التعليم عن حياة الدهر الآتي

ترى التعاليم اللاهوتية الآبائية في الجذور الأولى للخلق والبعد الأخروى للحياة مسيرة روحية واحدة . فالرؤية الكتابية في مجملها، تُقر بحقيقة ثابته وهي أن الحياة الحاضرة تتحرك بإتجاه الأبدية، فهي وإن كانت ممتدة داخل الزمن، إلا أنها تسير نحو الحياة الأخروية وهذا هو مآلها النهائي. فالحياة الحاضرة التي نحياها لا تنحصر في البعد التاريخي والزمني بل هي ممتدة خارج الزمان، وهذا هو القصد النهائي الذي ستصل إليه في آواخر الدهور. 

التقليد الكنسي يؤكد على هذا التعليم اللاهوتي، إذ أن الكنيسة تحيا حقيقة الحياة الجديدة، وتتذوق عربون الحياة الأبدية من الآن بالنعمة الإلهية التي تُعطي لكل ممارستها مذاق خاص. 

هذه العطية الإلهية هى التي تُنبئ بأن تحقيق الوعد بالأرض الجديدة والسماء الجديدة هو أمر أكيد. لأن حقيقة هذه الأرض الجديدة المملوءة قداسة ومحبة وفرح وسلام تتجلى في الكنيسة التي تتذوق من الآن خيرات الحياة الأبدية. فتعاليم الآباء تؤكد على أهمية السعي نحو تحقيق الصلاح الإلهي الذي فقدته البشرية مبكرًا، وتؤكد على الرجاء في اكتمال المسيرة نحو الحياة الأبدية، حتى نصل إلى حالة القداسة الكاملة التي نترجاها في الحياة الفردوسية المجيدة واللاهوت الأرثوذكسي حين يتكلم عن حياة الفردوس، فهو يعني بشكل أساسي أمرين: 

1- المسيرة التي ينبغي أن يسلك فيها الإنسان، لكي يتجاوز مرحلة العدم، ويصل إلى مرحلة الكمال.  

2 – الدخول النهائي إلى ملكوت الله، والتمتع بمجد هذا الملكوت. 

هذا ما يؤكده العلامة أوريجينوس بقوله : [يوجد في ملكوت الله “أرضاً ” موعوداً بها للودعاء، أرض تسمي بـ ” أرض الأحياء “. أرض موضوعة على مرتفعات قال عنها النبي بحق: ” فيرفعك لترث الأرض” (مز ٣٤:٣٧) . هذه هي الأرض التي ترثها النفس المؤمنة بالله بعد الخروج من هذا العالم. والمقصود بها هنا أولئك الذين عاشوا بدون الناموس. وهنالك الذين وضعتهم العناية الإلهية وتدابيرها في الإيمان والنعمة بيسوع المسيح.]

لقد وصف الآباء الفردوس كحقيقة محسوسة ومدركة داخل البيئة التاريخية والطبيعية ، ثم أشاروا بعد ذلك إلى التحول الذي حدث في حياة الآباء الأوائل (آدم وحواء) (أى الخروج من الشركة الإلهية)، أي حين كسر المخلوق وصية خالقه. وهذا يعني أن الحياة الفردوسية تبدأ من المعطيات الخاصة بهذا العالم الحاضر في مسيرة متنامية وصولاً إلى مرحلة كمال الكون كله المحسوس والمدرك. أي أن الفردوس الذي يبدأ في هذا العالم يعني دخول كل ما هو محسوس ومدرك في مجال الحياة الإلهية وفشل الإنسان في تحقيق هذا الهدف، يعني أنه ينبغي عليه تصحيح مسيرته، للدخول في مجال الحياة الإلهية والتمتع برؤية المجد الإلهي. 

وطالما أن الحياة الفردوسية هى مسيرة نحو الكمال، نحو التمتع بالمجد الإلهي الذي يبدأ من الآن ويكتمل في الحياة الأبدية، فإن ملامح هذه الحياة الفردوسية لأبد وأن تتضح هنا في هذه الحياة الحاضرة. ويستطيع المرء أن يختبر هذه الحقيقة في حالة إتحاده بالله، ولذلك فإن الجحيم يُصبح واقعاً، إذا ما فقد الإنسان شركته مع الله، أى عدم الدخول في مجال الحياة الإلهية داخل الزمن، وهذا سيؤدي حتما إلى فقدان التمتع بالمجد الإلهي. فبالرغم من أن الشياطين يؤمنون بالله، إلا أنه يستحيل عليهم رؤية المجد الإلهي، لأنهم لا يدخلون في هذه الشركة الإلهية. وهكذا يتضح بأن الجحيم ليس حالة خاصة يفرضها الله على الإنسان طبقا لقانون محدد. فالله يحتضن الكل الأبرار والأشرار، إلا أن الأشرار لا يستطيعون أن يرون مجد الله، لأنهم يشعرون بأنه يُعاقب، وهذه الحالة ترتبط بموقفهم من الله، وليس العكس. 

إذن الجحيم بحسب الرؤية الآبائية هو حرمان من التمتع بالمجد الإلهي، وعن هذا الأمر يقول ق. باسيليوس بأنه [حرمان كبير وخسارة فادحة، ونحن نستطيع أن نتفهم هذا ، لو أننا قابلنا بين هذه الحالة وحالة الأعمى، فالأعمى محروم من رؤية أشياء كثيرة، لأنه لا يرى نور الشمس]. 

إذن فالجحيم يصبح حقيقة واقعة في حالة رفض الدخول في الشركة الإلهية لأن الشركة مع الله هى التي تعكس جمال وبهاء الحياة الفردوسية.

هناك رواية في أقوال الآباء الشيوخ أوردها القديس مقاريوس الكبير، تُخبرنا بأنه بينما كان يمشي في البرية وجد جمجمة لإنسان هرطوقي، فطرق عليها بعصاه، فعلى الفور شعرت نفس ذلك الهرطوقي وهى في الجحيم بالقديس، وطلبت منه الصلاة لأجل تخفيف الآلام عنها. وعندما سأله القديس مقاريوس عن حالتهم في الجحيم، أجاب بأن وجه كل واحد في ظهر الآخر، ولا يستطيع أحد أن يرى وجه الآخرين، وترجّاه في النهاية أن يُصلي من أجلهم لكي يروا حتى ولو قليلاً وجه الآخر . الحقيقة التي تحملها رمزية هذه الرواية، هي أن الإنسان كائن يحيا في شركة، وأن الخروج من هذه الشركة يعني الموت. وهذه الحقيقة قد أكد عليها الرسول بولس في رسالته إلى أهل تسالونيكي بقوله : ” فإذ قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم ” (۱تس ۲: ۱۷)، مما يبرهن على قيمة وأهمية حياة الشركة في المسيرة الروحية للمؤمنين. وهذه الصور تُعبّر عن المحتوى اللاهوتي العميق للتعليم الأرثوذكسي، الذي يرى في الشركة مع الله تحقيقا للحالة الفردوسية، وأن الخروج من هذه الشركة يؤدى إلى حياة الجحيم. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفهم معنى الشركة بين الأحياء والأموات والصلوات من أجل الأنفس التي رقدت. 

السماء الجديدة والأرض الجديدة 

إن الحياة المسيحية بطبيعتها تحمل توجهًا أخرويًا، فهى تتطلع نحو حياة الدهر الآتي. وإذا نظرنا للديانة اليهودية نجد أن لديها توجه أخروي، ولكن التوجه المسيحي بالنسبة للحياة الأبدية، يختلف جذريًا عن التوجه اليهودي. فاليهود يؤمنون بالله الذي خلق الكون من العدم، ويعترفون بحضوره في العالم وفي أحداث التاريخ، وينتظرون تكميل العمل وتحقيق وعوده في المستقبل، في الأزمنة الأخروية. هذا الإيمان وهذا الرجاء يرتبط بفكرة الخط المستقيم للزمن. أما الحياة المسيحية فتعتمد أساسًا على تأنس ابن الله، الذي تحقق بالفعل، تتميماً لوعوده بخلاص جنس البشر. “ولما جاء ملء الزمان أرسل الله إبنه مولودًا من إمرأة. مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس” (غل ٤: ٤-٥). فأساس التوجه المسيحي إذا نحو الحياة الأبدية، هو مجىء الله في الجسد، وأيضًا انتظار المجىء الثاني للمسيح، الذي يعني كمال عمل الله وتجديد الكون ولكننا” بحسب وعده ننتظر سماء جديدة وأرضا جديدة “. 

إن المجىء الأول للمسيح والذي حدث زمنيًا في الماضي هو نفسه يُعلن عن المجيء الثاني الذي يُنتظر في المستقبل. إلا أن هذا المستقبل لا ينحصر في بعده التاريخي، إذ أن المستقبل الخاص بالرجاء المسيحي يتجاوز الزمن والتاريخ، لأن ما يرتبط بالزمن، وما يوجد في التاريخ لا يتعدى كونه مجرد ظلال ورموز. فلا يجب أن نضع رجاءنا في انتظار نهاية الزمن، لأننا من الآن نحن نحيا الحياة الجديدة في المسيح، وننتظر كمال عمل الله. 

إذن على عكس الرؤية اليهودية التي تُركز أهدافها واهتماماتها على الزمن والتاريخ، فإن الكنيسة ترى في الزمن والتاريخ وكل ما يرتبط بهما مجرد وعاء يحمل في داخله ملامح الحياة الأبدية التي ننتظرها. وإذا كانت الكنيسة تنظر لتاريخ شعب الله كتاريخ مقدس ، إلا أنها ترى فيه معنى رمزيًا. فخروج اليهود من أرض مصر، وانتقالهم إلى أورشليم، يُفسر من قبل الكنيسة على أنه نموذج لخروج المؤمنين من العالم وانتقالهم لملكوت الله. يقول القديس إيريناؤس [خروج شعب الله من أرض مصر، هو نموذج وأيقونة لخروج الأمم ودخولهم في الكنيسة]. 

إن تعليم الكنيسة عن حياة الدهر الآتي مرتبط في جوهره بالحديث عن الخروج من هذا العالم. فالعالم يُنظر إليه كمكان إقامة مؤقت وزائل، وفي نفس الوقت هو عمل الله. لكن الله لم يجعل من هذا العالم المؤقت والزائل مكان إقامة دائم للبشر، لأن ملكوته الأبدي هو مكان الإقامة الدائم هذه الحالة تصفها الرسالة إلى ديوجينيتوس بالقول [ إن المؤمنين يعرفون بأنهم غرباء ونزلاء في أوطانهم فإنهم يسكنون البلدان لكنهم غرباء عنها .. وكل بلد أجنبي هو وطن لهم ، وكل وطن لهم يُعد بلد غريب]. 

وهكذا فإن إهتمام المؤمنين لا ينحصر في مجال الأحداث التاريخية وتطوراتها، ولكنه يمتد إلى أبعد من ذلك ” لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة ” (عب ١٤:١٣ ) . وهذه المدينة العتيدة التي تتطابق مع ملكوت الله، ليست بعيدة عن المؤمنين، لكنها بالفعل داخل قلوبهم كعربون لما سيحدث. 

لقد تحدث القديس بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس بشأن هذا الموضوع قائلاً : ” هوذا سر أقوله لكم لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير فإنه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير. لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت ” ( ١ كو ١٥ : ٥٣.٥١) هذا التعليم يؤكد بأن هذا العالم إلى زوال، وفي ذلك الوقت يجعلنا نتطلع نحو ملكوت الله على الدوام. 

إن التمتع بملكوت الله لن يكون فقط بعد نهاية الزمان، لكنه حاضر في كل لحظة في الزمن. وعلى الرغم من أننا ننتظر هذا الملكوت بعد نهاية الزمان إلا أنه يتحقق فعليًا في الحاضر ” ننظر الآن في مرآه في لغز ” ( ١كو ١٢:١٣). وهذا يوصف بوضوح تام في إنجيل يوحنا ، فالساعة الأخيرة التي ينتظرها المؤمنون، هي حاضرة بالفعل، 

وتعمل في التاريخ ” تأتي ساعة وهى الآن ” (يو ٤: ٢٣ ، ٢٥:٥). وهذا يعني أن ملكوت الله يتحقق في هذا العالم الحاضر ولكنه لا ينتسب إليه، ويصير هذا الملكوت هو المعيار الذي يتم على أساسه تقييم أمور هذا العالم الحاضر. فعندما يثبت المؤمنون في إيمانهم حتى المجيء الثاني وعندما يختبروا ملكوت الله داخلهم، حينئذا تتضح الحقيقة المؤكدة، وهى أن كل شئ مرتبط بهذه الحياة الحاضرة سيبطل. 

إن الزمن والتاريخ لهما بعد نسبي، غير أنهما يتسعان بغنى وبلا حدود ويكمل الزمان ويكتمل بحضور الله فيه، ويصبح التاريخ مجالاً لاستعلان ملكوت الله. ويُصبح الزمن والعالم بكل ما فيه نسبيًا أمام ملكوت الله. لأن” يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد ” (۲بط ۳: ۸). الوقت كما يؤكد الرسول بولس “مقصر”، “لكي يكون الذين لهم نساء كأن ليس لهم. والذين يبكون كأنهم لا يبكون والذين يفرحون كأنهم لا يفرحون والذين يشترون كأنهم لا يملكون والذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه. لأن هيئة هذا العالم تزول ” ( ١كو٧: ۳۱.۲۹). 

بهاء المجد السمائي: 

إذن فالمسيحيون هم مواطنوا الوطن السمائي الذي أسسه المسيح وقد صار هو أول مواطنيه. التطلع نحو هذا الوطن السمائي، هو الذي يخلق فينا هذا الضمير الأخروى ” سيرتنا نحن هى في السموات” (في ٢٠:٣، أف ۲: ۱۹) وهذا الضمير يوحد المؤمنين فيما بينهم، وفي نفس الوقت يجعلهم مختلفين عن أهل العالم. 

إن الحياة الأخروية هى الغاية النهائية التي تتجه إليها الخليقة والتي بها تكتمل كل الأمور السابقة هي النهاية التي ينتظرها الجميع في المستقبل، وهى قائمة في الحاضر كهدف. ولهذا فإن الغاية المسيحية التي تنتظر تحقيقها ، هي ملكوت الله الذي نتذوق عربونه الآن لأنه قد أتى بالفعل إلى العالم، بمجيء المسيح (لو٢٠:١١). فالنهاية صارت حاضرة. ولهذا فإن الاسخاتولوجية المسيحية يمكن أن توصف كحياة منتظرة، وكحياة متحققة ” أيها الأحباء نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو ” ( ١يو ٢:٣). فالمسيح قد صُلب ومات وقام وصعد إلى (ايو السموات وهو الغير الزمني، الأزلي ” الكائن والذي كان والذي يأتي ” (رؤ ٤:١). 

إن استعلان مجد المؤمنين في ملكوت الله يتطلب إنضمامهم إلى جسد المسيح الذي هو الكنيسة. فالكنيسة قائمة بين تخوم الحاضر والحياة الأبدية، ووجود الإنسان داخل الكنيسة يكسبه ملمحا إسخاتولوجيا ، كما أن خروجه من العالم، ليس هو اختفاء في الفراغ، لكنه اشتراك في الحياة الأبدية، وفي المجد الإلهي. يُعبّر نيكولا كابيسيلاس عن هذه الحالة بقوله [إن المؤمنين هم أعضاء جسد المسيح، ورأس هذا الجسد مُختفى في التاريخ، لكنه سيظهر في الأبدية، في حياة الدهر الآتي. وعندما يظهر مجد الرأس، حينها سيظهر بهاء الأعضاء]. 

رجاء الإنسان في دخول ملكوت الله يرتبط بحياته اليومية بشكل مباشر، بينما طريقة معايشته لهذا الرجاء بشكل كامل يعتمد على النضوج الروحي الذي ينبغي أن يصل إليه. وهكذا فإن رجاء المؤمنين في ملكوت الله يتحقق داخل الكنيسة بطريقتين : 

١ – بانتظار المجيء الثاني للمسيح والذي يعني نهاية العالم والتاريخ. 

۲ – وأيضًا من خلال اختبار حضور ملكوت الله في الزمن، وهذا الاختبار قد ظهر بشكل محدد وواضح في حياة القديسين اليومية. 

هذا الملكوت المرتجى يتجاوز المكان والزمان واستعلان هذا الملكوت في الإنسان، هو عطية محبة من الله لا تخضع لتحديدات زمانية ومكانية”. وإن كان ملكوت الله يتحقق في هذا العالم، إلاّ أنه سيكتمل في الدهر الآتي. فالذي يُحرر الإنسان من العبودية لهذا العالم، ويجعله يتطلع نحو ملكوت الله، هو إحساسه وإيمانه بإن هذا العالم سيبطل. وهذا في حد ذاته يُعطي قوة للإنسان تجعله قادر على مواجهة الشر، ومحاربة الشهوات وراغب في إقتناء الفضائل. يصف الرسول بولس الحياة الحاضرة “بالليل”، والحياة الأبدية “بالنهار” (رو ۱۲:۱۳) . فظلام وخطية هذا العالم يقودان إلى الفناء. بينما الحياة في نور المسيح تقود إلى ملكوت الله. ولذلك داخل الكنيسة تزول الفوارق بين الزمن والأبدية، وبين الحياة الحاضرة بكل ما فيها وحياة الدهر الآتي. فالحياة الحاضرة هي بداية الحياة المستقبلية، والحياة المستقبلية هى امتداد للحياة الحاضرة. الحياة في المسيح [تتأسس هنا في هذه الحياة الحاضرة، لكنها تكتمل في الحياة المستقبلية، عندما نصل إلى ذلك اليوم].

هذا يعني أن أى سلوك مُغاير لهذا المسلك الإيماني، سيقود بالضرورة إلى هجرة الجهاد الروحي، وهذا بدوره سيقود إلى الخضوع لأمور هذا العالم الحاضر فيفقد الإنسان رؤيته الاسخاتولوجية، ويسبى من عدو الخير، وينتهي بالضرورة إلى الخروج من الحالة الفردوسية . المصير الأخروي للإنسان هو مصير الخليقة في مجملها، والتعاليم الآبائية اللاهوتية الخاصة بحركة التاريخ، وتطور الخليقة، تنظر إلى هذه الحركة وهذا التطور إنطلاقًا من سر تأنس “الكلمة”. إذ أن “الكلمة” المتجسد يُشكل السبب، والمركز، والهدف النهائي للخليقة في مجملها. ولذلك فاليوم الأخير، والذي يُدعى “يوم الرب” هو استعلانه التام والنهائي. 

يوم 

إن الحياة الفردوسية في تمامها وكمالها هى حياة لا نهاية لها فهى أبدية. الله لا يرغب في أن يُعاقب أحدًا بالجحيم، فالجحيم في جوهره هو عدم الشركة مع الله كما سبق وأشرنا ، لأن هذه الشركة هي غذاء الحياة الفردوسية . الحياة الفردوسية هي حياة المحبة، ولذلك فإن الجحيم يصبح حقيقة واقعة عندما يفقد الإنسان القدرة على المحبة، والرغبة في الشركة. هذا هو جوهر التعليم الأرثوذكسي بشأن الحياة الفردوسية، وحياة الجحيم. 

إن محبة الله لا تخضع لأية قوانين، فإن كانت النفس تطلبه وتريده ستنال خيرات لا حصر لها ، فالله يهب كل الخيرات السمائية لمحبي إسمه القدوس وبفيض. لأن كل الأشياء تعتمد على قبول الشركة في المجد الإلهي، أو عدم قبولها. التعليم اللاهوتي الغربي إبتدءا من أغسطينوس فصاعدا، قدم تفسيرات مختلفة عن الحياة الفردوسية والحياة في الجحيم. إذ نظر لهما بمنظور قانوني خاص بالمكافأة والعقاب. وأيضًا أقر بضرورة المطهر لكي تسدد النفوس ما عليها من ديون لم تسددها حال حياتها الأرضية. التعليم اللاهوتي الأرثوذكسي لا يقبل بمثل هذا الرأى وليس من قبيل المصادفة أن تسيطر الروح القانونية، وفكرة تحقيق الهدف المطلق على الفكر الغربي آنذاك. بينما في الشرق سادت فكرة عودة كل الأشياء إلى طبيعتها كمحطة نهائية للخلاص وهو التعليم الذي تبناه أوريجينوس، وغريغوريوس النيسي. ولهذا فإن موضوع عودة كل الأشياء لطبيعتها هو موضوع جدير بالاهتمام من وجهة النظر الأرثوذكسية ، شريطة أن يبنى على أسس التعاليم اللاهوتية الصحيحة والتعليم الخلاصي الشفائي التعليم اللاهوتي الأرثوذكسي معنى بتقديم الأسس الصحيحة لفكرة عودة كل الأشياء لطبيعتها على هذا النحو 

 

  1.  الخلاص هو شفاء للإنسان المخلوق على صورة الله من التشوهات التي أصابت النفس، بسبب الخطية. 
  2.  الخلود هو نتيجة للإتحاد بالله. 
  3.  الكمال هو الهدف الذي ينبغي على الإنسان الوصول إليه. 
  4.  الحياة الفردوسية هي محبة، وعشق، وشركة مع الله. 
  5.  الجحيم هو على العكس تماما ، عدم شركة، وعدم محبة، وحياة في الشر. 
  6. الدور الأساسي من حيث قبول عطية الله، يتوقف على الإرادة. 
  7. الشر لا كيان له. 

أول من طرح هذه الفكرة (أي عودة كل الأنفس لطبيعتها) هو أوريجينوس. فقد رأى أن نار الجحيم ليست عقوبة، بل هي تنقية  وشفاء. وقد استخدم مثل الذهب المختلط بالشوائب، فعندما يحرقه الصائغ، فإنه يفعل ذلك من أجل استخلاص الذهب النقي الخالي من الشوائب. والقديس غريغوريوس النيسي بدوره قبل هذا الأمر، فنار الجحيم لا تخمد وهى تحرق الشرور التي في النفس، والشرور ستنتهي وستُمحى، بينما النفس ستتنقى.

الفردوس إذًا مرتبط بحضور الله، وغياب الله عن حياة البشر يعني الجحيم، فمع أن الأشرار أيضًا مشمولين بعطف الله، إلا أن هناك هوة تفصلهم عنه ، حتى أنهم لا يستطيعوا أن يروا مجده . لذلك فقد تحرر الأموات المآسورين، والمقيدين في الجحيم برباطات الموت، ونالوا حياة جديدة بعد أن نزل المسيح إلى الجحيم (١بط ١٨:٣- ٢٠) ليفك أسرهم. والأيقونة الأرثوذكسية للقيامة تعرض لنزول المسيح للجحيم، وهى تقدم المعنى اللاهوتي العميق الذي علم به الآباء بخصوص نزول المسيح للجحيم وتحرير المأسورين، ومنحهم هبات وكرامات[1].

  1.  هذا ما تصليه كنيستنا القبطية في قسمة تقال للابن في الإحتفال بعيد القيامة ” هذا هو الذي نزل إلى الجحيم وأبطل عز الموت وسبى سبيًا وأعطى الناس كرامات ” الخولاجي المقدس الصادر عن مطرانية بني سويف، قسمة الابن، ص ٦٩٤. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top