«بلغ أوان القضب وصوت اليمامة سُمع في أرضنا»
(2: 12)
تكلَّمنا المرة السابقة عن الزهور التي ظهرت في الأرض، أنها ترمز إلى الحياة الجديدة التي تظهر في الربيع. وترجمة «الزهور ظهرت في الأرض» في العهد الجديد هي: «الحياة أُظهرت». الحياة الأبدية أظهرت على الأرض، ظهرت متجسدة، وذلك كما يقول ق يوحنا في رسالته الأولى : «الذي رأياه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونُخبركم… لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا» (١يو ١: ١-٣).
«بلغ أوان القضب»
الكلمة العبرية التي تُرجمت هنا بالقضب تُرجمت في لغات أخرى بالتسبيح أو بالأغاني. وهي بالتدقيق تعني التغريد أي تغريد الطيور فمعنى هذه الآية أنه قد بلغ أوان الفرح والتسبيح، ومعناها متصل بمعنى الآية السابقة «الزهور ظهرت في الأرض»، لأنه بدخول المسيح إلى العالم بلغ إلينا زمان الفرح وزمان التسبيح.
معروف طبعًا أن يوم ميلاد المسيح قال الملاك للرعاة: «ها أنا أُبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب». إن أعظم فرح هو الفرح باتحاد الله بالبشرية، اتحاد اللاهوت بالناسوت وكلمة «أبشركم» هي في اليوناني مشتقة من الكلمة التي تعني الإنجيل. فأبشركم تعني أخبركم بالخبر المفرح، بالإنجيل الذي هو البشارة المُفرحة. ها أنا أُبشركم بفرح عظيم تعني ها أنا أعلن لكم إنجيل الفرح العظيم.
ملخص الإنجيل كله هو أن الله اتحد بالبشرية في شخص الرب يسوع. فإذا أردت أن تُلخّص إنجيل العهد الجديد كله في آية واحدة تكون «وبالإجماع عظيم هو سرُّ التقوى الله ظهر في الجسد» (۱تي ۳: ١٦). فاتحاد اللاهوت بالناسوت هو الإنجيل، إنجيل الفرح العظيم.
«صوت اليمامة سُمع في أرضنا»
اليمامة طائر، أي ليست هي من الأرض بل من السماء. صوت تسبيح ملائكة السماء سُمع على الأرض يوم ميلاد الرب يوم أن ظهرت الحياة الجديدة على الأرض. لأول مرة شمع نشيد الملائكة هنا على الأرض: وظهر بغتةً مع الملاك جمهورٌ من الجند السماوي مُسبِّحين الله وقائلين: «المجد الله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لو ٢: ١٣-١٤).
إن صوم الميلاد الذي نعيشه الآن هو زمان الفرح باتحاد الله بالبشرية. صوم الميلاد يتميز عن بقية الأصوام الكنسية بأنه صوم فيه فرح، بعكس مثلاً الصوم الكبير الذي هو زمان النسك والتوبة.
صوم الميلاد كله فرح وتسبيح تسابيح ليالي كيهك تجد فيها أجمل الألحان. ألحان شهر كيهك تمتاز بحلاوة النغم مع الفرح والتهليل لأن الله اتحد بالبشرية. كلمة «فرح» في اللغة الدارجة تعني «عرس»، أي اتحاد عريس بعروس. فإن كان مثل هذا الفرح في مفهوم العالم باتحاد رجل بامرأة، فكم يكون فرح الخليقة كلها باتحاد الله الخالق نفسه بخليقته؟!
إنه حدث لم يسبق له مثيل: الله نفسه اتحد بالخليقة، الخالق اتحد بخليقته! سفر الرؤيا يقول: «لنفرح ونتهلَّل ونُعطِه المجد لأن عرس الخروف قد جاء وامرأته هیأت نفسها» (رؤ ۱۹: ۷). العرس بين الخروف وعروسه التي هي البشرية الجديدة، أي الكنيسة، هو سبب الفرح الكامل: «لنفرح ونتهلل».
لقد وردت هذه العبارة «الفرح الكامل» تعقيبًا على ما قاله ق. يوحنا في رسالته الأولى : «الحياة أظهرت… لمسناه بأيدينا … رأيناه بعيوننا… تُخبركم به ليكون لكم أيضًا شركة معنا» ثم يقول بعد ذلك «ونكتب إليكم هذا ليكون فرحكم كاملاً» (١يو ١: ١-٤). وهكذا ربط ق. يوحنا الفرح الكامل بخبر التجسد.
الله اتحد بالبشرية. هذا هو الفرح الكامل. لأنه إذا كان اللاهوت اتحد بالناسوت، يكون الله اتحد بالبشرية اتحد بكل واحد منّا، وأصبح لكل واحد منّا إمكانية للاتحاد بالله في شخص المسيح الذي فيه تم هذا السر. هذا هو الفرح الكامل، وهذه هي البشارة المُفرحة، ولا يوجد فرح أعظم من هذا الفرح.
عندما نتصفح العهد القديم كله ونبحث فيه عن الآيات التي تتكلم عن الفرح، نجد أن أعظم الآيات التي تتكلم عن الفرح تلمس هذا السر من قريب أو من بعيد، وتتكلم عن حلول الله وسط شعبه. المسيح نفسه يشهد أن إبراهيم فرح لما رأى يوم التجسد: «أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح» (يو ٨: ٥٦).
داود النبي أيضًا فرح فرحًا مفرطًا لدرجة أنه خلع ثياب المملكة وصار يرقص بكل قوته أمام تابوت الرب عندما كانوا يُصعدونه إلى أرض إسرائيل. تابوت الله كان يرمز إلى حلول الله وسط شعبه، إلى حلول اللاهوت في وسط المادة المخلوقة، مادة التابوت. ففي وسط هذا الخشب، وهو مادة مخلوقة، كان الله يحل على مستوى الرمز، وطبعا كان هذا مجرد رمز للتجسد المزمع أن يكون، أي لاتحاد اللاهوت بالناسوت لاتحاد الخالق بخليقته.
تفسير هذا الرمز استلمناه من التقليد الكنسي. فثيئوتوكية الأحد القطعة الثانية تُفسِّر تابوت العهد المُصفّح بالذهب والمصنوع من خشب أنه يرمز للمسيح الذي هو [واحد من اثنين لاهوت قدوس … وناسوت طاهر].
فداود النبي لما رأى هذا السرَّ ، كما في لغز في تابوت العهد، أحس بروحه أنه يرمز إلى حلول الله في وسط شعبه في وسط البشرية، فأحس بسر التجسد روحيًّا دون أن يفهمه، وحينئذ امتلأ بفرح مُفرط وصار يرقص بكل قوته أمام الرب.
نقرأ بعض آيات العهد القديم التي تتكلَّم عن الفرح، وسنرى كيف أنها كلها تلمس من قريب أو من بعيد سر اتحاد الله بالبشرية أو سرَّ حلول الله في وسط شعبه:
+ «أكثرْتَ الأمة عظمت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة لأنه يولد لنا ولد وتعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهَا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام» (إش ٩: ٣، ٦).
الجزء الثاني من هذه الآية مألوف لدينا ويُشير بوضوح إلى ميلاد المسيح، ولكن مقدمة الآية ربما لم نكن قد لاحظناها من قبل وهي تبرز مقدار الفرح الذي لازم ميلاد الرب: «أكثرت الأمة عظمت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة».
+ «رنّموا للرب لأنه قد صنع مفتخرًا. ليكن هذا معروفًا في كل الأرض. صوتي واهتفي يا ساكنة صهيون لأن قدوس إسرائيل عظيم في وسطك» (إش ١٢: ٥-٦).
فما هو سبب هذا الفرح؟ يا ساكنة صهيون، إن قدوس إسرائيل عظيم في وسطك!
وكلمة «في وسطك» هذه ستقابلنا في الآيات التالية عدة مرات، لأن سبب الفرط المُفرط هو دائما أن الله يحلُّ في وسط أورشليم أو في وسط شعبه. وهذه كانت مجرد نبوات منظورة من بعيد كما في لغز عن حلول الله في وسط البشرية بالتجسد والحقيقة ظهرت أعظم وأبهر جدًا من النبوات. هذه الحقيقة أخذناها نحن بالاتحاد بالمسيح ،وبالإفخارستيا ، وقد ظهرت أنها أعظم جدًا من كل ما خطر على قلب أنبياء العهد القديم.
+ «الرب إلهك في وسطك جبارٌ، يُخلّص، يبتهج بكِ فرحًا، يسكت في محبته يبتهج بك بترنم» (صف ۳: ۱۷).
وأيضًا هنا سبب الفرح هو أن «الرب إلهك في وسطك».
+ «ترنمي يا ابنة صهيون اهتف يا إسرائيل افرحي وابتهجي بكل قلبكِ يا ابنة أورشليم قد نزع الرب الأقضية عليك أزال عدوك ملك إسرائيل الرب في وسطك. لا تنظرين بعد شرًا» (صف ١٤:٣-١٥).
وهنا أيضًا سبب الترنيم والفرح والابتهاج هو أن «الرب في وسطك».
+ «ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليكِ» (زك ٩: ٩).
سبب الفرح والابتهاج هنا أيضًا هو مجيء الملك العظيم إلى أورشليم، مجيء المسيح ودخوله أورشليم. أورشليم دائمًا في العهد القديم ترمز إلى البشرية المدعوة للاتحاد بالله. فهي موضع الهيكل، والهيكل موضع حلول الله. فأورشليم ترمز إلى الشعب الذي في وسطه يسكن الله . لذلك عندما نقرأ «أورشليم» يلزم دائما أن تترجمها إلى «البشرية المدعوة للاتحاد بالله». حينما قدَّم لنا سفر الرؤيا أورشليم الجديدة أعطى لها هذا التعريف هوذا مسكن الله مع الناس» (رؤ ۲۱: ۳).
+ «كفرح العريس بالعروس يفرح بكِ إلهك» (إش ٦٢: ٥)
هكذا قالها إشعياء النبي صراحةً فعلاقة الرب بنا شبيهة بعرس إلهي، وهو سبب أعظم فرح يفرح به الرب !
+ «ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هأنذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب» (زك ٢: ١٠).
من كل هذا نتبيَّن أن أعظم سبب للفرح في نظر العهد القديم هو أن الله يأتي ويسكن في وسط شعبه، الأمر الذي تحقَّق على مستوى البشرية بالتجسد وحلول في جسد مأخوذ منَّا : «والكلمة صار جسدا وحل فينا !»
هذا هو تعليم الكنيسة في كل صلواتها، وبالذات في شهر كيهك في الثيئوتوكيات فهي تُبيّن لنا الفرح العظيم الذي صار لنا في المسيح بالتجسد. فنجد مثلاً ثيئوتوكية السبت تُخاطب العذراء القديسة مريم قائلة:
[يا من قدَّمتِ لنا الله محمولاً على ذراعَيكِ:
تفرح معك كل الخليقة ]
فالخليقة كلُّها تفرح باتحاد الخالق بخليقته في شخص الرب يسوع المسيح. ولكن قد يتساءل أحدٌ : إن كان الله قد اتحد بجسد فردي محدد، فما علاقة بقية الخليقة بهذا الاتحاد حتى تفرح به هكذا؟
ق. أثناسيوس يُصوّر لنا ذلك بالمثل التالي:
[كما أنه لو دخل ملك عظيم مدينة عظيمة، واتخذ إقامته في أحد بيوتها، فإن هذه المدينة تتشح بالشرف الرفيع، ولا يعود عدو أو لص ينزل اليها لإخضاعها، بل على العكس، تُعتبر مستحقةً لكل عناية، لأن الملك اتخذ مقره في أحد بيوتها، كذلك كان الحال مع ملك الكل]. تجسد الكلمة ٣:٩
وهكذا لما سكن الكلمة في أحد الأجساد البشرية نالت الطبيعة البشرية كلها كرامة عظمى.
ويلاحظ أن الملائكة الذين ظهروا مسبّحين في ليلة الميلاد كانوا يُسبحون الله بالأساس على ما نلناه نحن أو كما نقول في القداس الغريغوري، كانوا يقدمون «تسبحة الغلبة والخلاص الذي لنا». لذلك قال الملاك للرعاة «قد وُلد لكم» وليس للملائكة. «فإنه ليس يُمسك الملائكة بل يُمسك نسل إبراهيم» (عب ۲: ١٦)، بمعنى أنه لم يتحد بطبيعة الملائكة ولكنه اتحد بجسد بشري من نسل إبراهيم على أن الملائكة أنفسهم نالوا هم أيضًا من التجسد كرامة عن طريق غير مباشر، بصفتهم هم أيضًا جزء من الخليقة وأن الله في التجسد اتحد بخليقته، فنالت الخليقة ككل كرامة بسبب اتحاد الله يجزء منها. فكم بالأحرى ينبغي أن نُسبِّحه نحن البشر بسبب اتحاده بطبيعتنا نحن البشرية.
[الفردوس يتهلل لأنه قد جاء الحَمَل] (ثيئوتوكية (السبت)
[أتيتَ إلى العالم بمحبتك للبشر، وكل الخليقة تهللت بمجيئك] (صلاة باكر)
هذا هو سبب الفرح الأعظم بحسب منطق العهد القديم، وبحسب منطق صلوات الكنيسة، وبحسب منطق ق يوحنا الحبيب في رسالته الأولى، إذ أن «الفرح الكامل» عنده هو الذي يتأتى من الشركة بيننا وبين الله التي آلت إلينا بسبب تجسد المسيح وصوم الميلاد كله هو فرصة متاحة لنا لنفرح بهذا النصيب الفاخر الذي صار لنا بتجسد الرب يسوع.
صوم الميلاد هو أوان الفرح، أوان التسبيح أوان القضب» كما تقول الآية: «الزهور ظهرت في الأرض. بلغ أوان القضب. صوت اليمامة سُمع في أرضنا!»