الأنبا ديمتريوس الكرام

نستعرض هذه المقالة سيرة البابا ديمتريوس الأول (الكرام)، البطريرك الثاني عشر للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بناءً على المصادر التاريخية والتراثية للكنيسة.

كيفية انتخاب الكرام خليفة لمارمرقس.

 في سنة ١٩١م كان القدر يتهيا لتسديد ضربة إلى الكنيسة القبطية، فقد كان السلام مستتباً منذ استشهاد مارمرقس حتى اعتلاء الأنبا ديمتريوس الكرام السدة المرقسية. وكانت الظروف التى انتخب فيها عجيبة للغاية هي أن الأنبا يوليانوس رأى فى رؤى الليل ملاكا وسمعه يقول له: ان الذي سيأتيك غداً بعنقود من العنب سيخلفك وفى اليوم التالي دخل ديمتريوس الكرام يحمل عنقوداً من العنب هو باكورة كرمه ليقدمه إلى باباه المريض . وحالما رأه الأنبا يوليانوس قال للمحيطين به : هذا باباكم من بعدی. وقص عليهم الحلم الذى رأه. فلما انتقل البابا الاسكندرى إلى مساكن النور اتفقت كلمة الاكليروس والشعب على انتخاب ديمتريوس راعيا أعلى لهم عملاً بوصية باباهم الراحل. وهكذا أصبح الكرام الخليفة الثاني عشر للقديس مرقس سنة ١٩١م

بتولة الكرام رغم زواجه في الظاهر. 

 ولقد نشأ ديمتريوس بين الحقول لا هم له إلا العناية بالكروم التي كانت لأبيه ثم آلت إليه. ولما بلغ اشده ازوجه أبواه. فخضع لإرادتهما في الظاهر إذ لم يشأ أن يعارضهما عملاً بوصية الكتاب المقدس التي تعلن وجوب إكرام الآباء والأمهات. ولكنه تعاهد مع زوجته على أن يحفظ كل منهما بتولته ووافقته هي على هذا العهد فلما تمت رسامته تحقيقاً لوصية سلفه الأنبا يوليانوس احتج بعض الشعب على هذه الرسامة بحجة أنه رجل متزوج. وهذا الاحتجاج يبين الاتجاه الروحي الذي اتجـهـه الـقـبـط منذ صــدر المسيحية . فالرهبنة لم تكن قد قامت بعد، ولم يكن الأنبا أنطوني قد ولد في العالم بعد، ومع ذلك رأى فريق من الشعب وجوب حصر الكرسي المرقسي فى المتبتلين. ولم يبرر الأنبا ديمتريوس نفسه أمام هذه المجموعة من الناس إذ اعتقد بأن عهده مع زوجته سر يجب الاحتفاظ به. وظل على كتمانه إلى أن ظهر له ملاك الرب فى حلم ذات ليلة وأعلمه بوجوب اعلان حقيقة أمره جهاراً حتى تهدأ القلوب المضطربة. ففى اليوم التالي (وكان يوم أحد ) طلب الأنبا ديمتريوس من المصلين أن يبقوا في أماكنهم بعد الانتهاء من الصلاة. ثم أمسك بالمجمرة المتقدة ووضعها عند كمه، وأمسك بيد زوجته والمجمرة بينهما، وطافا الكنيسة كلها أمام أعين الحاضرين فلم تمسهما النار بأذى. فلما أبدوا دهشتهم لهذه الظاهرة العجيبة أعلمهم بالعهد الذي قطعه على نفسه بينه وبين زوجته، وأن كلا منهما بتول رغم أنهما زوج وزوجة أمام أعين الناس. وحين رأى المؤمنون ما رأوا وعلموا الحقيقة مجدوا الاب السماوى الذى يمنح الناس فيضا من النعمة بهذا المقدار . وهدأت قلوب المتذمرين وامتلأت فرحاً.

انكبابه على الدرس ووضعه حساب الابقطى. 

 وبما أن ديمتريوس كان كرامًا فقد كان رجلاً بسيطاً لم يتلق من العلم إلا القدر الذى يمكنه من القراءة والكتابة فقط. فلما وجد نفسه بين عشية أو ضحاها خليفة لمرقس البشير قرر أن يدأب على تحصيل العلوم الدينية والمدنية ليكون أهلاً لهذه السدة المرقسية التي ذاع صيتها بفضل العلماء من أبنائها. ولفرط تواضعه كان يجلس عند قدمي مرتل الكنيسة الذي كان يتلقى العلم عنه. على أنه لم يكتف بما لقنه إياه المرتل بل تلقى العلم على أساتذة مدرسة الاسكندرية. ولرغبة الأنبا ديمتريوس الأكيدة في أن يستكمل ما فاته من علم فى صغره استطاع أن يعوض السنين التي مرت به، فحصل على علم غزير في وقت قصير. حتى لقد تمكن بما حصل عليه من علم من أن يضع الحساب المعروف بحساب الأبقطى ، وهو الحساب الخاص بتحديد عيد القيامة. وهذا الحساب معمول به للآن في الكنائس الشرقية

والصعوبة في تحديد عيد القيامة ترجع إلى أن هذا اليوم المجيد جاء بعد فصح اليهود. فكان لزاماً على المسيحيين المحافظين أن يراعوا موعد الفصح. والفصح مرتبط بالحصاد عند اليهود عملاً بأمر الرب إلى موسى النبى هذا إلى كون السنة اليهودية سنة قمرية. فكان الحصاد هو الرابط الوحيد الذي يربط عيد الفصح بموسم معين. وهذا الربط هو السبب في أن الفصح يقع دائما ما بين الشهور الموافقة لشهر أبريل ومايو . غير أن هذا الترتيب لا يتفق وموسمنا فى مصر، لأن موعد الحصاد عندنا غير موعده في فلسطين، لذلك رأى الأنبا ديمتريوس أن يؤلف دورة هي مزيج من الدورة الشمسية والدورة القمرية، ويحسبها فيضبط عيد القيامة المجيدة بمقتضاها ويحدده ما بين شهرى أبريل ومايو. فلا يقع قبل الأسبوع الأول من أبريل ولا يتأخر عن الأسبوع الأول من مايو. والدورة التي جعلها الأنبا ديمتريوس قاعدة لحساب الأبقطى (أو حساب عيد القيامة ) تتألف من تسع عشرة سنة شمسية قمرية. ولما كانت السنة القمرية تنقص أحد عشر يوماً عن السنة الشمسية كان عدد الأيام الناقصة فى تسع عشرة سنة قمرية عن العدد المماثل لها من السنوات الشمسية هو مائتين وتسعة أيام ، فوزع هذه الأيام على تسع عشرة سنة بأضافة شهر كامل كل سنتين أو ثلاث

 

السنة الشمسية الأولى تزيد ال ١١ يوماً

السنة الشمسية الثانية تزيد ۱۱ + ١١ = ٢٢ يوماً

السنة الشمسية الثالثة تزيد ۲۲ + ١١ = ٣٣ يوما

وعلى ذلك فالسنة القمرية الثالثة تستوعب ثلاثين من هذه الأيام الثلاثة والثلاثين وتكون كبيسة أى ذات ثلاثة عشر شهراً بدلاً من اثنى عشر وتبقى ثلاثة أيام تضاف إلى السنة التالية كالترتيب الآتى

السنة الشمسية الرابعة تزيد ۳ + ١١ = ١٤ يوما

السنة الشمسية الخامسة تزيد ٢٥ يوماً

ولما كان العدد ٢٥ قريباً من الثلاثين فتكون السنة الخامسة كبيسة باقتراض خمسة أيام من السنة التالية فيكون الحساب كما يأتي

السنة الشمسية السادسة تزيد ١١ ٥ = ٦ أيام

السنة الشمسية السابعة تزيد ١٧ يوماً. 

السنة الشمسية الثامنة تزيد ٢٨ يوماً

فتكون هذه السنة كبيسة باقتراض يومين مما يليها.

السنة الشمسية التاسعة تزيد ۱۱ ٢ = ٩ أيام

السنة الشمسية العاشرة تزيد ٢٠ يوماً

السنة الشمسية الحادية عشرة تزيد ٣١ يوماً

فتكون السنة الحادية عشرة كبيسة بزيادة يوم واحد عن المطلوب المضاف إلى السنة التالية :

السنة الثانية عشرة تزيد ۱۱ + ١ =١٢ يوماً

السنة الثالثة عشرة تزيد ٢٣ يوماً. 

السنة الرابعة عشرة تزيد ٣٤ يوماً

فتكون السنة الرابعة عشرة كبيسة بزيادة أربعة أيام عن المطلوب تضاف 

إلى السنة التالية

السنة الشمسية الخامسة عشرة تزيد ١١ + ٤ = ١٥ يوماً

السنة الشمسية السادسة عشرة تزيد ٢٦ يوما. 

فتكون هذه السنة كبيسة باقتراض أربعة أيام من السنة التالية

السنة الشمسية السابعة عشرة تزيد ١١ ٤ = ٧ أيام 

السنة الشمسية الثامنة عشرة تزيد ١٨ يوما. 

السنة الشمسية التاسعة عشرة تزيد ٢٩ يوما

فتكون السنة التاسعة عشرة كبيسة على أن يكون الشهر المضاف إليها مكونا من تسع وعشرين يوما فقط. وتتكرر هذه الدورة على مر الأيام والسنين فيستطيع أولو الأمر بمقتضاها تحديد عيد القيامة إلى يوم القيامة

اقرار المجمع لهذا الحساب 

 ولما انتهى الأنبا ديمتريوس من وضع هذا الحساب عرضه على مجمعه الاسكندرى فأقره. ثم عرضه أباء الكنيسة المصرية على مجمع نيقية (وهو المجمع المسكونى الأول) بعد ذلك بنحو قرن من الزمان، فأقره هذا المجمع العظيم أيضاً. وسارت الكنيسة الجامعة على هذا الحساب حتى سنة ١٥٨٢م. حين أعلن غريغوريوس الثالث عشر أسقف رومية أنه لا داعى لمراعاة فصح اليهود مع أن الصلب جاء عقب فصح اليهود حسب ما جاء في الأناجيل الأربعة وأنه يكفى مراعاة الاعتدال الربيعي. ومن ثم أصبحت الكنيسة الرومانية تعيد عيد القيامة المجيدة في الأحد الأول بعد اكتمال البدر التالي على الاعتدال الربيعي مما يجعلهم يعيدونه أحياناً في أواخر مارس لكونهم لا يراعون غير الاعتدال الربيعي الذي يقع في ٢١ مارس

وحين انشق البروتستانت عن الكنيسة الرومانية في القرن السادس عشر أى فى القرن عينه الذي أعلن فيه الأسقف الروماني اصلاحه للتقويم حين انشق البروتستانت لم يعجبهم هذا الاصلاح ولم يسيروا بمقتضاه  بل ظلوا يعيدون تبعاً للتقويم الأبقطى حتى سنة ١٧٧٥ م أى أنهم ظلوا مدة تقرب من القرنين من الزمان محافظين على التقويم الأصلى.

ولكن بعد ذلك قرر البروتستانت (على اختلاف شيعهم ) أن يحتفلوا بعيد القيامة المجيدة مع الكنيسة الرومانية. وهكذا أصبح الشرقيون يحتفلون بهذا العيد الجليل في يوم، بينما يحتفل الغربيون في يوم آخر

 الاضطهاد الأول الذي أثاره الامبراطور سبتيموس ساويرس. 

 ولقد انقضت السنوات الأولى من باباوية الأنبا ديمتريوس في هدوء وسلام شأنها في ذلك شأن السنين التي تلت استشهاد كاروز دیارنا المصرية. على أن عدو الخير لم يرقه أن تسير الكنيسة المصرية بهذا الهدوء والاستقرار فتنمو نمواً مطرداً بلا مانع ولا عائق. فاستثار الامبراطور الروماني سبتيموس ساويرس ضد مسيحى مصر. ومن ثم أعلن هذا الامبراطور اضطهاده إياهم سنة ١٩٤م. ش. وبهذا الاعلان بدد هذا الامبراطور عهد السلام وافتتح عهداً من القسوة والاستبداد: إذ قاسى المصريون واحداً وعشرين اضطهادا بعد ذلك. وظل الاضطهاد يضعف بالكنيسة المصرية على فترات متقطعة منذ أواخر هذا القرن الثاني حتى أواسط القرن السابع

وفى هذا الإضطهاد الأول سقط عدد غير قليل من المؤمنين من بينهم ليونيداس أبو أوريجانوس. كذلك اقتحم والى الاسكندرية هو وجنده كنيسة القديس مرقس وسلب كل ما فيها من آنية ثم قبض على الأنبا ديمتريوس ونفاه إلى أوسيم حيث بقى إلى أن انتهى الإضطهاد.

ولما عاد الأنبا ديمتريوس إلى الاسكندرية بعد موت الامبراطور سبتيموس ساويرس وجد أن اكليمنضس مدير المدرسة الاسكندرية قد إضطر إلى الهرب من وجه الطغيان الروماني، والتجأ إلى كبادوكية حيث انتقل إلى دار الخلود بعيداً عن وطنه . وفي تلك الفترة المريرة كان الشاب أوريجانوس قد أبدى شجاعة فائقة في مواجهة الإضطهاد الذي استشهد فيه أبوه: فقد بعث بخطاب إلى أبيه في السجن يشدد عزيمته ويستحثه على ملاقاة العذاب والموت ببسالة، كما أنه كان يزور المسجونين ويقوى قلوبهم فلما أخذ البابا ديمتريوس يفكر فى من يختار لإدارة المدرسة خلفا لا كليمنضس وقع اختياره على أوريجانوس نتيجة للشهادة التي شهدها له الاسكندريون بشجاعته وغيرته وشغفه بالعلم وهكذا تسلم أوريجانوس مقاليد المدرسة ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره. فأدى واجبه خير أداء وأثبت جدارته بثقة باباه كما أثبت بمسلكه الحكيم أن الحكمة لا ترتكن على السن ولا هي وليدة الخبرة وإنما هى منحة من الله تعالى يمنحها من يشاء

 انتداب أوريجانوس لنقض بدعة تفشت في بلاد العرب. 

 ولم تكد الأمور تستقر وتتخذ الحياة مجراها الطبيعي حتى وصل إلى مسامع البابا الاسكندرى أن بدعة تفشت في بلاد العرب . وتتلخص هذه البدعة في أن النفس تموت بموت الجسد. وكانت الصلة بين هذه البلاد وبين مصر صلة متينة إذ كان مسيحيوها وقتذاك خاضعين للكرسي الاسكندرى. وكان الأنبا ديمتريوس شغوفاً برعيته العربية ساهراً على سلامتها، وله في بلادها مندوبون يبعثون إليه بالرسائل الضافية عما يحدث ليستطيع بذلك أن يعمل على ما يعود بالخير عليهم حتى تظل الصلة بينهم وبينه متينة. وتحقيقا لهذا الغرض، وتوثيقا لهذه الصلة رأى أن يتدارك الأمر فانتدب أوريجانوس للذهاب إلى بلاد العرب ليقنع أهلها بفساد هذه البدعة. وسافر هذا المعلم الكبير على الفور ونجح في نقض هذه البدعة من أساسها ثم عاد إلى الاسكندرية ليعاود نشاطه الفكرى الروحي في مدرستها . وانقضت بضع سنوات فى هدوء واستقرار استطاع فيها المسئولون فى الكنيسة أن يثبتوا المؤمنين في الإيمان الأرثوذكسى استعداداً لما قد تأتى به الأيام من اضطهادات جديدة.

 غضب الأنبا ديمتريوس على اوريجانوس وسببه. 

 وحدث حوالي سنة ٢١٦م أن اذن الأنبا ديمتريوس لأوريجانوس بالذهاب إلى أخائية (في آسيا الصغرى) ليعلم أهلها. فذهب وقام بالمهمة التي عهدت إليه خير قيام . ومر بفلسطين وهو في طريق العودة إلى وطنه فوضع عليه اليد الكسندروس أسقف أورشليم وتيتوستيت أسقف قيسارية الكبادوك وكرساه أسقفاً، وقد أثار هذا العمل غضب الأنبا ديمتريوس فجمع مجمعه وأصدر حرمه على أوريجانوس لسببين أولهما أن أوريجانوس اقترف ذنباً يحول بينه وبين الكرامة الكهنوتية وهذا الذنب هو أنه خصى نفسه وثانيهما أن رسامة الأساقفة والكهنة المصريين من حق البابا الاسكندري وحده.

 الرعاية الساهرة حتى النهاية. 

ولقد بلغ الأنبا ديمتريوس الخامسة بعد المئة وظل إلى النفس الأخير مواظبا على تعليم شعبه، دائبا على رعايته ليل نهار. وكما كان القديس يوحنا الرسول الحبيب في شيخوخته يحمل على كرسى إلى الكنيسة كل أحد ليقول للشعب: ( يا أولادى أحبوا بعضكم بعضاً ، هكذا كان هذا البابا يحمله أخصاؤه ويذهبون به إلى الكنيسة ليؤكد للشعب وجوب المحبة والتألف ليملأ قلوب المؤمنين الفة وسلاماً

وبعد أن قاد دفة الكنيسة أثنتين وثلاثين سنة وسبعة شهور، جاهد خلالها الجهاد الحسن وتاجر بالوزنات التي أعطاه إياها سيده الإلهى، انضم إلى أسلافه ورقد في الرب قبل أن تندلع نار الإضطهاد التي أوقدها الامبراطور مكسيمينوس بقسوة وعنف، فاستودع روحه يدى الآب والسلام مخيم على ربوع مصر.

المراجع والمصادر:

تمت الاستعانة بالمصادر التالية في جمع المعلومات الواردة في هذه السيرة:

  1. يوسابيوس القيصري: تاريخ الكنيسة
  2. إيريس حبيب المصري:  قصة الكنيسة القبطية (الكتاب الأول)

  3. السنكسار القبطي (12 كيهك): سيرة مختصرة للبابا ديمتريوس الأول.
  4.  ساويرس بن المقفع: تاريخ البطاركة (الجزء الأول).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى