البرية» أي أخبثها. ويرى البعض أن الشيطان اتخذ شكل الحية ليتكلم مع حواء، والأصح أنه دخل الحية وتكلم بلسانها. والشياطين كثيراً ما تدخل أجساد الناس العاديين (متى 8: 28، 32: 25) وتتكلم بألسنتهم (لوقا 4: 33-35) وبألسنة الأنبياء الكذبة (أعمال 16: 16-18) أو أصحاب أرواح العرافة (أعمال 16: 16-18). وقد دخلت قطيع الخنازير (مرقس 5:13). والشيطان سيعطي لصورة الوحش أن تتكلم (رؤيا 13: 15). ولذلك لقبه سفر الرؤيا بالتنين «الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان» (رؤيا 20: 2). والتنين نوع من الحيات الكبيرة، لأن إبليس هو الذي كان صاحب التدبير السيّء لإسقاط أبوينا، وقد جعل الحية الطبيعية هيكله وأداته. وقال الكتاب أن إبليس من البدء يخطئ (1 يوحنا 3: 8) وأنه كان قتّالاً للناس من البدء (يوحنا 8: 44). وقد قال صاحب سفر الحكمة: «فإن الله خلق الإنسان خالداً وصنعه على صورة ذاته، ولكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم» (حكمة 2: 23-24). واقتبس القديس باسيليوس هذا النص المقدس في قداسه الإلهي فقال: «يا الله العظيم الأبدي الذي جبل الإنسان على غير فساد، والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس هدمته بالظهور المحيي لابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح…».

وإبليس الممتلئ بالغش والحسد، لكي يغوي أمنا حواء، تقدم إليها بدهاء وسألها: «أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟» ولم يأت بالوصية الحقيقية لله. لأنه «كذاب وأبو الكذاب» (يوحنا 8: 44) لكي يستدرجها إلى الاستماع لمشورته.

وأجابته حواء ببراءة وبساطة: «من ثمر شجر الجنة نأكل. وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا». لا شك في أن آدم قد عرّف حواء بوصية الرب لأن الرجل نائب عن المرأة ومسؤول عنها، وكل منهما مسؤول عن تعليم صاحبه وصايا الرب. ونلاحظ أن عبارة «لا تمساه» لم ترد في وصية الله لآدم، وقد يكون آدم قد أضافها زيادة في تحذير حواء، أو ربما تكون حواء قد أضافتها تأكيداً للحية لأمر الله لهما بشدة. وكون شجرة معرفة الخير والشر «في وسط الجنة» يعني أنها كانت مقابل شجرة الحياة.

تمادى الشيطان في غشه فقال لحواء: «لن تموتا. بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر». وهذا الادعاء يحمل معاني شريرة عديدة منها:
(أ) أنه يحمل حواء على تكذيب أقوال الله وإنذاره لهما بالموت.
(ب) ويحثها على عصيانه والاستخفاف بوصيته والتمرد عليه.
(ج) ويشككها في محبة الله وإخلاصه لجنس البشر.
(د) ويحملها على أن تنتظر معرفة الخير والشر.
(هـ) ثم يجعلها تطمع في أن تكون هي وزوجها مثل الله.

الأكل من الشجرة (ع6)

«فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل.» (التكوين 3: 6)

زيادة على إغراءات الحية للمرأة، فقد وقعت تحت إغراءات أخرى من ناحية الشجرة نفسها، فحوربت المرأة من ناحية شهوة الجسد لأن الشجرة كانت «جيدة للأكل»، ومن ناحية شهوة العيون لأنها كانت «بهجة للعيون وشهية للنظر» وفي الترجمة اليسوعية «منية العقل» أي منتهى أمله، ثم من ناحية تعظم المعيشة لأنها أرادت أن تكون مثل الله!.

ولما أكلت من الشجرة أعطت من ثمرها الرجل أيضاً فأكل، أكل تحت تأثير كلام زوجته، وتحت تأثير المنظر الخارجي للشجرة وثمرها، وإزاء مواعيد الشيطان الكاذبة. وهكذا نسي هذان البطلان العظيمان وصية الله، وسقطا، وكان سقوطهما عظيماً!.

شعورهما أنهما عريانان (ع7)

«فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر.» (التكوين 3: 7)

(أ) «فانفتحت أعينهما»: أي أن عيني الضمير والذهن انفتحتا ليشعرا بالحال الذي وصلا إليه.
(ب) كما فارقت عيونهما الجسدية البساطة والبراءة «وعلما أنهما عريانان»: عارهما الخجل وعلما أنهما وقعا في فخ محكم حاكه لهما إبليس.

«فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر»: لأول مرة دفعهما الخجل والحيرة لأن يخترعا نوعاً من المآزر ونوعاً من الخياطة البدائية، وربما كان هذا بضم الأوراق إلى بعضها بأوراق الأشجار الخيطية أو أغصانها الرفيعة أو بأية وسيلة أخرى. والمآزر جمع مئزر وهو ما يستر عورة الإنسان وأجزاء من ساقيه.

وعد الشيطان حواء بأنه بأكلهما من الشجرة تتفتح أعينهما ويصيران مثل الله، وقد انفتحت أعينهما بالفعل، لا ليصيرا مثل الله، ولكن للأسف ليريا أنفسهما في حال يُرثى لها، ليريا عريهما وخزيهما وخجلهما، وهكذا الخطية لا يجني الإنسان من ورائها إلا الخزي والعار.

محاولتهما الاختباء من وجه الله (ع8)

«وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة.» (التكوين 3: 8)

«وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة»: كان الله يتجلى لهما، ويتحدث إليهما لشدة حبه لهما. وفي هذه التجليات الإلهية تقريب لفهم سر التجسد العجيب، وفتح أذهان البشرية للإيمان بتأنس ابن الله الذي كان في قصده الإلهي منذ الدهر.

«عند هبوب ريح النهار»: أي في وقت الأصيل عند انخفاض حرارة الشمس، ويبدو أن أبوينا كان يحلو لهما التنزه في الجنة في مثل هذا الوقت. وكان يحلو أن يتمتعا بتجليات مجد الله والتأمل في أعماله العجيبة، ولكنهما في هذه المرة كانا في حيرة وارتباك، فعندما سمعا صوت الله أخذا يختبئان وسط الأشجار، ظناً منهما أنه لا يراهما.

الرب ينادي آدم (ع 9-10)

«فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت.» (التكوين 3: 9-10)

«أين أنت؟» ليس معناه أن الله لا يعرف مكانه، ولكنه سؤال يحمل معاني العتاب والتوبيخ والرثاء، وكأنه يسأله لا عن مكانه بل عن حاله الذي وصل إليه.

وكان جواب آدم معناه الخوف «فخشيت» أي خفت وفزعت، خاف من عقاب الله عن معصيته، كما كان يحمل معنى الخجل والندم «لأني عريان فاختبأت». وهل كان اختباء آدم يؤمنه من عقاب الله، أو يخفف من خجله، أو يصلح من حاله؟

سؤال الله لآدم وحواء (ع11-13)

«فقال: من أعلمك أنك عريان. هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت.» (التكوين 3:11-13)

١ – سؤال الله وجواب آدم عليه:

«من أعلمك أنك عريان. هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟».

كان آدم عرياناً قبل السقوط ولم يفكر في عريه بالنسبة لحال البرارة التي كان فيها، وسؤال الله له سؤال استنكاري يسأله فيه عما جرده من النعمة وأشعره بعريه.

«المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت»: عوض أن يقر آدم بخطئه ألقى المسؤولية أولاً على الله لأنه خلق له المرأة، وثانياً على المرأة لأنها هي التي أعطته من الثمر فأكل. وفي الحقيقة كان عذر آدم عذراً واهياً ضعيفاً لأن الله خلقه حراً مختاراً مريداً، وهو أخضع حريته لمشورة غيره، وليس للإنسان عذر في خطيته (رومية 2: 1).

۲ – سؤال الله لحواء وجوابها عليه:
وسأل الله حواء أيضاً: «ما هذا الذي فعلت؟» أي كيف أكلت وجعلت زوجك يأكل أيضاً؟ واقتدت حواء بزوجها فألقت اللائمة على الحية.

عقاب الله للحية (ع14-15)

«فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك. وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه.» (التكوين 3: 14-15)

قد يسأل البعض: ماذا كان ذنب الحية حتى عاقبها الله؟ والجواب أن الحية كانت أداة للشيطان، والله يحب أن يعلم البشرية أن كل أداة يستخدمها الشيطان لتنفيذ مقاصده تستحق العقوبة. والله الحر التصرف في خلائقه كثيراً ما يستعمل خلائقه وسيلة لتعليم الإنسان وخيره الروحي، كما لعن التينة العديمة الثمر (مرقس 11: 12-14). فضلاً عن هذا فإن عقوبة الحية كانت عقوبة مادية لا تتعدى طبيعتها، أما العقاب الحقيقي فكان موجهاً إلى الشيطان نفسه، بدليل أن الكثير من أنواع الحيات غير مؤذ ولا يلدغ الإنسان. ونرى هنا:

۱- أن العقاب الذي وجه إلى الحية تضمن:

أولاً: اللعنة، وهي ضد البركة، ومعناها الإقصاء من الخير بمعنى أنها تكون محرومة من الكرامة وممقوتة على كل لسان.

ثانياً: العداوة بينها وبين الناس. والواقع أن جميع البشر يمقتون جنس الحيات ويهابون خطرها، وكثيراً ما يسحقون رأسها ليقتلوها، كما أنها كثيراً ما تسحق عقب الإنسان لأنها تزحف على الأرض. ولعل الله تعالى خص رأسها بالسحق لأن الرأس موضع العقل وهو مقر التفكير والتدبير الحسن أو السيّء.

ثالثاً: السعي على بطنها، ومن المحتمل أن الحية كانت من قبل قادرة على رفع جسمها ورأسها في غالب الأحيان كما كانت تزحف أيضاً، والله بحكمته أظهر بحديثه أن زحفها على بطنها أمر تستحقه لمكرها وخبثها.

رابعاً: أكل التراب الذي كثيراً ما تبتلعه مع طعامها.

٢- أما العقاب الذي وجهه الله للشيطان فهو:

(أ) اللعنة الروحية.
(ب) الانحطاط والرذل.
(ج) والعداوة الكامنة المتبادلة بينه وبين جنس البشر على مر الدهور والأزمان.
(د) ثم سحق الرب يسوع لرأسه بالصليب.

«وبين نسلك ونسلها»: شملت العداوة كما ذكرنا العداوة بين الإنسان والحيات الطبيعية والعداوة بينه وبين الشيطان. ويكون المقصود بنسل الشيطان حينئذ أجناده وأعوانه في كل العصور. أما «نسل المرأة» الذي يسحق رأس الحية فهو الرب يسوع المسيح الذي داس الشيطان وقهره وأذله، فقد انتصر عليه في التجارب التي جربه بها (متى 4)، وفي الفخاخ التي نصبها له عن طريق اليهود، وأخيراً كسر شوكته وسحقه بموته على الصليب حيث خلص البشرية بدمه وأخذ الأسرى من يد الشيطان عدوهم. ولقد قال المخلص: «لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يوحنا 14: 30). وعندما رجع الرسل فرحين بأن الشيطان يخضع لهم باسمه قال لهم الرب: «رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء»، ثم أعقب هذا بقوله: «ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء» (لوقا 10: 17-20) دليلاً على أن المقصود بالحيات والعقارب هو إبليس وجنوده. وقد رجع القديس لوقا بسلسلة نسب السيد المسيح إلى آدم (لوقا 3: 23-38) ليبين أنه المخلص الذي وعد به آدم وحواء ليسحق رأس الحية. كما قال الرسول عن ولادته من امرأة: «لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس» (غلاطية 4: 4).

وقوله «من امرأة» ترديد لقول الله لحواء «بين نسلك ونسلها» أي النسل الذي يأتي من امرأة بدون رجل لأن المسيح ولد من عذراء.

ولقد فهم المؤمنون في العهد القديم هذا المعنى الذي يقصده الوحي فمات الآباء على رجاء مجيء المسيح الذي يسحق رأس الحية، وتنبأ الأنبياء عنه، وحتى الشعوب البعيدة كانت تنتظره، فقالت المرأة السامرية للمسيح: «أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء» (يوحنا 4: 25). بل لقد كشفت الآثار عن انتقال هذه العقيدة من شعب إلى شعب، فقد وجد في آثار إدفو في مصر العليا صورة للإله هوريس يسحق رأس الحية أبوفيس التي وقع بينها وبين الإله رع خصام.

وثبت العهد الجديد هذه الحقيقة المقدسة مبيناً أن المسيح هو ساحق رأس الشيطان. فقد أعطى له المجد لتلاميذه السلطان على الأرواح النجسة ليخرجوها (متى 10: 1) وأعطاهم كما مر بنا السلطان ليدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو.

يقصد بذلك أولاً المعجزات التي داسوا بها على قوى العالم المادي وتغلبوا على الأعداء والاضطهادات وانتصروا حتى على الحيات والعقارب الطبيعية، كما يقصد بها أيضاً السلطان الذي داسوا به على الشيطان وقواته. وكون المسيح أعطاهم السلطان على الشيطان يبرهن على أنه ساحق الشيطان وصاحب السلطان عليه. ومن ثم يقول الرسول: «فإذ تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس» (عبرانيين 2: 14).

والرب إذ سحق إبليس أعطى المؤمنين باسمه في كل زمان ومكان أن يسحقوه أيضاً ويقاوموه راسخين في الإيمان. والكنيسة المقدسة تذكر هذا العمل المجيد الذي عمله الله مع أبنائه وتردد كل حين في صلاة الشكر: «… لأنك أنت الذي أعطيتنا السلطان أن ندوس الحيات والعقارب وعلى قوة العدو».

فليذكر المؤمنون كم عمل الرب لأجلهم، إذ أخضع إبليس عدوهم، وأعطاهم أيضاً النعمة لكي يخضعوه. وما أجمل هذا الوعد القائل: «وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً» (رومية 16: 20). «فشكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح» (1 كورنثوس 15: 57).

عقاب الله للمرأة (ع16)

«وقال للمرأة: تكثيراً أكثر أتعاب حبلك. وبالوجع تلدين أولاداً. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك.» (التكوين 3: 16)

أولاً: تعبها في الحبل والولادة. ومن دلائل صدق الوحي الإلهي أن الأنثى في الإنسان تقاسي أتعاباً ومخاطر أكثر مما تقاسيه الإناث في جميع أنواع الحيوان.

ثانياً: اشتياقها إلى رجلها «وإلى رجلك يكون اشتياقك…».
وفي الترجمة اليسوعية «… تنقاد أشواقك»، وأشواقها مبنية على شعورها الدائم بضعفها واحتياجها إلى رعاية الرجل وحمايته. وقد قضت حكمة الله أن يكون للمرأة الاشتياق إلى الرجل لعوامل منها:
(أ) لئلا تكون سيادة الرجل عليها سببا في نفورها من الزواج أو زوجها مما يترتب عليه فصم عرى المجتمع الإنساني وبالتالي انحلاله.
(ب) ولئلا يكون الألم والمخاطر التي تقاسيها في الحمل والولادة سببا في امتعاضها أيضاً من الحياة الزوجية ومن إنجاب النسل.

ثالثاً: سيادة الرجل عليها «وهو يسود عليك». وهذا عقاب لها لأنها دعت رجلها إلى الأكل من الشجرة واستمع إلى قولها ومشورتها، فأصبح هو الآن رأسها وصاحب السلطان عليها. وقد قضت حكمة الله أن يكون للرجل التقدم على المرأة بالنسبة لأنه الجنس الأقوى، ولحفظ كيان المجتمع الأسري والإنساني. وهذه السلطة ليس معناها استعباداً ولا افتئاتاً على المرأة لأن الوحي الإلهي في المسيحية يساوي بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات وفي الإيمان ونعم الخلاص لأن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب. «لأنه كما أن المرأة هي من الرجل هكذا الرجل أيضاً هو بالمرأة» (1 كورنثوس 11: 11-12). وإنما معنى ذلك أن يكون للأسرة رئيس لتنظيم حياتها وأمورها. ولهذا يقسم بعض المفسرين الخضوع إلى خضوع عبيدي وهو خضوع المهانة والمذلة الذي يلتزم به العبد نحو السيد، وخضوع تنظيمي أو سياسي وهو كخضوع الابن للأب والمرؤوس للرئيس والزوجة لزوجها لسياسة الحياة وتنظيمها.

عقاب آدم (ع 17-19)

«وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكاً وحسكاً تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب وإلى تراب تعود.» (التكوين 3: 17-19)

«ملعونة الأرض بسببك»: مر أن اللعنة هي الإبعاد من الخير، وقد لعنت الأرض التي يأكل منها الإنسان ويعيش عليها بسبب خطيته، فبعد أن كانت سخية عليه في إعطاء محاصيلها وخيراتها كأنها راضية عليه أصبحت قاسية لا تعطيه إلا بالتعب المضني والعمل الشاق. «بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك… بعرق وجهك تأكل خبزاً…» كان العمل في الجنة محاطاً باللذة والسعادة والراحة، ولكنه بعد السقوط أصبح بالتعب والسقام وعرق الجبين. إن هذا القانون يوضح حقيقتين:

الأولى: أن العمل ناموس عام لجميع الناس، وعلى كل إنسان أن يعمل ليعيش و«إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً» (2 تسالونيكي 3: 10). والذين يركنون إلى البطالة والكسل والتواكل مخالفون للناموس الطبيعي الذي سنه الله للحياة.

الثانية: أن الإنسان في عمله للحصول على قوته يقابله التعب مهما كان مركزه ومهما كانت طبيعة عمله، وعلى الإنسان أن يتحمل هذا التعب.

«وتأكل عشب الحقل»: كان آدم يأكل ما لذ وطاب من ثمار الجنة، ولكن ظروفه في الدنيا جعلت أعشاب الأرض وبقولها الأطعمة الغالبة له. وقد ظل الإنسان يقتات بالنباتات إلى ما بعد الطوفان، حيث صرح له بأكل اللحوم أيضاً (التكوين 9: 1-3).

«حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب وإلى تراب تعود»: بعد أن يقضي الإنسان حياته في التعب المتواصل تنتهي حياته بالموت الذي أنذره به الرب قبل أكله من الشجرة. قوله «لأنك تراب» يشير إلى جسد الإنسان الذي خلق من تراب الأرض، حيث يعود من جديد إلى التراب الذي أخذ منه ويتحلل إلى عناصره الأولية، بينما ترجع الروح إلى الله الذي أعطاها (جامعة 12: 7).

تسمية آدم لامرأته (20)

«ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي.» (التكوين 3: 20)

معنى حواء: حياة أو محيية أي معطية للحياة لأنها أم لكل إنسان.

الله يصنع أقمصة لآدم وحواء (ع21)

«وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما.» (التكوين 3: 21)

يرجح أن هذا الجلد كان من جلود الحيوانات التي كان آدم يقدمها كذبائح شكر وتقدمات سرور لله. وتقديم الآباء للذبائح منذ القدم كان بتلقين من الله، وكان هذا مما أعد أذهانهم للإيمان بالذبيحة الحية التي قدمت على الصليب.

وتقديم الله الأقمصة لآدم دليل على حبه ورحمته ووفرة إحسانه على جنس البشر رغم خطاياهم. لم تكن أوراق التين كافية لستر عورة آدم وحواء ولم تكن صالحة كثياب، وهذا يشير إلى أن مجهودات الإنسان لا تنفع بدون مؤازرة الله له، وأن بره الذاتي الذي قد يتكل عليه لا يفيد بدون نعمة الله. وكانت أقمصة الجلد تشير إلى النعمة الغنية وإلى ثوب البر الذي لنا في المسيح والذي يستر عيوبنا ويمحوها إذا قبلناه رباً وفادياً وعملنا ما يرضيه.

طرد آدم وحواء من الجنة (ع 22-24)

«وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.» (التكوين 3: 22-24)

هذا تقرير عما صار إليه آدم بعد السقوط، فقبل أن يعصي الله كان لا يعرف إلا طريق الخير الذي كان سالكاً فيه، ولكنه بالمعصية وما جرته عليه من وبال، عرف بالاختبار الفرق بين الخير وجماله وبين الشر وعواقبه الوخيمة، فلم تكن معرفته لتشرفه أو تسعده كما وعدته الحية بل لتنغص عليه عيشته وتحرمه من السلام.

وقوله «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر» فيه إشارة جديدة إلى الثالوث المقدس الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. والتشبيه في المعرفة تشبيه نسبي لأن معرفة كل أقنوم من الأقانيم الإلهية معرفة ذاتية كاملة غير محدودة، أما معرفة الإنسان فهي معرفة مكتسبة جزئية ناقصة. ويمكننا أيضاً أن نلحظ في القول الإلهي «قد صار كواحد منا» أسلوب تهكمي يعبر عما وصل إليه الإنسان من المعرفة والخبرة المشئومتين.

«والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد»: «لعله» تترجم أيضاً «لئلا»، لأن آدم قد تجرأ على الأكل من شجرة المعرفة، فلم يكن مستعداً لأن يتجرأ من جديد ويأكل من شجرة الحياة. والإنسان إذا ما سقط في المعصية لأول مرة سهل عليه أن يسقط فيها مرات أخرى. وأراد الله أن يمنع الإنسان عن الأكل من شجرة الحياة لأنه تعالى لم يرد أن ينال الإنسان الخلود بهذه الوسيلة السهلة بعد أن عصى، لأنه لابد أن ينفذ فيه حكم الموت الذي أنذره به الله، والذي يطالب به العدل الإلهي. لأن رحمة الله في نفس الوقت قد دبرت طريقة أخرى عادلة بها ينال الإنسان الحياة الأبدية، وهي موت ابن الله الكلمة نيابة عن البشر، والفداء العجيب الذي صنعه بموته.

«فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة». فطرد الإنسان من الجنة، وكان عليه أن يفلح الأرض لتخرج له المحاصيل التي يقتات بها، ولابد أن الله لقنه كيف يفعل هذا. ومن النص الإلهي نفهم أن البقعة الأولى التي عاش فيها الإنسان كانت شرقي الجنة.

وقد أقام الله حراساً لشجرة الحياة من الكروبيم أو الشاروبيم، وهذه الكلمة جمع كروب وهي كلمة عبرية معناها «ذو الحكمة». والكروبيم طغمة من الملائكة الذين يقفون في حضرة الله يخدمونه أو يرسلون لتنفيذ مقاصده.

«ولهيب سيف متقلب» أو «متقلب لجميع الجهات» أي سيف لامع مع الكروب تخرج منه لهب تتجه لكل الجهات حتى لا يدنو آدم من باب الفردوس.

بهذا ينتهي هذا الفصل الأليم من المأساة حيث فقد آدم حياة الراحة والسعادة، وطرد من حضرة الله، وأضاع النعم التي خلق عليها. وصار عرضة للألم والتعب والضعف والانحلال ثم الموت، لأنه أصبح تحت حكم الغضب الإلهي. ولم تكن هذه الأضرار قاصرة عليه وحده وإنما ورثتها ذريته، فنسل آدم إذ ولدوا من آدم الخاطئ وجدوا هكذا في حالة الخطية، وفي حالة إقصاء وطرد من حضرة الله، وورثوا الآلام والأتعاب والموت وأصبحوا بالطبيعة أبناء الغضب (أفسس 2: 3). ولم يكن من الطبيعي أن يولدوا إلا هكذا، لأنه «من يخرج الطاهر من النجس؟ لا أحد» (أيوب 14: 4). والطريق الوحيد الذي دبره الله تعالى لعتق الإنسان من الغضب الإلهي، ومن الدينونة، ومن الموت الأبدي هو تأنس ابن الله ليحمل عنا اللعنة والقصاص، ويصالحنا مع الله لنصير نحن بر الله فيه (2 كورنثوس 5: 21).

ولئن كنا لا نزال متقلبين بالأتعاب والآلام، ولكن كل هذه ننظر إليها بالمنظار الأبيض لأن المسيح جاز فيها أمامنا و«لأن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا» (رومية 8: 18). وإن كنا كذلك نجوز طريق الموت الجسدي، فإننا لا نخافه كما كان الحال قبل مجيء المسيح وموته، لأن المسيح كسر شوكته، وهدم سلطانه، فأصبح الموت للمؤمن كطريق يجوز به إلى الحياة الأبدية، وأصبح للمؤمنين أن يقولوا بلغة الظفر: «أين شوكتك يا موت. أين غلبتك يا هاوية» (1 كورنثوس 15: 55). وأن يحتضنوا الموت كصديق وحبيب ويقولوا «لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح» (فيلبي 1: 21).

لم يخل علم الآثار مما يؤيد صحة هذه الأنباء المقدسة، فقد وجد في الآثار الكلدانية رسم على عمود بابلي يمثل رجلاً وامرأة جالسين وبينهما شجرة مثمرة وهما يمدان أيديهما ليقطعا من الثمر، وخلف المرأة حية ضخمة. ولا شك أن الصورة تمثل أبوينا وهما يأكلان من شجرة معرفة الخير والشر بغواية الحية.

أما شجرة الحياة فقد وجد رسمها كثيراً على الآثار الكلدانية أيضاً يحرسها أشخاص لهم أجنحة يشيرون إلى الكاروبيم الذين أوقفهم الله لحراسة الشجرة.

وقد يسأل البعض: أين جنة عدن الآن؟ والجواب على ذلك غير يسير، فبعض الآباء والمفسرين يرون أنها لا تزال موجودة في مكان ما على الأرض، وأنه يتعذر الوصول إليها لوجود جبال أو حواجز تخفيها، أو لأن الله يخفيها عن البشر لحكمة. ولكن معظم الآراء ترجح أنها قد تلاشت وضاعت معالمها حيث لم يعد إليها حاجة. ونحن لا نفكر كثيراً في جنة عدن التي أضاعها أبوانا، وإنما نترقب بصبر سماء المجد حيث نرث فيها الملك المعد لنا منذ تأسيس العالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى