استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب 

«استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب 
هَبي على جنتي لتقطر أطيابها، 
ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس» 
(نش 4: 16) 

«استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب» 

هذه من الآيات الجميلة التي نجد فيها معنى استدعاء الروح القدس. استدعاء الروح القدس له أهمية أساسية في صلوات الكنيسة. من أمثلة ذلك:

+ «أيها الملك السماوي المُعزي … هلُمَّ تفضَّل وحل فينا وطهرنا من دنس أيها الصالح وخلّص نفوسنا» 

+ صلاة استدعاء الروح القدس في القداس الإلهي ليحل علينا وعلى القرابين، ليُكمّل تقديس القرابين وليهيئنا نحن لقبولها. 

+ صلاة السجدة في مساء عيد الخمسين التي نطلب فيها أن يحل الروح القدس علينا كأفراد وككنيسة. 

أمثلة أخرى لصلوات استدعاء الروح القدس في الكتاب المُقدَّس: 

+ هناك الرؤيا الجميلة جدا التي في سفر حزقيال النبي، الذي لما رأى البقعة ملانة عظاما يابسة جدًا، أمره الرب أن يتنبأ للروح قائلاً: «هلم يا روح من الرياح الأربع وهُبَّ على هؤلاء القتلى ليحيوا» (حز ۳۷: ۹). ملاحظة أن كلمة « الريح» وكلمة «الروح» هما كلمة واحدة سواء كان في اللغة العبرية أو اليونانية. فمثلاً عندما يقول في إنجيل يوحنا: «الريح تهب حيث تشاء يمكن أن تُترجم أيضًا الروح تهب حيث تشاء»، لأن الريح والروح كلمة واحدة. وهكذا يقول حزقيال: «فتنبَّاتُ كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيمٌ جدًا جدًا» (حز۳۷: ۱۰). 

+ مثال آخر لصلاة استدعاء للروح القدس في العهد القديم أيضًا: ما جاء في المزمور الكبير (۱۱۸) الذي يُقال في نصف الليل: «فتحت فمي واجتذبتُ لي روحًا، لأني لوصاياك اشتقتُ» (مز ۱۱۸، القطعة ١٧ حسب السبعينية). لأنه بدون الروح القدس يستحيل تتميم أية وصية كما يجب، سواء كانت صغيرة أم كبيرة. فالذي يشتاق إلى تتميم الوصايا، أي إلى الحياة بحسب الإنجيل، لا بد له أن يفتح فمه ويجتذب له الروح القدس، حتى يستطيع بالروح القدس أن يُكمِّل الوصايا. وهذا بعينه هو ما تعنيه العروس حينما تقول: «استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب هَبي على جنَّتي لتقطر أطيابها». 

«تقطر أطيابها» 

يعني تقطر الفضائل، لأنه بدون حلول الروح القدس داخل القلب يستحيل أ يثمر قلبي بأي فضيلة. فالمعنى هو : “هلُمَّ أيها الروح، استيقظ أيها الروح، وهَبَّ على قلبي فيقطر أطيابه، أي يثمر فضائله”. 

وهل لنا أن نقول للروح أن يستيقظ ؟ وهل الروح القدس نائم؟ حاشا بل هذا أسلوب إنعكاسي في التخاطب مع الله : الإنسان يرى حالته وكأنها منعكسة على الله . هذا هو ما نجده مثلاً في المزمور القائل: «إلى متى يا رب تنساني إلى الانقضاء؟ حتى متى تصرف وجهك عني؟» (مز ۱۲: ۱). إن الله لا ينسانا أبدا، : يستحيل أن ينسانا بل نحن الذين ننساه فنعكس حالتنا عليه. فما يعنيه المزمور هو: «إلى متى يا رب تتركني أنساك إلى الانقضاء؟» 

هذا الأسلوب الانعكاسي كثيرًا ما نستعمله في الحياة العملية. فمثلاً نحن نقول إن الشمس ،طلعت ومعروف طبعا أن شروق الشمس ليس سببه أن الشمس تتحرك بل سببه أن الأرض التي تدور حول نفسها فتجعلنا نرى الشمس وكأنها تشرق وتغرب وكذلك الحال حينما يقول الولد لأبيه أثناء سير القطار: إلى متى يا أبي يظل الشجر يجري هكذا مسرعًا؟ فيُجيبه أبوه ها نحن قد اقتربنا من المحطة ويقف الشجر ولا يجري. 

هذه إذن هي طريقة الأسلوب الانعكاسي، أن الإنسان يرى حالته وكأنها منعكسة على الله فهو حينما يقول: إلى متى تنساني، يقصد بها: إلى متى تتركني أنساك؟ وعندما يقول الله: «استيقظ يا رب لماذا تنام؟» أو يقول «استيقظ أيها الروح …» ، يقصد: اجعلني أنا أستيقظ وأنتبه لعملك فيَ. 

«هبي على جنتي فتقطر أطيابها» 

بدون الروح القدس يستحيل أن يثمر القلب ثمار الروح بدون الروح القدس ما كان الشهداء شهدوا للمسيح ولا سفكوا دماءهم بدون الروح القدس ما كان الرهبان خرجوا إلى الجبل وعاشوا في البراري بدون الروح القدس ما كان أحد من القديسين استطاع أن يثمر ثمرة واحدة من ثمار الروح. 

الروح القدس هو روح القداسة، هو الذي يثمر في القديسين حياة القداسة، فبدونه يستحيل أن يقطر قلبي أطيابه، أو أن يثمر أي فضيلة. 

فالحاجة مُلحة جدًا إلى طلب حلول الروح القدس في القلب، إن أردنا أن تُثمر بأي ثمر من ثمار القداسة، لأن القداسة خاصية الروح القدس. فإذا كانت خاصية الآب هي الأبوة، والآب هو الذي تُستمد منه كل أبوة في السماء وعلى  الأرض، وخاصية الابن هي البنوة ومنه نستمد التبني حيث كل بنوة وكل تبني في السماء وعلى الأرض يُستمد من الابن، كذلك فإن القداسة هي خاصية الروح القدس، ومن الروح القدس يستمد جميع القديسين كل ثمر القداسة. 

«لياتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس» 

أي ليأتِ المسيح إلى قلبي فيأكل ثمره النفيس الذي أثمره لي روحه الق داخل قلبي. مجيء الحبيب، أي مجيء المسيح إلى القلب مرتبط أشد الارتباط بحلول الروح القدس في القلب أي بهبوب الريح على جنتي. بولس الرسول يطلب لأهل أفسس أن «تتأيَّدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف ۳: ۱۷). هذا معناه أنه بدون أن نتأيد بقوة الروح القدس : يستحيل أن يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا. فالوسيلة الوحيدة التي بها نستطيع أن تهيئ قلوبنا لحلول المسيح فيها ، هي أن تنفتح قلوبنا أولاً لقبول الروح القدس.  فالروح القدس هو الذي يُهيّئ القلب ليكون مسكنا مريحا للمسيح. 

هذه الحقيقة عبر عنها أبونا الروحي بأسلوب واضح جميل في مقدمة كتابه «الروح القدس وعمله داخل النفس»: 

[بقدر الملء من الروح القدس بقدر الملء من المسيح،
لأنه كلَّما أفسحنا للروح القدس مكانا في القلب والحياة،
كلما أفسح الروح القدس فينا مكانًا للمسيح. 
وهكذا يُستعلن المسيح في قديسيه 
بقدر طاقة القديسين على الملء من الروح القدس 
وذلك بتهيئة القلب ليكون منزلاً مُريحًا لإقامة دائمة له] 

واضح في تحشد المسيح أن الروح القدس كان له الدور الأساسي في تحقيق هذا «التجسد الروح القدس يحل عليكِ وقوة العليّ تُظللك» (لو ١: ٣٥)، ولذلك نقول في قانون الإيمان إنه [تجسَّد من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم]. 

كذلك في تكوين جسد المسيح السري الذي هو الكنيسة، نجد أن الروح القدس كان له الدور الأساسي في يوم الخمسين في نشأة الكنيسة التي هي جسده. 

وبالمثل في الحياة الروحية لكل واحد منّا، فإن الروح القدس هو الذي يُهيئ القلب لحلول المسيح داخلنا (أف۳: ۱۷). فبقدر ما تنفتح لحلول الروح القدس فينا وبقدر ما نُريح الروح القدس داخلنا، بقدر ذلك يتصوّر المسيح فينا (غل ٤: ١٩) فنأخذ صفاته ونتشكل على صورته. 

الروح القدس هو المنوط بتصوير المسيح فينا، فيجعلنا «نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد كما من الرب الروح»  (۲كو ۳: ۱۸) فالروح القدس هو الذي يُغيّر شكلنا إلى شكل المسيح، وهو الذي يُهيئ القلب ليكون مسكنا مُريحا للمسيح. ولهذا بعد أن تستدعي العروس هبوب الروح على جنتها تقول: 

«ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس» 

نلاحظ ضمير الملكية الذي يعود على الحبيب في كلمة «جنته» وكلمة «ثمره». مع أنها قالت قبل ذلك: «هَبي على جنتي لتقطر أطيابها»، حيث كانت الجنة جنّتى ،أنا والطيب طيب الجنّة أي طيبي أنا وبعد ذلك قالت إن الجنَّة جنّته هو (أي جنَّة المسيح) والثمر ثمره هو. وفي هذا نرى تعبيرا عن مبدأ السينرجيا συνεργία  = synergy أي مبدأ ترابط أو تلاحم عمل الله مع عمل الإنسان، أو ترابط عمل النعمة مع الجهاد، أو عمل الروح القدس فينا مع جهادنا الشخصي. فالثمر وإن كان يبدو أنه ثمرنا نحن لكنه في حقيقته هو ثمر الله فينا. لأنه كما يقول إشعياء: «كل أعمالنا صنعتها لنا» (إش ٢٦: ١٢)، فله يرجع الفضل في كل ما نعمله نحن لأنه «هو الذي صنعنا وليس نحن»(مز ۹۹: ٣ في السبعينية). «لأن منك الجميع، ومن يدك أعطيناك» ( ١أي ۲۹: ١٤). لذلك قال الرب: «لكي يروا أعمالكم الحسنة ويُمجدوا أباكم الذي في السموات» (مت ٥: ١٦)، لأن له يرجع الفضل في كل ما نعمل، فأي فضيلة فينا هي ليست منا: «فأي شيء لك لم تأخذه؟» (١كو ٤: ٧) بمعنى: أي فضيلة فيك وأنت لم تأخذها أصلاً من الله؟ فهي إذن ليست منك. «وإن كنتَ أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟» فأي فضيلة فينا هي ليست منا، هي ثمره هو ثمر الحبيب فينا. 

«ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس» 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top