في هذا الفصل نتحدث عن معمودية الأطفال ومن ثم نتطرق إلى الحديث عن الإشبين، ثم عن مفهوم الخطية الجدية عند آباء الكنيسة.
أولاً: معمودية الأطفال
وضعت الكنيسة لمعمودية الراشدين شرط الإيمان أولاً لجواز معموديتهم، ولم تخل بهذا الشرط عينه عند تعميد الأطفال المنتمين إلى الكنيسة على إيمان آبائهم، الذين سبق لهم أن أعلنوا إيمانهم، ويرغبون الآن ألا يُحرم أولادهم من ثمرة إيمانهم الذي سبق أن أعلنوه.
وربما تكون معمودية الأطفال بغير ذي معنى إن كانت الكنيسة تعمد أي أطفال، ولكن إن كانت تفحص أولاً سلامة إيمان ذويهم أو المسؤولين عنهم كشرط لتعميدهم فلا غرابة في ذلك.
والمقابلة التي يذكرها القديس بولس الرسول مقارناً فيها بين الختان والمعمودية (كولوسي 2: 11، 12) لها مدلولها الواضح. فالمعروف أن الختان بدأ بإبراهيم وشمل كل الذكور «ابن ثمانية أيام يُختتن فيكم كل ذكر في أجيالكم» (تك 17: 12). وعن المعمودية يقول: «و به أيضاً ختنتم ختاناً غیر مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح… مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضاً معـه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات» (كولوسي 2: 11، 12). فكما أن المعمودية هي ختم العهد الجديد، فالختان هـو ختم العهد القديم (رومية 4: 11). وهناك كان الختان يُعطى على أساس ما سيأتي، كان الطفل يُختن لأنه سيفهم فيما بعد، فالختان كان يُعطى لكل من يولد لإبراهيم، ليدخل في عهد الختان، هنا معمودية الأطفال واضحة.
فلأن المعمودية مثل الختان من حيث كونها ختم مختاري الله ليصيروا أعضاء في شعبه، فهي تمنح فقط لأولئك الذين تتحقق الكنيسة من أنهم يحملون فعلاً إحدى علامات اختيارهم ففي معمودية البالغين تكون هذه العلامة هي اعترافهم بالإيمان، أما معمودية الأطفال فهي عهدهم المقدس من خلال والديهم، وفي هذه الحالة الأخيرة، فإن المعمودية مثل الختان تسبق إدراك الإيمان وتتقدم عليه. «لأن الرجل غير المؤمن مقدَّس في المرأة المؤمنة، والمرأة غير المؤمنة مقدَّسة في الرجل، وإلا فأولادكم نجسون. وأما الآن فهم مقدَّسون» (1كو 7: 14).
ثم أن الراشدين أنفسهم لم يكن يُطلب منهم سوى إعلان الإيمان قبل معموديتهم كشرط لها، ولكنهم لم يكونوا يدركون كل الإيمان أو يستوعبون أعماقه، وهو ما كان يستغرق منهم كل حياتهم بعد معموديتهم. وهكذا الأمر بالنسبة للأطفال، فليس الفهم الكامل للإيمان هو شرط معموديتهم، لأنه أيضاً (أي الإيمان) ثمرة من ثمراتها (أي المعمودية)، لأن نمو الإنسان في معرفة المسيح والكنيسة لا يكون إلا بالروح القدس الذي نناله في سري المعمودية والميرون، فبالروح القدس نعرف المسيح رباً ومخلصاً وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس (1كو12: 3)، وبالمسيح نقترب إلى الآب «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (يوحنا ٦:١٤).
هذا النمو المتنامي دائماً هو :
إيمان بالمسيح وفيه «ننمو في كل شئ إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح أفسس ١٥:٤ و ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا… وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتثلوا إلى كل ملء الله» (أفسس ۱۹-۱۷:۳) . وهو ما يستغرق منا كل الحياة.
وإيمان بالكنيسة ومن داخل الحياة فيها إيمان تغذيه الأسرار الكنسية، التي هي نبع القوة فيها، ومضمون إيمانها ومحتواه.
لم يرد في العهد الجديد تعليم واضح عن معمودية الأطفال ولكنها كانت أمراً شائعاً تعرفه الكنيسة المسيحية منذ أيام الرسل القديسين. ففي أكثر من مناسبة خاصة بالمعمودية ذكرت عبارة “أهل البيت مثل بیت کرنيليوس، وبيت ليديا ، وبيت سجان فيلبي ، وبيت كريسبوس، و بيت كريسبوس، و بیست اسطفاناس. والاحتمال الغالب هو وجود الأطفال في بعض تلك البيوت إن لم يكن في كلها.
ولقد كان الوعد بغفران الخطايا وقبول عطية الروح القدس هو للمؤمنين ومعهم أولادهم، فيقول بطرس الرسول: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم الرب يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس… لأن الوعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين على بعد كل من يدعوه الرب إلهنا» (أعمال ۳۹،۳۸:۲).
١٦١
والقديس يوستينوس الشهيد (١٠٠ – ١٦٥م) في دفاعه الأول الذي كتبه ما بين سنة ١٤٠ – ١٥٠م، يتحدث عن المسيحيين الذين صار لهم آنند ستون أو سبعون سنة منذ أن تتلمذوا للمسيح في طفولتهم فيقول :
[وكثيرون من الرجال والنساء الذين اعتمدوا في المسيح منذ الطفولة، ظلوا أنقياء بعد عمر ستين أو سبعين سنة، وأنا أعتز أني أوضح هذا الأمر لكل جنس البشر] .
وهذا ما يؤكد لنا أن كثيرين فيما بين سنة ۷۰ – ۹۰م، كانوا يُعمدون منذ الطفولة، وهو زمن ملاصق لعصر الآباء الرسل أنفسهم. وهو أيضاً ما يذكرنا بقول القديس بوليكاربوس الشهيد (٦٩- ١٥٥م)، قبيل استشهاده أنه عبد للمسيح منذ ٨٦ سنة. وهو نفسه الذي قال في واحدة من رسائله :
[المعمودية هي للجميع، وخصوصاً للأطفال الصغار] (رسالة ٥٩).
ويقطع القديس إيريناؤس (۱۳۰- ۲۰۰م) أبو التقليد الكنسي في ذلك الأمر بقوله:
[أتى يسوع ليخلص الجميع، أي الذين ولدوا ثانية سواء كانوا أطفالاً أو شباناً أو شيوخاً]
(ضد الهراطقة ٩:٢٢:٢)
والكنيسة القبطية لديها شهادات كثيرة قديمة تؤكد وجود معمودية الأطفال في هذه العصور المبكرة في مصر.
فالعلامة أوريجانوس المصري (١٨٥ -٢٥٤م) الذي ولد من أبوين مسيحيين عن أجداد مسيحيين يقول في تفسيره للرسالة إلى أهل رومية:
[ استلمت الكنيسة من الرسل تقليد منح المعمودية أيضاً للأطفال] .
وفي عظته الثامنة على سفر اللاويين يشير إلى معمودية الأطفال كعادة مستقرة في زمانه استلمتها الكنيسة من الرسل القديسين.
والعلامة ديديموس الضرير (۳۱۳ -۳۹۸م) اللاهوتي الخطير ومدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، يقول في معرض حديثه عن الثالوث:
[جعلت المعمودية الجميع إخوة دون تمييز بين من هم صغار بالميلاد، أو كبار في السن].
ويقول القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات (۳۲۹ – ۳۸۹م):
[ألك طفل؟ فلا يسوده الشر حيناً، بل ليتقدس وهو رضيع، ويُكرّس للروح منذ نعومة أظفاره، أيتها الأم إنك ترهبين الختم لضعف الطبيعة، ذلك لأنك ضعيفة النفس وقليلة الإيمان. لكن حنة قبل أن تلد صموئيل وهبته للرب، وحال ولادته كرسته ونشأته بحلة كهنوتية، ولم تخف من الضعف البشري، بل آمنت بالله.]
وهكذا يحتفظ لنا التقليد منذ القرن الثالث الميلادي، بأن الأطفال الذين يولدون من أبوين مسيحيين كانوا يقبلون المعمودية.
ويشهد القديس أغسطينوس (٣٥٤ – ٤٣٠م) بالقول:
[إن الكنيسة تتمسك دائماً بتعميد الأطفال متسلمة إياه من إيمان السلف، ولم تزل حافظة له إلى الآن، وسوف تحفظه إلى الانقضاء أيضا] (خطاب ١٧٦).
وهذه الشهادات الكثيرة نراها أيضاً في المراسيم الرسولية (منتصف القرن الرابع) والقديس أمبروسيوس (۳۳۹ – ۳۹۷م)، والقديس يوحنا ذهبي الفم (٣٤٧ – ٤٠٧م)، وفي المؤلفات المنسوبة إلى ديونيسيوس الأريو باغي (القرن الخامس)، وكثيرون غيرهم.
ومنذ منتصف القرن الخامس الميلادي شاعت معمودية الأطفال وطغت ممارستها واستعمالها في الكنيسة الجامعة.
أما العلامة ترتليان (١٦٠-۲۲٥م) ، فكان ضد معمودية الأطفال، إذ حرَّض على تأجيل معموديتهم حتى يمكنهم التعرف على المسيح، على الرغم مما ذكره الإنجيل المقدس «دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات» (متى ١٤:١٩). وكذلك تأجيل معمودية البالغين غير الناضجين روحياً، لأنه كان يعلم بصعوبة أو استحالة غفران الخطايا التي تُرتكب بعد المعمودية، وهو نفس التعليم الذي علّم به “كتاب عهد الرب“ (القرن الخامس) والذي حظى في الشرق بانتشار واهتمام بالغين، قد أثر تأثيراً العواقب، إذ دفع كثيرين إلى تأجيل معموديتهم إلى قرب ساعة احتضارهم كما فعل الإمبراطور قسطنطين على سبيل المثال.
وابتداءً من القرن الخامس تقريباً، وحينما أصبحت معمودية الأطفال من الأمور الشائعة العادية، والغالبة في ممارسة السر، تقهقر طقس قبول الموعوظين وإعدادهم، وحذفت الوصايا والتعاليم التي كانت تعطى لطالب المعمودية، البالغ السن. أما طقوس حجدِ الشيطان والاعتراف بالمسيح، والمسح بالزيت، فقد صارت طقوساً مختصرة، يُستهل بها خدمة سر المعمودية.
وفي الكنيسة الأرمنية فقد تثبتت لديهم عادة تعميد الأطفال في اليوم الثامن بعد ولادتهم منذ القرن الثامن الميلادي بواسطة الكاثوليكوس يوحنا أسقف أودسون Jean d’Odsun. ولقد كان سبب تأخير ظهور معمودية الأطفال في الكنيسة الأرمنية هو وجود مذهب البولسيين، الذي ظهر وانتشر في أرمينيا.
واليوم صارت الكتب الطقسية الخاصة بالعماد في كافة الكنائس الشرقية، ومعها الكنيسة القبطية تخدم معمودية الصغار فقط، لا الكبار.
أما الصلاة التي يقول فيها الكاهن “أيها السيد الرب يسوع المسيح … طهّر هؤلاء الأطفال الذين جاءوا ليكونوا موعوظين…” فيجب أن تفهم على سبيل المجاز، لأنه بعد سطور قليلة تالية لهذه الصلاة نقرأ: امنحهم غفران ،خطاياهم، وأعطهم نعمتك أن يُشفوا الخطية المميتة، مما يتضح معه أن نص الصلاة كان في الأصل لموعوظين بالغين، ثم عُدّل ليناسب الأطفال. وفي كل الصلوات اللاحقة تحت عنوان: صلاة على الموعوظين”، يتضح أنها من أجل ،راشدين وليس لأجل أطفال.
ولقد فرضت الكنيسة تأديباً على الوالدين إذا أجلا عماد طفلهما، سواء لإهمال منهما أو بسبب نذر العماد في مكان معين أو على يد كاهن معين، فمات الطفل دون عماد، والتأديب الكنسي قانونه الصوم والحرمان من شركة الأسرار المقدسة لمدة سنة كاملة.
وتذكر قوانين البابا كيرلس بن لقلق (١٢٣٥ – ١٢٤٣م): “من أمكنه العماد اليوم فلا يؤخره إلى غد بسبب غيبة والد، أو صديق أو ملبوس، أو كاهن معظم أو عمل فرح. فمن أخره إلا لضرورة قاطعة فإن الله سيدينه (۲۱). وفي قوانينه أيضا: “لا تغيّر العوائد المستقرة في البيع القبطية، كالختان قبل التعميد ما لم تقطعه ضرورة … الخ”.
ومنذ القرن الرابع عشر في الكنيسة القبطية لدينا تعليمات تختص بمعمودية الأطفال وهي: “إذا عُمد صغير، فلا يُسقى لبن أمه ولا غيرها إلا بعد تناول القربان فإنه إن شرب لبن أمه امتنع من القربان، ولا يجب معموديته بلا ،قربان فتحرزوا من ذلك.
وإذا كان المعمد طفلاً مرضعاً، فيُقدم قداس السراير عندما يبتدىء بخدمة المعمودية لكي يكون فراغهما معاً، فيُعمد ويُقرَّب قبل رضاعه من لبن أمه ويجب أن تحترزوا في ختان أولادكم، ولا تعمدوا إلا من قد ختن فإنه لا ختان بعد المعمودية”
وفي الكنيسة الشرقية يتبع المعمودية مباشرة، منح سر الميرون المقدس، ثم سر الإفخارستيا – كما كان الطقس القديم منذ عصر الآباء الرسل – حتى بعد أن تعمَّمت معمودية الأطفال. أما في الغرب فقد أُرجئ منح هذين السرين الأخيرين حتى سن الإدراك باستثناء حالات الخطر، وذلك منذ زمن القديس القديس أغسطينوس (٣٥٤ – ٤٣٠م) الذي يعتقد أن الأطفال لا ينبغي أن يقتربوا إلى المائدة المقدسة، لأنهم لا يقدرون بعد على اختبار أنفسهم (۱كورنثوس ۲۸:۱۱)
ويتضح من هذا التعليم التضاد بين المنع من سر الإفخارستيا لعدم القدرة على اختبار النفس، ومنح سر المعمودية، في نفس الحالة من عدم القدرة على اختبار النفس أيضاً. لأن اختبار النفس قبل التقدم للأسرار هو للراشدين الذين صاروا يميزون بين الخير والشر، ليس من جهة أهلية تلك النفس للتقدم للأسرار، بل من جهة منتهى احتياجها إليها، والفرق شاسع بين الحالتين. أما الأطفال الأبرياء فالرب نفسه هو الذي أمر بقوله : «دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات» (متی ١٤:١٩)، فإن لم يأتوا إليه في سر جسده ودمه الأقدسين على المذبح، فكيف يأتون إليه؟ والقديس أغسطينوس نفسه هو الذي قال:
[إننا نؤمن ونصدق بتقوى وصواب أن إيمان الوالدين والأشابين يفيد الأطفال، وعلى هذا الإيمان يعتمدون] (رسالة (۳:۱۹۳).
وفي سنة ١٩٦٩م وضعت الكنيسة الكاثوليكية بعض القيود على معمودية الأطفال إذا كان والدا الطفل مسيحيين بالاسم فقط، وأن تربية الطفل في الحياة الكنسية معرّضة للتعوق، فترجاً معمودية الطفل في هذه الحالة أو ترفض لحين تلقين الوالدين التعليم الكنسي الكاثوليكي. وجدير بالذكر أن هذه التعليمات الحديثة قد لاقت مقاومة من بعض اللاهوتيين الغربيين أنفسهم.
أما المعمدانيين والبروتستنت عموماً فلا يعترفون بمعمودية الأطفال، قائلين إنها بلا سند من الكتاب المقدس، وهي والحالة هذه لا تكون سوى مراسيم أو فرض كنسي ، ولكن ليست سراً كنسياً، لذلك فهي لا تستطيع أن تنقل هبة أو نعمة روحية لمتقبل غير مدرك لها ولأن الكنيسة البروتستنتية لا تعترف بالتقليد المقدس إلى جانب الكتاب المقدس، فليست هناك أرضية مشتركة للحوار في هذا الشأن.
ثانياً : الإشبين أي العراب
معمودية الأطفال تقودنا بالضرورة للحديث عن “الإشبين” أي “العراب” و”الإشبين” كلمة سريانية تعني “الوصي أو الحارس”، ويقابلها كلمة “العراب” في اللغة العربية. أما الكلمة اليونانية المقابلة فهي تعني “ضامن” المدين أو المتكفّل بالمدين.
والإشبين هو الذي يشهد لمن قدمه إلى المعمودية أنه يستحقها، فنقرأ في التقليد الرسولي (دُوّن قبل سنة ۲۱٥م): “وعندما يختار من ينالون المعمودية، فلتفحص حياتهم، هل عاشوا بتقوى عندما كانوا موعوظين؟ وهل أكرموا الأرامل؟ وهل عادوا المرضى واكملوا كل شئ حسنا؟ فإذا شهد لهم الذين أتوا بهم أنهم فعلوا هكذا فليسمعوا الإنجيل“ (٢،١:٢٠).
وهو ما يتضح معه أن “الإشبين» كان ضرورياً للكبار، كما هو للصغار أيضاً، وهو للكبار بمثابة المعلم الكنسي، والأب الروحي للمعمد، والذي يقوده في الطريق الروحي بعد المعمودية، ولكنه لا يجيب عنه في أثناء مراحل طقوس التعميد وهو ما يؤكده كتاب “الرئاسات الكنسية ٨:٢” المنسوب لديونيسيوس الأريو باغي.
أما للصغار فهو المسؤول عن تربية ابنه أو ابنته في المعمودية، وهو لا يتدخل في تكميل أو تتميم مراسيم المعمودية نفسها، سوى سوى أنه يجيب نيابة عن الطفل الذي يمنعه سنه من الكلام أو الإدراك، وذلك في طقس جحد الشيطان، والاعتراف بالإيمان أما الشمامسة فهم الذين يعود إليهم مهمة مساعدة الكاهن في مراسيم التعميد لاسيما لحظة التغطيس في الماء.
أما الشماسات فلا ذكر لهن في مراسيم التعميد سوى في كتاب عهد الرب، وهو الكتاب الذي يصف مراسيم المعمودية في الطقس السرياني.
وكان اسم المعمَّد يُكتب مع اسم العراب الذي كفله، تأكيداً لمسؤوليته الروحية. ونظرا لهذه القرابة الروحية بين الإشبين وابنه أو ابنته في المعمودية، فقد منعت قوانين الإمبراطور جوستنيان (٤٨٣ – ٢٥٦٥) الزواج بينهما.
ولقد أكد التقليد الكنسي على ضرورة اختيار الوالدين إذا كانـا يصلحان، وإلا فاختيار عراب من نفس الجنس، راشداً مشهوداً له بالحكمة والتعقل، عارفاً بقواعد الإيمان والأسرار، ذا تقوى متحلياً بالفضائل
والتقليد المصري يحدد أن يكون الإشبين أحد الوالدين أو أحد أفراد العائلة. وهو ما نقرأ عنه في كتاب التقليد الرسولي : ” وليعمدوا أولاً الأطفال الصغار، ومن يقدر أن يتكلم عن نفسه فليتكلم. ومن لا يقدر ، فليتكلم آباؤهم عنهم، أو واحـد مـن أهلهم” (٤:٢١ ). ذلك لأن الذي يجيب عن الطفل في المعمودية لابد أن يكون هو إشبينه المتكفل به، وهو المسؤول عنه أمام الله وكذلك القانون ۱۰۵ من قوانين القديس باسيليوس الكبير (۳۳۰ – ۳۷۹م)، والتي يُظن أنها قوانين مصرية الأصل موطناً وتأليفاً، تحدد الأب أو الأم أو الأخ إشبيناً للمعمد.
وفي حديث عن المعمودية للقديس يوحنا ذهبي الفم (٣٤٧ –٤٠٧م) يوجه كلامه إلى العرابين فيقول:
[أترغبون في أن أوجه كلمة إلى عرابينكم، ليعرفوا هم أيضاً أية مكافأة يستحقون إن أظهروا عناية فائقة بكم؟ وأية إدانة ستلحق بهم إذا تهاونوا؟ فكروا ملياً أيها الأحباء، بأولئك الذين يكفلون شخصاً في أمور مادية كيف يصبحون مسؤولين قانونياً عن كفالتهم. فإذا كان المدين خير الطبع، فإنه يخفف الحمل عن كفيله، أما إن كان سيئ الطبع فإنه يُعرّضه للخطر. ولذا ينصحنا الحكيم قائلاً: «من يجعل نفسه ضمانة، فليفكر وكأنه سيدفعها» (سيراخ ۱۳:٨).
وإذا كان الذين يكفلون غيرهم فيما يخص المال يجعلون أنفسهم عرضة لدفع قيمة الضمانة كلها، فيجب على الذين يكفلون غيرهم فيما يخص الروح ويتعلق بالفضيلة، أن يكونوا أكثر تيقظاً. عليهم أن يُظهروا محبتهم الأبوية بتشجيع أولئك الذين يكفلونهم ونصحهم وتأديبهم، وألا يظنوا أن ما يحدث هو أمر بسيط، بل عليهم أن يعلموا أنهم مشاركون لفضيلة أولئك الذين ائتمنوا على قيادتهم في الطريق، وفي المقابل معرضون لعقاب شديد إذا تهاون أولئك الذين ضمنوهم.
ولذا جرت العادة أن يُسمى العرابون آباء روحيين”. فإذا كان من النبل أن نقود إلى حماسة الفضيلة أولئك الذين لا يمتون إلينا بصلة، فبأي مقدار يجب أن نتمم هذه الوصية نحو من هو ابن روحي لنا] (التعليم عن المعمودية 2: 15، 16)
ويعقب الأب فين Finn على القول السابق بقوله: “إن قبول العراب للمعتمد بوصفه إبناً له، كان يرمز بوضوح إلى مسؤوليته عن متابعة نمو ابنه في الفضيلة المسيحية بعد المعمودية، ومن سوء الحظ، لا يتكلم ذهبي الفم بوضوح عن مسؤولية العراب قبل المعمودية. ولكن يظهر من التعليمات أن العراب كان يشهد لخلق المرشح وأحواله وحياته، لدى تسجيل اسمه، وأن العرابين والمرشحين للمعمودية يستمعون إلى التعليم سوية. يضاف إلى ذلك أن العراب كان يقوم بدور مهم في البناء الروحي للمرشح خلال فترة موعوظيته، وربما كان له دور أيضاً في تثقيفه عقائدياً وليتورجيا»
وكتب الأب فين Finn يقول : اشتدت الحاجة إلى العرابين، وخصوصا منذ بداية القرن الرابع الميلادي بسبب ازدياد أعداد المقبلين إلى الكنيسة ازدياداً كبيراً. ولم يكن في إمكان ممثلي الكنيسة في المدن الكبرى مثل أنطاكية أن يعرفوا خلق المرشحين العديدين الراغبين في المعمودية أو طباعهم، ولم يكن في إمكانهم توفير الاهتمام الخاص والضروري من أجل تربية مسيحية كاملة. وهكذا فإن العراب إضافة إلى كونه كفيلاً، صار معلماً ومرشداً أيضاً”.
ويقول ثيودور الموبسويستي ( ٣٥٠ – ٤٢٨م)
[أما أنت أيها المقبل إلى المعمودية، فاعلم أن شخصاً يُعيّن في الوقت المناسب يدوّن اسمك في سفر الكنيسة، وإلى جانبه اسم عرابك الذي يُسأل عنك، ويصير مرشدك في المدينة، ودليل مواطنتك فيها، ويحدث هذا لتعرف قبل الأوان، وأنت ما زلت على الأرض، أنك مسجل في السماء، وأن عرابك المقيم فيها لديه الاهتمام الكافي ليعلمك، أنت الغريب عن تلك المدينة (أي السماء)، والقادم إليها حديثاً، كل ما يختص بها، وبالمواطنة فيها، لكي تصير ملماً بحياتها دونما حرج أو قلق…] (في المعمودية: (١٢)
وفي الطقس القبطي، يوصي الكاهن والدي المعمدين أو أشابينهم في ختام صلوات طقسي المعمودية والميرون قائلاً:
“اعلموا أيها الإخوة المباركون مقدار هذه الكرامة التي نالها أولادكم الذي عُدّوا من المختارين، والنعمة التي أسبغت عليهم، وصاروا جملة المسيحيين بالصبغة الطاهرة التي أمر بها مخلص العالمين… فاليوم يا أحبائي صار أولادكم وارثين الحياة مع السيد المسيح… ألم تسمعوا الكلام المخوف المرهوب الذي قيل لكم عن المعمودية المقدسة؟ ألم تجيبوا عن أولادكم قائلين: نجحدك أيها الشيطان وكل أعمالك النجسة؟ ألم تقبلوا بهم إلى الشرق، وتخضعوا للرب قائلين: نؤمن بإله واحد؟ فالآن يا أحبائي، إعلموا أنكم تسلمتم أولادكم من المعمودية المقدسة الطاهرة الروحانية، وأنه يطالبكم بهم إذا غفلتم عنهم، وعن تأديبهم وردهم عن الأمور غير المرضية.
اجتهدوا في تعليمهم تلاوة الكتب المقدسة التي هي أنفاس الله وملازمة الكنيسة باكر وعشية، وصوم يومي الأربعاء والجمعة والأربعين المقدسة وكل الأصوام، والقوانين الكنسية، والأوامر الرسولية، فإنهم من الآن صاروا مستحقين التناول من الأسرار المقدسة الإلهية، التي هي جسد ودم ابن الله المسفوك عن خلاص البرية.
احتفظوا بأولادكم ولا تمكنوهم من المضي إلى الأماكن غير المرضية، لكي يحرسهم الرب من الرب من التجارب الشيطانية. ازرعوا فيهـ الخصال الجميلة، وازرعوا فيهم البر والتسبيح ازرعوا فيهم الطهارة والطاعة والمجد والقداسة… الرحمة والصدق والعدل… التقوى والصلاح والصبر …
وأنتم أيها الأشابين المباركون والإخوة الأنقياء الأمناء… إعلموا أنكم قد صرتم بهذا العماد كفلاء ،وضامنين، وأنتم منذ اليوم والديهم الروحانيون والمطلعون على أسرارهم، والمتولون عن أوزارهم والمشاهدون كل يوم جميع أحوالهم، فأنتم من اليوم مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم. وقد ضمنتموهم من السيد المسيح ضماناً صحيحاً … لتجاوبوا عنهم في يوم الدين وتسلمتم هذه الوديعة بمقتضى الشريعة، وقد شهد عليكم كهنة الله والكنيسة لتجتهدوا في تعليمهم بالأدب والوقار وتعلّموهم طرق الله الخفية ….
ولقد أصبح دور العراب الآن في طقس المعمودية شكلياً، ففي الغالب تقوم أم الطفل بدور الإشبين لطفلها، حتى وإن كانت تجهل حقائق الإيمان، ولا ينطبق عليها الشروط التي وضعتها الكنيسة لاختيار العراب. فتقتصر وظيفتها على فترة الخدمة الليتورجية لسر المعمودية وحسب. والنتيجة هي؛ أن كل الأطفال المولودين من أبوين مسيحيين يعتمدون في الكنيسة بلا استثناء تقريباً، لكن ما أقل من يلازم الكنيسة منهم بعد إدراكهم وبلوغهم، فالإحصائيات تقول إن نسبة المواظبين على صلوات الكنيسة وقداساتها بين الأقباط لا تتعدى ۲۰٪ من مجموعهم.
إن الجهاد الشديد الذي يبذله الخدّام والرعاة في اجتذاب النفوس – لا أقول غير المؤمنة، بل المؤمنة اسماً – للمسيح والكنيسة، كان يمكن توفيره إن تربّى الطفل في رعاية إشبين أو عراب صحيح الإيمان، يحيا الكنيسة، فالخمس سنوات الأولى من عمر الطفل هي أخطر سني حياته، إذ عليها ينبني مستقبله كله. فلقد تأكد بما لا يترك مجالاً لجدال، أن حياة الإنسان بجملتها روحية كانت أو نفسية أو اجتماعية، تتشكل بتدقيق في السنوات الأولى من عمره. ولا يمكننا أن ندعي أن خدمة مدارس الأحد والتي يحضر فيها الطفل في حدود الخامسة أو السادسة من عمره، ولمدة ساعة أو ساعتين في الأسبوع، يمكنها وحدها أن توجه حياة الطفل توجيهاً عميقاً، وتخط فيه سمات شخصيته، وإنما هو البيت.
هذا هو حجم التبعة الملقاة على عاتق الأم التي صارت إشبين طفلها، فأي جواب تجيبه إن لم تربي طفلها في مخافة الله وحب الكنيسة. ومن جهة أخرى لا يمكننا أن نغفل تغاضي الكنيسة في كثير من الحالات في البحث عن أهلية الأم كعرابة لطفلها. إن الأمر جد خطير لأن أمهات اليوم هن كنيسة الغد.
ثالثاً: الخطية الجدية
معمودية الأطفال تقودنا أيضاً للحديث عن الخطية الجدية، أو الخطيَّة الموروثة، ذلك التعبير الذي ورد بكثرة في اللاهوت اللاتيني وعند الكتاب اللاتين ولاسيما القديس أغسطينوس (٣٥٤ – ٤٣٠م)، أما مفهومه ومعناه وإن لم يغب في الكنيسة الشرقية وعند الكتاب اليونانيين، إلا أنه لم يكن يمثل لديهم تلك الأهمية وذلك الضوء المبهر الذي سُلّط عليه في الكنيسة الغربية.
يفهم كل آباء الكنيسة الشرقية في الشرق المسيحي هذه الوراثة على أنها وراثة للموت والفساد أكثر من كونها وراثة للذنب. فالذنب في مفهومهم – هو نتيجة فعل شخصي، يرتكبه الشخص بكامل حريته. وهو ما يسير جنبا إلى جنب مع رؤيتهم للخلاص على أنه نصرة للحياة على الموت، أكثر منه كفارة قانونية للخطيَّة، فالخوف من الموت هو الوجه الآخر للافتخار بالحياة.
وهناك إشارات في كتابات الآباء الرسوليين (القرن الثاني الميلادي)، إلى منشأ الخطية، وذلك ضمن تعبيرات عامة في معظمها، فالبشرية خاطئة وجاهلة وفي حاجة إلى خلاص ، ولكن الآباء الرسوليين لم يولوا اهتماماً لكيفية وصول البشرية إلى هذه الحالة. ذلك لأن موضوع خطية آدم وانتقال هذه الخطية أو آثارها إلى الأجيال التالية، لم يظهر كموضوع ذي شأن ولا كان مجالاً للجدال حتى بداية القرن الخامس.
فعندما ذكر القديس يوستينوس الشهيد (١٠٠ – ١٦٥م) نشأة الخطية وأسبابها المباشرة، أرجعها عادة إلى نشاطات الشياطين، وفي غير ذلك كان يقرر مسؤولية الإنسان المباشرة عن الخطية، ويبدو واضحاً في حواره مع تريفو (٤:٨٨) أنه ليس له أي اتجاه فكري لموضوع وراثة الخطية. ولسنا نجد عند القديس إيريناؤس (١٣٠- ۲۰۰م) أي إشارة إلى وراثة للخطية.
ومنذ القرن الثالث الميلادي ظهر مفهوم وراثة الخطية الجدية أولاً في الإسكندرية على يد العلامة كليمندس الإسكندري (١٥٠- ٢١٥م)، ومن بعده العلامة أوريجانوس (١٨٥ – ٢٥٤م)، وكذلك من شمال أفريقيا بواسطة العلامة ترتليان (١٦٠ – ۲۲٥م)، والقديس كبريانوس (+ ٢٨٥م)، وإن لم يكن يحمل ذات هذا التعبير “الخطية الجدية” بالذات.
ففي الإسكندرية، قد ميّز العلامة كليمندس الإسكندري – كبقية المؤلفين اليونان – بين الصورة والمثال. وأن الإنسان مدعو ليكون شريكاً في خلاص نفسه عن طريق ممارسة حرية إرادته (المتفرقات ۱۹،۱۲:٦). فالخطية حرية شخصية وفعلية، ولكن مع ذلك ففي كتاباته إشارات عن الاشتراك مع آدم في خطيئته.
أما العلامة أوريجانوس، ففي حديثه عن التطهيرات في معرض تفسيره لسفر اللاويين يقول:
[ يظهر أنه بواسطة الميلاد الجسداني، تأخذ كل نفس صبغة الخطية والإثم… وإلا فلماذا يلزم أن تمنح المعمودية لغفران الخطايا ضمن ممارسة طقسية في الكنيسة حتى للأطفال الصغار؟ فبدون شك، إن لم يكن هناك شئ في الأطفال الصغار يحتاج إلى عفو وغفران فإن نعمة المعمودية تصبح ليست بذي قيمة]
وفي تفسيره لرسالة رومية (١٢:٥ – ٢١) يقول:
[لأن كل البشر كانوا في صلب آدم عندما كان في الفردوس، وعندما طرد منه، وهكذا فإن الموت الذي جناه آدم في معصيته قد انتقل بواسطته إلى جميع هؤلاء الذين في دمه. وهذا ما قاله الرسول: «كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع» ( ١كورنثوس ٢٢:١٥)].
أما القديس كبريانوس الشهيد + (٢٨٥م) أسقف قرطاجنة فلم يتطرق إلى هذا الموضوع بنفس الاستفاضة التي عرض لها ترتليان وربما يكون الاختلاف بينهما هو في التشدد الذي قاد ترتليان إلى المونتانية. ولا ينبغي أن نغفل أن مفهوم الخطية الجدية ظل متأصلاً في كنيسة شمال أفريقيا، حتى أننا نقرأ في القانون ۱۱۰ المجمع قرطاجنة المنعقد سنة ٤١٩م والمعروفة قوانينه باسم “مجموعة القوانين الأفريقية»: «إن كل من ينكر أن يُعمد الأطفال المولودين حديثاً، وكل من يقول إن المعمودية هي لغفران الخطايا، وإن الأطفال لا يرثون من آدم الخطية الجدية التي تحتاج إلى التنقية بحميم الولادة الثانية، ويستنتج من رسم المعمودية لغفران الخطايا للأولاد هو رسم باطل لا ،حقيقي فليكن محروما مما يتضح معه أنه كانت هناك مقاومة لمفهوم وراثة الخطية الجدية” مما استوجب من المجمع وضع قانون للتصدي لها.
ذلك أن
أما عند آباء القرن الرابع، فكان الاهتمام الأول للبابا أثناسيوس الرسولي (٢٩٦ – ٣٧٣م) هو الخلاص، وهو يؤكد أن البشرية فاسدة بحسب الطبيعة ومائته بحسب الطبيعة (تجسد الكلمة ٣:٤) إلا أنه لم يستعمل قط تعبير “خاطئة بحسب الطبيعة». ولم ترد في كل كتاباته أي إشارة لتعبير “الخطيَّة الجدية”.
لم ينشغل البابا أثناسيوس بالخطية – كما فعل القديس أغسطينوس – قدر انشغاله بالخلاص الذي قدَّمه المسيح للعالم. فماذا يهم إن تصارعنا على وجود ما يُسمى “الخطيـة الجديـة» أو عدم وجودها، ألم يصبح الخلاص الذي قدمه المسيح لنا خلاصاً من كل أنواع الخطايا؟
أما القديس كيرلس الأورشليمي (٣١٥ – ٣٨٦م)، فيشير إلى الخطية الجدية في حديث عابر فيقول إن الموت هو النتيجة العامة لسقوط ،آدم والخطية مرتبطة بالموت. أما موضوع انتقال الخطية من آدم إلى نسله فقد ترك بدون فحص ويرى أن فساد الإنسان غالباً ما يكون بسبب خطاياه الشخصية، والتي تغفر في المعمودية.
وبين الآباء الكبادوك، نجد أن الخطية الجدية غير واضحة في عقيدة القديس باسيليوس الكبير (٣٣٠ – ٣٧٩م). إلا أنها واضحة تماماً عند أخيه القديس غريغوريوس النيسي (٣٣٠ – ٣٩٥م)، فهو أقرب الآباء الشرقيين إلى أغسطينوس (٣٥٤- ٤٣٠م)، ذلك لأن المكونات الأساسية لمبادئ أغسطينوس اللاهوتية موجودة في أنثروبولوجيا غريغوريوس النيسي. أما القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات (۳۲۹ – ۳۸۹م) فهو واحد من الآباء الذين تكلموا عن عقيدة وراثة الذنب، إلى جانب وراثة الفساد والموت.
وفي القرن الخامس، يرى القديس أغسطينوس (٣٥٤ – ٤٣٠م) أن عقيدته عن الخطية الجدية هي امتداد للتقليد الكنسي، ليس فقط في قانون الإيمان، ولكن في الأسفار المقدسة أيضاً. وقد أورد خمسة شواهد كتابية لإثبات ذلك اثنان منها من العهد القديم، وثلاثة من العهد الجديد، أوضحها على الإطلاق من رسالة رومية. وهذه الشواهد هي:
+«هأنذا بالإثم صُورت وبالخطية حبلـت بـي أمـي» (مزمور ٥١: ٥).
+ «من يُخرج الطاهر من النجس. لا أحد»، «أصورت أول الناس أم أبدئت قبل التلال (أيوب ٤:١٤، ٧:١٥).
+ «المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح» (يوحنا ٦:٣).
+ «الذين نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا عاملين مشيئات الجسد والأفكار، وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضاً» (أفسس ٣:٢).
+ «من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطيَّة ،الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع» (رومية ١٢:٥).
وبرغم أن القديس أغسطينوس اقتبس على الأقل ثماني مرات عظة القديس يوحنا ذهبي الفم (٣٤٧ – ٤٠٧م)، في تفسيره لرسالة رومية ( ١٢:٥-۲۱)، ليؤكد عقيدته عن الخطية الجدية، إلا أن ذهبي الفم لم يقرر بوضوح أن الخطية نفسها قد ورثت من خلال التناسل، وأنها أصبحت مغروسة في طبيعتهم. إذ كان ذهبي الفم يؤكد مراراً أن الموت وليس الخطيَّة هو الذي انتقل كميراث من آدم.
أما القديس كيرلس الكبير (٤١٢ – ٤٤٤م) فيقول في ذلك:
[كيف جعل الكثيرون خطاة من خلاله؟ لماذا وقع عصيانه علينا؟ وكيف أن كل هؤلاء الذين لم يولدوا يُحكم عليهم فيه؟ فلدينا هذا القول الإلهي: «لا يُقتل الآباء عن الأولاد، ولا يُقتل الأولاد عن الآباء. كل نفس بخطيتها تقتل» (تثنية ١٦:٢٤) فما التفسير لذلك؟
أليس حقاً أن النفس التي تخطئ هي نفسها التي تموت، لأننا جميعاً خطاة من خلال عصيان آدم. فقد جبل آدم أولاً على الحياة وعدم الفساد، والأكثر من ذلك، فإن الحياة التي عاينها في فردوس النعيم هي تلك التي تناسب القديسين. إذ كان عقله يختطف دائماً في رؤية الله، وكان جسده في هدوء كامل، لأنه لم يكن في داخله قابلية للدوافع الغريبة، ولكنه حينما تعرّض للسقوط في الخطيَّة وغاص فيها حتى وصل إلى أعماق الفساد والموت من هذا الوقت فصاعداً بدأت الشهوات غير الطاهرة مهاجمتها للطبيعة الجسدية، وبدأ ناموس الخطية ينشب أظافره في أعضائنا. ولذلك فالطبيعة البشرية احتضنت مرض الخطية من خلال عصيان إنسان واحد هو آدم وبهذه الطريقة أصبح الكثيرون خطاة، ليس هكذا بتعديهم الفعلي – لأنهم لم يكونوا قد وُجدوا في الحياة الفعلية بعد – ولكن إذ صار لهم نفس الطبيعة البشرية، سقطوا تحت ناموس الخطية مثل آدم … وهكذا نمت الطبيعة البشرية ضعيفة، وقابلة للفساد في شخص آدم بسبب فعل المعصية، وهكذا دخلت في معاناة الآلام … ولكن في شخص المسيح نالت البشرية حريَّتها وصارت مطيعة الله الآب، و لم تعد ترتكب خطية] .
وهنا لا يخرج القديس كيرلس الكبير عن قول القديس بولس الرسول في رومية (۱۲:۵)، مع توضيح وشرح. وهو يشير إلى خطية انتقلت من آدم إلى نسله في قوله : لأننا جميعاً خطاة من خلال عصيان آدم … فالطبيعة البشرية احتضنت مرض الخطية من خلال عصيان إنسان واحد هو آدم وبهذه الطريقة أصبح الكثيرون خطاة. وهذه الخطيَّة التي يشير إليها هنا ليست هي الخطية الفعلية، إلا أنه في ذات الوقت لم يشر إلى اسمها بـ «الخطية الجدية، مكتفياً بالقول: إنه بعد أن صار لنا نفس الطبيعة البشرية الساقطة صرنا بالضرورة ساقطين تحت ناموس الخطية.
لذلك فإن الشرق المسيحي وإن لم ينكر أن الإنسان مولود بالخطية لأنه من ذات الطبيعة البشرية الفاسدة التي سقطت بالعصيان، إلا أن هذا التعبير “الخطية الجدية» في ذاته، لم يكن يعرفه الشرق المسيحي، لكنه نتاج اللاهوت المسيحي الغربي.
أما أول رد فعل في الشرق عن تعبير الخطية الجدية” فكان في القرن السادس حين أقرت الكنيسة الأشورية في سنودسها (مجمع أساقفتها) الذي عُقد سنة ٥٩٦م بعدم وراثة المولود الجديد للخطية الجدية، وهو ما دفع كنيسة روما لأن تتهم كل كنيسة لا تعترف بوراثة الخطية الجدية أنها واقعة في خطأ البيلاجيَّة.
لقد كان للقديس أغسطينوس (٣٥٤ – ٤٣٠م) مفاهيمه الخاصة والتي تأثر بها الغرب المسيحي تأثراً واسع النطاق. فهو الذي قرّر اعتماد قانونية سر المعمودية إن تمت باسم المسيح، أو باسم الثالوث على حد سواء، وأن المعمودية تكون صحيحة متى تممت بموجب مراسيمها الصحيحة حتى ولو كانت على يد هراطقة، وتمسك برأيه بأن الروح القدس يُنتج في المعمودية فعلاً مستقلاً لنعمة تقديسية تختم روح المعتمد ليصبح ملكاً للثالوث ، ويظل هكذا حتى ولو ارتد عن الإيمان كالختم الملكي الذي يبقى على العملة، ويسمح للنفس المسيحيّة أن تظل مميزة حتى وإن كانت في الجحيم.
هذه هي بعض تعاليم الكنيسة الكاثوليكية عن سر المعمودية والتي استقرت بقوانين في مجمع ترنت Trent (١٥٤٥ – ١٥٦٣م)، وهو المجمع الذي ركز على حقيقة أن المعمودية ليست علامة نعمة فحسب، لكن هذه بالفعل تحوي هذه النعمة، وتمنحها لأولئك الذين لا يضعون عوائق ،قبالتها، وهي بالحري (أي المعمودية) أداة يستخدمها الله لتبرير غير المؤمنين.
ثم عادت الكنيسة الكاثوليكية سنة ۱۹۱۸م، لتسن في قوانينها تشریعاً جديداً بخصوص المعمودية.
وفي سنة ١٩٦٩م، تم وضع كتاب جديد لترتيب المعمودية ليصبح هو مرجع الممارسات الحالية للمعمودية.
وفي سنة ۱۹۷۲م، أضافت تعليمات جديدة لمعمودية البالغين. ثم عادت لتصدر سنة ،۱۹۹۳م، كتاب “التعليم المسيحي . Catechism “ لتصحح به كثيراً من تعاليمها السابقة، معطية أهمية قصوى للعودة إلى فكر آباء الكنيسة الشرقية الذين كتبوا باليونانية إلى جانب الذين كتبوا باللاتينية أيضاً، فعدلت كثيراً من المبادئ التي نادى بها أغسطينوس، والتي – بحسب تعبيرها – لم تعد تناسب العصر!!.