أسندوني بأقراص الزبيب

«أسندوني بأقراص الزبيب،
أنعشوني بالتفاح،
فإني مريضة حبا»
(نش 2: 5) 

هنا العروس تطلب أن تُسند بأقراص الزبيب، وأن تُنعش بالتفاح. يلاحظ أن أقراص الزبيب تسند ، أما التفاح فيُنعش أقراص الزبيب بها تركيز كبير من المادة السكرية، ولهذا فهي تُعطي طاقة كبيرة، وتسند وهذا هنا كناية عن القوة الروحية التي تطلبها العروس. بينما التفاح يُعطي إنعاشًا بسبب الرائحة المنعشة التي فيه. 

فالعروس تطلب القوة الروحية والإنعاش الروحي، لأنها «مريضة حبًا». 

أقراص الزبيب والتفاح كلاهما يُعبران عن النعمة التي نأخذها من المسيح لاحتمال حبه . أقراص الزبيب تأتي من الكرمة وواضح أن الكرمة دائمًا مثال للرب: «أنا هو الكرمة الحقيقية» (يو ١٥: ١) والتفاح أيضًا إشارة إلى الرب، كما قالت العروس من قبل: « كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين» (۲: ۳). فشجرة التفاح كناية عن المسيح والإنعاش الروحي نناله من رائحة المسيح الزكية. 

«لأني مريضة حُبَّا» 

هذا يعني أنها من شدة الحب كادت تفقد وعيها ويُصيبها الإعياء، كما حدث لملكة سبا لما زارت سليمان، الذي كان رمزًا وإشارةً إلى سليمان الحقيقي أو إلى الذي هو «أعظم من سليمان»، كما قال الرب:

+ «ملكة سبا ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتدينه ، لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان وهوذا أعظم من سليمان ههنا» (مت ١٢: ٤٢). 

وقد قيل عنها أنه «لم يبقَ فيه روح بعد»: 

+ «فلما رأت ملكة سباكل حكمة سليمان والبيت الذي بناه (يقابله في العهد الجديد: الكنيسة التي بناها الرب) وطعام مائدته (يقابله جسدي مأكل حق) ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم (يقابل ذلك: “قد لبستم المسيح”)، وسقاته ومحرقاته التي كان يُصعدها في بيت الرب – (لما رأت كل ذلك) لم يبق فيها روح بعد» (١مل ۱۰: ٤-٥)

هذا يعني أن المنظر العظيم الذي رأته ملكة سبا، منظر سليمان وكل مجده وكل حكمته وترتيب البيت العظيم الذي بناه كل هذا قد سلب قلبها ولم يبق فيها روح بعد. هكذا العروس هنا تقول إنها لمَّا رأت الحبيب (المسيح) صارت «مريضة حبّا». لأن محبة المسيح إذا أدركناها وإذا عرفناها كما هي، نجدها تفوق طاقة القلب على الاحتمال. 

يقول ق. بولس: «ما لم يخطر على قلب إنسان ما أعده الله للذين يحبّونه، فأعلنه الله لنا نحن بروحه» (۱کو ۲: ۹-۱۰). فقوله «ما لم يخطر على قلب» معناه أنه حب أقوى، حب طاغ أكثر من أي حب خطر على قلب إنسان. إننا نرى في العالم أنواعًا شديدة من الحب وهناك من يحب لدرجة أن يُغمى عليه، لكن يقول ق. بولس إن حبَّ المسيح أقوى من أي حب آخر خطر على قلب إنسان. كما يقول أيضًا: «ما أعدَّه الله للذين يُحبّونه، هذا قد أعلنه الله لنا نحن بروحه!». ونلاحظ دائما أن الروح القدس هو الذي يُعلن لنا محبة المسيح. 

وفي موضع آخر يقول ق. بولس عن محبة المسيح إنها تفوق المعرفة، أي إنها تفوق إمكانيات الإنسان على الإدراك والاستيعاب «وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة» (أف ۳: ۱۹). والكلام هنا عجيب حقًّا. الكلام هنا فيه مُضادة! فكيف نعرف ما يفوق المعرفة؟! ولكن حلّ هذه المُضادة نجده فيما سبق أن قاله: تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن». فالروح القدس الذي نتأيد به بالقوة في إنساننا الباطن هو الذي يحل هذه المُضادة الصعبة ويجعلنا نعرف محبة المسيح مع إنها فائقة المعرفة. 

بدون هذا التأييد بقوة الروح القدس في الإنسان الباطن يستحيل على القلب البشري أن يحتمل هذه المحبة الفائقة لإمكانيات الإنسان. ولهذا فالعروس تطلب «أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح لأني مريضة حُبًّا»، لكي أستطيع أن أحتمل شدة حب المسيح ولوعة هذا الحب الذي قيل عنه: «المحبة قوية كالموت الغيرة قاسية كالهاوية لهيبها لهيب نارٍ لظى الرب» (نش ۸: ٦). 

لهيب محبة المسيح لا يُشابهه إلا نار الرب التي كانت تنزل كالصاعقة على المحرقة فتأكلها، كما في أيام إيليا: «فسقطت نار الرب وأكلت المُحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة» (۱مل ۱۸: ۳۸). 

وتكرّر نزول نار الله على الذبيحة عدة مرات في تاريخ شعب الله في أيام إبراهيم (تك ۱٥: ۱۷)، وهارون ( لا ٩: ٢٤)، وجدعون (قض ٦: ۲۱)، وداود (١أي ٢١: ۲٦) وسليمان :(٢أي ۷: ١) وهذه كلها كانت رموزًا لما وَعَدَ الرب يسوع أن يُحققه روحيًا (لو ١٢: ٤٩). 

مكتوب في أسفار موسى: «الإنسان لا يراني ويعيش» (خر ۳۳: ۲۰)، لأن الله فائق، الله نار آكلة،صعب أن يتواجد الإنسان في مجال هذه النار ويحتفظ بحياته الأولى الطبيعية. ولهذا فإن أبرار العهد القديم عندما كانوا يتواجهون مع الحضرة الإلهية كانوا يختبرون ما اختبره دانيال النبي حين قال: «ولم تبق في قوة، ونضارتي تحوّلت فيَّ إلى فساد ولم أضبط قوةً» (دا ۱۰ : ۸). 

كان الاعتقاد السائد في العهد القديم أن الإنسان إذا تواجه مع الحضرة الإلهية لا بد أن يُصعق بسبب شدة تأثيرها عليه هكذا نسمع عن منوح أنه لما رأى ملاك الرب، أو منظر الرب، قال لامرأته: «نموت موتًا لأننا قد رأينا الله» قض (۱۳: ۲۲). هذا كله بسبب أن الله فائق تماما على إمكانيات الإنسان على الاحتمال. هذا كان في العهد القديم. 

 

أمَّا في العهد الجديد، فقد استُعلن الله لنا. استُعلنت لنا نار الله الأكلة أنها محبة فائقة لكل قياس استعلن الجوهر الإلهي بأنه حُب : «الله محبة». أصبحت هذه النار الآكلة هي محبة الله التي تفوق كل ما سبق وتفاعل به القلب البشري: «ما لم يخطر على قلب إنسان ما أعدَّه الله للذين يُحبُّنه» (١كو ٢: ١٠). 

هذا هو معنى قول العروس: «إني مريضة حُبًّا»، أي إنني تواجهتُ مع الحب الإلهي الذي هو جوهر الله، لأن الله محبة. وهذا هو أيضا معنى قول ق. بولس: «محبة الله تحصُرنا» (۲كوه : ١٤). بمعنى أن شدة محبة المسيح التي عرفناها أصبحت تحصرنا، وصار قلبنا منحصرًا فينا بسبب لوعة هذا الحب. 

ويقول ق. بولس أيضًا في مكان آخر: «لأني لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا» (١كو ٢: ٢). بمعنى أن حب المسيح الذي قاده إلى أن يموت من أجلنا قد أصبح متسلّطاً على عقل ق. بولس بحيث أنه جعل كل معرفة أخرى تتضاءل وتفقد أهميتها أمام هذه الحقيقة العظمى محبة المسيح الفائقة المعرفة. 

هذا هو إذن معنى قول العروس: «أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح لأني مريضة حبَّا». فترجمتها هي «تتأيدوا بالقوة بروحه لتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة» (أف ۳: ۱٦ ، ۱۹). فالعروس هنـا تطلـب قـوة الـروح القدس وإنعاش الروح القدس من المسيح لكي تستطيع أن تحتمل شدة حبه. 

أمَّا إن كنَّا لا نتفاعل مع حب المسيح، وإن كنا لا نشعر بهذا الانحصار الذي يتكلم عنه ق. بولس أمام حب المسيح، فهذا دليل على أننا لم ندخل بعد إلى معرفة محبة المسيح الفائقة المعرفة. هذا يعني أننا ما زلنا عائشين على الشاطئ ولم ندخل بعد إلى العمق. 

«شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني» (٢: ٦) 

شمال المسيح ويمينه هما اللذان بهما يُحيط بي. وشمال المسيح هي ناسوته، اتضاعه إخلاؤه الذي أوصله إلى أن يضع ذاته تحتنا. من أجل ذلك تقول العروس «شماله تحت رأسي». لقد وضع المسيح نفسه في الموضع الأخير من البشرية لكي يقدر أن يحمل كل إنسان… فأي إنسان مهما بلغ بؤسه وشقاؤه يجد أن المسيح قد وضع نفسه تحته وجعل نفسه أقل منه لكي يحمله! 

هذه الحقيقة هي بعد أساسي في تجسد المسيح، فهو «لم يأتِ ليُخدم بل ليخدِمَ وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين» (مت ۲۰: ۲۸). وغسل الأرجل لم يكن حادثة عابرة في حياة الرب، ولكنه كان عملاً مُعبرًا عن غاية مجيء المسيح إلى الأرض: أن يضع نفسه عند أقدام البشرية لكي يرفع البشرية إلى الآب، ويُقدِّمها إليه. 

حقًّا إن غسل الأرجل يُعبّر عن سمة عجيبة جدًا جدًا في شخصية الرب. نحن نقرأ عنها في إنجيل الخدمة الثالثة من نصف الليل دون أن تلاحظها فهذا الإنجيل يوحي بأن الرب لن يتخلى عن روح غسل الأرجل في الأبدية السعيدة، وبهذه الروح سيُقدِّم للصديقين مجازاتهم في الحياة الأبدية. سيكون حب المسيح لنا في الحياة الأبدية بروح غسل الأرجل. يقول هذا الإنجيل: «طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين الحق أقول لكم إنه يتمنطق ويُنْكِتُهم ويتقدَّم ويخدمهم» (لو ۱۲: ۳۷). 

هذا يعني وكأن المسيح سيربط وسطه بمنشفة مرةً أخرى، كما فعل يوم خميس العهد، ويُتكِتُنا، أي أنه يجعلنا نحن نرتاح ويقوم هو ليخدمنا : « ويتقدم ويخدمهم». طبعا هذا الكلام لا يُقصد منه المعنى المادي، بل المعنى الروحي. فما هو معنى أن المسيح يُريحنا ويتكتنا ويقوم ويخدمنا إلا أنه يمتص منا كل السلبيات التي فينا؟ فكل القاذورات التي فينا سيمتصها منَّا ويُعطينا عوضا عنها قداسته وحياته الأبدية، لأنه [هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له]. 

هذا هو معنى «شماله تحت رأسي». إنه وضع نفسه تحتنا لكي يسندنا ويأخذ منا سلبياتنا ويرفعنا إلى السماء. إن شماله تُعبّر عن ناسوته واتضاعه ووضعه لذاته تحتنا. فما هو معنى «يمينه تُعانقني»؟ 

«ويمينه تُعانقني» 

يمينه تعني لاهوته ورفعته. لاحظ بتدقيق قول العروس هنا: «تعانقني». العبارة الأولى «شماله تحت رأسي» تعني أنه وضع نفسه تحتنا، بينما الثانية «يمينـه تُعانقني» تعني أنه يُحيط بي. لماذا؟ لأن اللاهوت حاضر في كل مكان. اللاهوت يُحيط بنا من كل جهة. حبُّ المسيح الإلهي يُحيط بنا، يُعانقنا. 

يقول المزمور: «أمَّا المُتوكَّل على الرب فالرحمة تُحيط به» (مز ۳۲: ۱۰). هذا يُعبّر عن الحب الإلهي الذي يُحيط بنا و «يحصرنا» (٢كوه : ١٤). بل إن جسد الرب بسبب اللاهوت المُتحد به صار يملأ السماء والأرض، «صعد فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» (أف ٤: ١٠)، صار يُحيط بنا ونحن مغمورون فيه. إنه هو نفسه حقيقة أورشليم السمائية، وهو نفسه «السماء الجديدة والأرض الجديدة اللتان يسكن فيهما البر» (۲بط ۳: ۱۳؛ رؤ ۲۱: ۱)، وهو نفسه «مسكن الله مع الناس» (رؤ ۲۱: ۳). فهذه كلها مرادفات لمعنى واحد، وهـو الجسد الإلهي الذي يملأ السماء والأرض. 

هذا هو الجسد الإلهي الذي صار يملأ الكل، الذي «صعد فوق جميع السموات لكي يملأ الكل، وكأنه تمدَّد بأبعاد الكون وما يفوق الكون المعروف لكي يملأ الكل. 

هذا هو معنى «يمينه تُعانقني» وهو أيضًا معنى عبارة «في المسيح» التي تتكرر في رسائل بولس الرسول أكثر مئة مرة بمرادفاتها: «في المسيح»، «في الرب»، «في يسوع»، «فيه». وهي تأتي بكثرة ليس فقط في السياق اللاهوتي العقيدي، بل وأيضًا في أبسط الكلام العادي، وهذا دليل على أنها في اعتبار ق. بولس كانت حقيقة ينبغي أن تملأ الحياة اليومية العادية. فنجدها بكثرة حتى في السلامات والتحيات، ففي التحيات التي في آخر الرسالة إلى رومية تتكرر أكثر من عشر مرات: «سلّموا على… العاملين معي في المسيح يسوع، وعلى … وقد كانا في المسيح قبلي… وعلى حبيبي في الرب، وعلى … الكائنين في الرب، وعلى … التي تعبت كثيرًا في الرب». وهذا طبعا بخلاف تكرار هذه العبارة بكثرة في الكلام اللاهوتي. فكل شيءٍ قد أُعطي لنا «في المسيح»: الاختيار السابق في المسيح التبني في المسيح الانجماع الكلي في المسيح، الخليقة الجديدة في المسيح. فكل نعمة في العهد الجديد أُعطيت «في المسيح». 

هذا هو معنى الجسد الإلهى الذي يملأ السماء والأرض، الذي تشير إليـه العروس في قولها: «يمينه تُعانقني»، أي تُحيط بي من كل جهة وتغمرني في كل وقت. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى