دراسات عابرة في سفر التكوين: وأخيرًا الإنسان
مقدمة
يحدثنا سفر التكوين، الأصحاح الأول، عن لحظة خلق الإنسان ومكانته السامية بين سائر المخلوقات. لقد أعدّ الله له كل شيء قبل ظهوره، ليكون سيدًا على الأرض وملكًا على جميع المخلوقات.
«وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم – على كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب عليها».(تكوين 1: 26)
👑 خلق الإنسان على صورة الله
الآن كل شيء قد تهيأ لعرش الإنسان، لم يبقَ أمام ظهوره غير أن يتقدم الرب الإله ويخلقه سيداً وملكاً على كل مخلوقاته. وجدير بنا أن نتأمل في هذه الآية: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا». إن فيها دلالة على أن الوليمة قد أُعدت للإنسان في جنة ملؤها السعادة والسرور. لكنه من التراب جُبل. أجل من التراب الذي ندوسه بأقدامنا جُبل آدم! فما أصدق القديس الذي نظر إلى التراب متواضعاً لأنه من التراب جُبل!
🐾 الإنسان والحيوان: وحدة الأصل واختلاف الجوهر
على أنه في اليوم السادس نفسه، قبل أن يُخلق آدم من التراب أو يدب على الأرض نفساً، خلق الرب الحيوانات والدبابات.. وأيضاً خلقها من نفس المادة التي صُنع منها الإنسان. وعلى ذلك فلنا مع هذه الحيوانات زمالة وارتباط.
ولولا أن الرب ارتفع بمعدننا بما أضافه إلى ترابنا من نسمة الحياة، لكنا حيوانات في كل شيء.. أوَليس أننا صدقاً حيوانات عندما يثور فينا جسد الموت، وتختبئ طبيعة الحياة سجينة حزينة؟!
🧠 الرد على نظرية التطور
هذه الشركة بيننا وبين الحيوانات في ترابية المعدن، وفي الحقيقة الواحدة من الخلقة، هي الدليل الكتابي على جواز التشابه بين الإنسان والحيوان في بعض النواحي التشريحية والفسيولوجية والنفسية، مع الاحتفاظ بكل نوع كما هو منذ أن خلقه الرب. بهذا تنطق آيات سفر التكوين الأولى.. فالحيوانات بأجناسها خلقت هكذا كما نراها اليوم.. والإنسان أيضاً خلقه الرب إنساناً منذ البدء.. فالرب وهب نسمة الحياة للإنسان الذي صوره إنساناً ووهبه مخاً يزن 1300 جم، ولم يهب هذه النسمة للقرود التي تزن أمخاخها في أرقى أجناسها 500 جم..
وهذه الحيوانات (سواء القرود أو غير القرود)، رغم أنها تتمتع بمظاهر الإدراك والفهم، إلا إنها مجموعة من الميول الفطرية مع بعض الأعمال التعودية التي استطاعت أن تؤديها في حذق ومهارة. وهذا بالتأكيد غير قوة الابتكار التي، وإن لم تتقيد كل التقيد بالميول الفطرية، لكنها استطاعت تكييفها والارتقاء بها، مسيطرة عليها مهذبة لها.
وإننا لنؤمن بوجود التطور في الحيوان بتتبعنا الوظائف والتشريح فيه، ونرى أن تقسيمه إلى عائلات، كل أرقى من سابقتها، تقسيماً صادقاً جداً، لكننا ننكر حتمية التدرج في الخلق، ونتشكك في القول بأن الكائن الراقي لا بد أنه كان كائناً غير راق قبل أن يصل إلى هذه الدرجة. بل نقول إنه هكذا خلقت سائر المخلوقات على تنوعها وتدرجها، كل بتشريحه ووظائفه التي تؤدي حاجته حسب البيئة والجو الذي يعيش فيه هذا الحيوان.
ولست أظنه دليلاً قوياً في أيدي أصحاب نظرية التطور والارتقاء، كون الجنين في الأرحام يجتاز بأطوار تشبه إلى حد بعيد حياة بعض الحيوانات الدنيئة إذا قورنت بجنسه، لأن الجنين في الرحم يعيش في مكان لا تجتمع فيه أسباب المعيشة الكاملة للكائن الناضج، فهيأ الرب له من الأعضاء الوقتية كالمشيمة ما يؤدي له وظيفة الغذاء والتنفس إلى أن تنضج أعضاؤه، فحينئذ يلفظه الرحم إلى الحياة حراً طليقاً.
إن الخلية الصغيرة التي ضاق المجهر ذرعاً في فحص دقائقها، جمعت في ثناياها كل وظائف الكائن الحي واحتفظت في أسرارها بكل ما يضمن شروط الجنس والنوع.. فخلية الإنسان الصغيرة التي لا تُرى إلا بعد تكبيرها تحت المجهر لا تبقى لها وجود إلا إذا تهيأت الظروف الملائمة لتصبح إنساناً ناضجاً – وإلا فهي تموت.
ثم ماذا.. ثم أن هذه البحوث هيأت لنا بعض الأسباب التي تكشف لنا روعة الكتاب، لكني أظنها أيضاً أساءت بعض الشيء إلى مبلغ تقديسنا لكلمة الله الحية. لأننا على ضوء ما جاء به العلم راجعنا الكتاب نختبر صدقه، كأن ما برز في الوجود بنتيجة بحوث الفكر أجدر بالإيمان والتصديق من كلمة الرب الحية الصادقة الفعالة – فما اتفق مع هذه الثمرات العلمية من كلمة الرب كان صادقاً، وما اختلط علينا فهمه أنكرناه إلى أن تحل رموزه.. وعلى ذلك طالبنا الكتاب المقدس بأن يكون كتاب علوم طبيعية وحيوية.
والآن نُظنه ليس بدعاً إيماننا بأن الإنسان هو إنسان منذ بدء خليقته، ومع ما اضطرته إليه الطبيعة ونوع المعيشة، تكيَّف بعض الشيء معها في القامة واللون والشكل، لكنه ما زال بعقله وقلبه وأحشائه وكافة وظائفه الفسيولوجية. له لغة وله عقل وله وجدان. له نسمة حياة ميزته على القرد.. فإنه على صورة الله كشبهه.
وإنه لتشابه أكيد.. وفي أكثر من مرة يؤكد الرب أنه على صورته كشبهه خلق الإنسان. إنه تشابه في المعنويات لأن الله روح.
🌿 سلطان الإنسان في الخليقة
فالإنسان كائن من جسد ونفس وروح.. وهو إنسان واحد، فلعل في هذا شبه بإلهنا العظيم الواحد المثلث الأقانيم.. لكن أين الثرى من خالق الثرى والثريا؟!
قد أُعطى الإنسان سلطاناً مطلقاً في مملكة الأرض الواسعة على الحيوان والنبات والجماد أيضاً.. وإنه ليشبه الله في ذلك حيث أن إلهنا هو صاحب السلطان المطلق في كل هذه وعلى الإنسان أيضاً.
وسيظل الإنسان في مركزه هذا صاحب سلطان على الأرض، يسودها طالما حافظ على وحدته مع صاحب المجد والسلطان. وحتى لما سقط الإنسان، وأخذ يعتمد على ذاته وينتزع عيشته انتزاعاً من الطبيعة ومن بين الوحوش، حاول جهد استطاعته في إعادة إخضاع هذه القوى الثائرة ضده بعد أن أفلت زمامها من يده بالخطية.
وما ظهر مع الأيام من سيطرة الإنسان على البحر والبر والجو من اختراعات ومفاجآت، لهو استئناف لمحاولة الإنسان في العودة إلى سابق سلطانه. أما الرجوع الصحيح فهو وعد الرب يسوع بأنه يعطينا سلطاناً بأن ندوس الحيات والعقارب.
وفضلاً عن هذا، كان آدم بسيطاً طاهراً مقدساً وباراً.. في هذه جميعها كان يشبه الرب، ينبوع كل صلاح وطهارة.
🔓 الحرية: أعظم وجه للشبه بين الخالق والمخلوق
وأفضل وجه للشبه بين الخليقة والخالق، وأخطرها أيضاً، هي الحرية. فالإنسان أُرسل في الجنة حراً يأكل من جميع أشجار الجنة، حراً في حفظ وصايا الرب، حراً في كسرها. فالرب وهبه الحرية لأنه وهبه نسمة الحياة، وفيه عقل وإرادة، وهبه كمال الإنسان في صفاته. أما الإنسان فأراد أن يكون كاملاً في ذاته.. فسقط الإنسان وتمجد الرب.
💫 الطهارة قبل السقوط
خلق الله الإنسان.. ذكراً وأنثى. خلقهما وباركهما الله وقال: «أثمروا واكثروا واملأوا الأرض». خلقه وباركه.. وأمره بأن يثمر ويكثر ويملأ الأرض قبل أن يعرف شجرة معرفة الخير والشر. فكأن النسل بركة كان يمكن أن تكون قبل الخطيئة، لولا أن الحية لم تتمهل علينا لكي نولد بلا خطيئة. معنى هذا أن الغريزة في حد ذاتها ليست خطيئة، لكن التعدي أصاب كياننا كله بمس من النجاسة شاعت رائحتها الكريهة في كل الصرح الإنساني.
فهناك مثلاً الغرائز العاملة على حفظ الفرد، مثل الميل إلى الطعام عندما نحس الجوع – في حدود الطهارة نستطيع أن نوفيها حقها. لكننا مندفعون مدفوعون، فأردنا من إشباع الغريزة جانب اللذة، فأخطأنا في الغاية والوسيلة. وما يقال على حفظ الفرد يقال على غرائز حفظ النوع.
أما ما قاله الرب لآدم، وهو بعد في الجنة: «من جميع أشجار الجنة تأكل»، و«باركهم الله وقال أثمروا واكثروا». فسوّى بين الأكل والإثمار في القداسة. وهذا في الواقع أوج القداسة أن نكون في شبه آدم وحواء قبل الخطيئة، نخضع كل كياننا، بميوله ودوافعه، لتأثير إلهنا المباشر.. لأننا معه كل حين.. ليكون معنا أيضاً إلى أن ترجع إلى الجنة!!
خاتمة
منذ البداية، خُلق الإنسان على صورة الله ومثاله، كائنًا ذا سلطان، عاقلًا، حرًا، طاهرًا. لكنه سقط عندما استقل عن الله. وما يفعله الإنسان اليوم من محاولات للسيطرة على الأرض هو في جوهره بحث عن استعادة ذلك السلطان المفقود.