البطريرك السابع عشر
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(300-311 م)
حياته:
يمتدح يوسابيوس القيصري القديس بطرس خاتم الشهداء مديحاً رائعاً قائلاً:
[وبعد ثيئوناس الذي خدم كنيسة الإسكندرية تسع عشرة سنة، شغل البابا بطرس كرسي الأسقفية في الإسكندرية قبل الاضطهاد (الذي بدأ سنة 303م)، حكم خلالها الكنيسة ثلاث سنوات، سالكاً في حياته بنسك صارم، ناظراً إلى الاحتياجات العامة للكنائس دون أن يخفي نفسه أو يتوارى والنتيجة أنه في السنة التاسعة من الاضطهاد ( سنة 311م) قطعت رأسه، فنال إكليل الشهادة] (HE,VII 32: 3).
والآثار الأدبية الباقية من كتابات هذا القديس – الذي يُعتقد أنه كان مديراً لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية قبيل اختياره لكرسي الإسكندرية – تكشف لنا أنه يُعتبر أول من صحح المبادئ التي خلفها أوريجانوس فيقول في مقالته عن النفس: سبق وجود النفس البشرية قبل وجودها في العالم، أي قبل ولادة الإنسان هو تعليم الفلسفة الهللينية، وهو غريب عن الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع. وله أيضاً مقالة عن اللاهوت رجع إليها مجمع أفسس سنة 431م، ومقالة أخرى عن “مجيء المخلص” وعن “القيامة”.
مشكلة العائدين والتائبين
مع انفجار موجة الاضطهاد التي بدأها دقلديانوس في فبراير سنة 303، تجددت المشكلة القديمة الخاصة بعودة الجاحدين للإيمان والذين قدموا الذبيحة والبخور للأوثان، والتي ظهرت قبلاً أيام اضطهاد داكيوس منذ خمسين سنة. وكانت هذه المشكلة هي التي جعلت القديس بطرس يقدم خمسة عشر قانوناً، وهي القوانين المعروفة في مجموعة القوانين الكنسية Nomo-canon وكانت ضمن رسالة الفصح التي اعتاد أساقفة الإسكندرية منذ عصر البابا ديونيسيوس الكبير (البطريرك الـ ١٤) إعلانها للرعية. وتتلخص هذه القوانين في المبادئ التالية:
1. الذين قُبض عليهم وحكم عليهم بالسجن والعذاب لرفضهم تقديم العبادة للأوثان، وأصابتهم العذابات الشديدة حتى أفقدتهم الشجاعة وانهاروا وأنكروا الإيمان، يستحقون المغفرة لأنهم لم يستسلموا إلا بسبب ضعف الجسد وخيانته وليست إرادتهم هي التي استسلمت إن سمات الرب يسوع (غل 6: 17) ظاهرة في أجسادهم. وهوذا قد مضت عليهم الآن ثلاث سنوات، وهم نادمون على غلطتهم هذه (وقد بدأ الاضطهاد سنة 303م، وبذلك تحدد تاريخ هذه الرسالة الفصحية – كما سيظهر فيما بعد – سنة 306م)، وهذا وحده كاف لذلك. فلهذا يوصى أنهم من يوم تقدمهم للأسقف والسلطات الكنسية يُفرض عليهم قانون توبة لمدة أربعين يوماً كمثال للرب يسوع مخلصنا الذي بعدما تعمد صام أربعين يوماً مجرباً من إبليس. وخلال هذه الأربعين يوماً يُدربون ذواتهم بالصوم مع السهر في الصلاة والتأمل في قول المخلص الذي حاول إبليس أن يجربه ويُسقطه ليسجد له، فكان رد الرب عليه: «اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإيَّاه وحده تعبد» (مت 4: 10).
2. الذين ألقوا في السجون والمطابق (المناجم) وعاشوا تحت ضيق المكان والرائحة النتنة الكريهة، ولكن بعد ذلك بدون مواجهة أية عذابات أسروا بانكسار قلوبهم وضعف قوتهم حتى أن بصيرتهم قد عميت فجحدوا وأنكروا هؤلاء يُضاف على مدة توبتهم ستة أيام أخرى على ما تقدم أي بالإضافة إلى الأربعين يوماً السابق ذكرها كقانون توبة. وذلك لأنهم رضوا واستسلموا الجحد الاسم المبارك، حتى وإن كان الإخوة المؤمنون قد اهتموا هناك براحتهم وتعزيتهم والاهتمام بأمور وضرورات حياتهم. وهذا قطعاً سيردونه مئة ضعف مشتهين أن ينعتقوا من أسر إبليس المر متذكرين بالذات قول الرب: «روح الرب علي، لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفى المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر … وأكرز بسنة الرب المقبولة» (إش 61: 1، 2 حسب السبعينية، لو 4: 18، 19).
3. وأما أولئك الذين لم يتألموا بشيء من مثل هذا، ولم يُظهروا شيئاً من ثمر إيمانهم، بل استسلموا من ذواتهم للأشرار بتأثير الجزع والجبن، والآن يطلبون التوبة؛ هؤلاء يلزم ويليق أن نقدم لهم مثل شجرة التين عديمة الثمر كما يقول الرب: «كانت لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه. فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد فقال للكرام : هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة ولم أجد، اقطعها، لماذا تُبَطّل الأرض أيضاً ؟ فأجاب وقال له يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً حتى أنقب حولها وأضع زبلاً. فإن أعطت ثمراً، وإلا ففيما بعد تقطعها» (لو 13: 6-9). فعلى هؤلاء أن يضعوا هذا المثل نصب أعينهم ويُظهروا الثمر اللائق بالتوبة لينتفعوا بهذه المهلة الطويلة. (أي يفرض عليهم قانون توبة لمدة ثلاث سنوات، ويُطلب منهم الثمر الإيماني في السنة الرابعة).
4. الذين باستعمالهم وسائل التحايل والمكر والخداع، صنعوا مثلما فعل داود الذي تظاهر بالجنون (1صم 21: 13)، وذلك ليتفادوا الموت، وهم في الحقيقة لم يكونوا مجانين. وأيضاً الذين لم يجحدوا إيمانهم صراحة أو علانية، بل كانوا في ضيقة ومحنة حقيقيتين، فهؤلاء يُشبهون أولاداً حكماء وأذكياء بين أطفال أغبياء، وقد هزأوا بفخاخ أعدائهم سواء مروا على المذابح دون أن يقدموا فيها شيئاً، أو يكتبوا أوراقاً بذلك، أو أرسلوا وثنيين قدموا عنهم البخور والذبائح بدلاً منهم، أو تفادوا بأية طريقة أن يلمسوا النار بأيديهم ويُقدِّموا البخور للشياطين الأنجاس؛ وبذلك استطاعوا أن يتهربوا من مراقبة مضطهديهم بمثل هذه الأفعال، كما اعترفوا بذلك لرفقائهم في السجن من المؤمنين المعترفين. فمثل هؤلاء يُعطى لهم قانون توبة لمدة ستة أشهر، وعليهم أن يتأملوا في قول النبي : «يُولد لنا ولد، ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً …» (إش 9: 6). ويُعطى لهم قانون توبة بسبب أنهم ظهروا أمام الآخرين وكأنهم قدموا البخور للأوثان، وهذا تحريض غير مباشر لعبادة الأوثان.
5. الذين دفعوا عبيدهم المسيحيين أن يقدموا البخور للأوثان نيابة عنهم، وقد فعل العبيد ذلك خوفاً من ساداتهم المسيحيين؛ فيفرض على العبيد قانون توبة لمدة سنة، يظهرون في هذه المدة توبتهم، لكي يتعلموا فيها أيضاً أنهم عبيد للمسيح ينبغي عليهم أن يصنعوا مشيئته ويخشونه، وذلك تكميلاً لقول الرسول بولس: «مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب، عبداً كان أم حرا» (أف 6: 8). أما السادة الذين اضطروا عبيدهم أن يبخّروا للأوثان، فهؤلاء السادة يفرض عليهم قانون توبة لمدة ثلاث سنوات، لأنهم تهاونوا مع عبيدهم ولم يعلموهم مخافة الله (أف 6: 9)، لأن لنا رباً واحداً ومعلماً واحداً دون اعتبار لليهودي والأممي، الحر والعبد، السكيثي والأعجمي (كو 3: 11)، مع أنه كانت أمام عبيدهم فرصة أن يهربوا من هذه العبادة الوثنية، ولكن بسبب التزام الخضوع اضطروا أن يفعلوا ما فعلوا.
6. أما الذين أسلموا بدون إرادتهم ثم جحدوا، وكذلك الذين تقدموا من أنفسهم إلى ميدان الاستشهاد معترفين أنهم مسيحيون وعُذِّبوا وطرحوا في السجون؛ فهؤلاء يليق بنا بالفرح وتهليل القلب أن نشترك معهم في كل شيء في الصلاة، وفي جسد المسيح ودمه، وفي المحادثات التشجيعية، حتى يرسخوا أكثر فأكثر في الإيمان والصراع، ويصيروا مستحقين لـ “جعالة دعوتهم العليا (في 3: 14)، لأنه مكتوب أن: «الصديق يسقط سبع مرات (عدد يمثل الكمال والاستمرارية) ويقوم» (أم 24: 16) ، الأمر الذي لو فعله كل الساقطين والجاحدين لكانوا قد أكملوا توبتهم إلى الكمال.
7. هناك أيضاً فئة يُطلق عليها القديس بطرس الغافلون أو النائمون، وهم الذين يرون الاضطهاد قد يهدأ أو يطول أمده فيستيقظون فجأة ويندفعون للجهاد بطريقة تثير الحكام عليهم، هؤلاء باندفاعهم يضرمون نار الاضطهاد أكثر فأكثر ضد إخوتهم. ومع ذلك يوصي القديس بأن يُعاملوا بالرحمة، وأن يشترك معهم الإخوة في الصلاة ولا يتركوهم، لأنهم يتألمون لأجل اسم المسيح المبارك أيضاً، مع أنهم غير فاهمين أنهم بأعمالهم هذه ينقضون وصية المسيح القائلة: “لا تدخلنا في تجربة؛ لأن المسيح نفسه لم يُسلّم نفسه إلى صالبيه، بل انتظر حتى أسلموه للصلب، وكثيراً ما كان يفعل ذلك.
ما يختص بالإكليروس
إذا تقدم أحد الإكليروس من نفسه للاستشهاد ثم فشل ولم يحتمل قسوة الاستشهاد مما جعله ينكر الإيمان ويجحده، ثم يثوب إلى رشده ثانية ويتقدم ويعترف بالمسيح؛ فلا يحق له بعد ذلك أن يمارس خدمته الكرازية، لأنه تخلى عن وظيفته وتقدم من ذاته للاستشهاد في الوقت الذي كانت رعيته محتاجة إليه أشد الاحتياج في زمن الاضطهاد والقديس بولس يقول عن ذاته: «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً» (في 1: 23)، ولكن القديس بولس لم ينظر إلى نفسه، بل قدم خير الرعية على الخير الذي يشتهيه هو شخصياً أي الوجود مع المسيح، ولذلك قال: «… أن أبقى في الجسد أَلْزَمُ من أجلكم» (في 1: 24). لذلك، إذ قد تخلى الإكليروس عن وظيفتهم الأساسية في تعليم الرعية، فلا يحق لهم بعد ذلك الرجوع إليها حتى لو لم يسقطوا في الجحود والنكران، لأن عملهم هذا خارج عن حدود التعقل والتعليم. أما إذا جحدوا وأنكروا بسبب التعذيب الشديد، فذلك لأنهم تكبروا وانتفخوا من قبل ذهنهم الجسدي، وبذلك لوثوا أيضاً خدمتهم ولم يعودوا صالحين لمباشرتها بعد ذلك. لذلك يوصي القديس بطرس أن يكتفي أولئك الإكليروس بالتناول فقط مع المؤمنين، وذلك بنوع من الحرص والاهتمام، وذلك لئلا تضيق أنفسهم بالحزن على غلطتهم وسقطتهم فيفارقوا الحياة وهم محرومون من الحياة الأبدية بسبب امتناعهم عن التناول؛ ولكي لا يؤخذ عدم تناولهم حجة لآخرين من الذين ارتدوا وسقطوا أن يستمروا في الارتداد، إذ يرون أنه لا فائدة من الرجوع للإيمان.
هذا الكلام أيضاً طبقه القديس بطرس على أساقفة الكراسي، فيحتفظون بوظائفهم الكهنوتية فقط، ولكن لا يباشرون أعمال الأسقفية.
قواعد عامة:
- من الجائز وغير المستنكف الصلاة مع الذين تعذَّبوا كثيراً وسقطوا وجحدوا الإيمان بسبب عنف الاضطهاد أو السجن.
- الذين افتدوا أنفسهم بالأموال والذهب وفضة هذا العالم ليسوا مدانين، لأنهم قدموا الذبيحة الله من أموالهم ونحوا بأنفسهم من هلاك النفس، الأمر الذي لم يفعله آخرون من الأموال المحرمة التي اكتسبوها، كما أن الرب يقول: «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه» (مت 16: 26) ، وأيضاً: «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين… الله والمال» (مت 6: 24). فهذا التصرف منهم برهن على أنهم خدام الله، إذ أبغضوا المال واحتقروه وداسوه تحت أقدامهم، وبذلك كملوا المكتوب: «فدية نفس رجلٍ غِناه» (أم 13: 8) ، كما نقرأ أيضاً في سفر أعمال الرسل: «ولما لم يجدوهما (أي بولس وسيلا جرُّوا ياسون وأناساً من الإخوة إلى حكام المدينة… فأخذوا كفالة من ياسون ومن الباقين ثم أطلقوهم. وأما الإخوة فللوقت أرسلوا بولس وسيلا ليلاً إلى بيرية» (أع 17: 6-10).
- ليس لنا أن ندين أولئك الذين تركوا كل شيء وهربوا معتكفين بعيداً لأجل سلامة أنفسهم. فهوذا بولس الرسول حينما حاول أن يقتحم المحفل منعه التلاميذ (أع 19: 26-30)، والذين يحاولون أن يجادلوا في هذا الموضوع عليهم أن ينظروا قول الرب: «اهرب لحياتك» (تك 19: 17). وهوذا بطرس الرسول حينما أُلقي في السجن وأسلم بين أربعة حراس، خرج من السجن ليلاً (أع 12: 4) وحفظ من اليهود بواسطة ملاك الرب، إلا أن هيرودس أهلك الحراس. وهكذا أيضاً أطفال بيت لحم، قُتل منهم مَنْ قُتل حتى يُحفظ لنا الطفل يسوع. وحاول أيضاً هيرودس قتل الطفل يوحنا بن زكريا وأليصابات، ولكن لما حفظ الله الطفل يوحنا من القتل، أمر هيرودس بقتل زكريا أبيه عوضاً عنه. إذن ليس هناك لوم على الذين هربوا حتى لو تسبب هذا الهروب في موت آخرين أو إلحاق الضرر بهم.
- الذين أغصبوا على فتح أفواههم بالكلابات والقيود ليشربوا خمر سكائب الآلهة الوثنية، أو أكلوا قهراً مما ذُبح للأوثان، أو الذين وضع في أيديهم بالقوة جمر النار مع البخور حتى يُعتبر أنهم قدموا البخور للأوثان، فاحترقت أيديهم؛ مثل هؤلاء يُحتسبون كمعترفين كل في رتبته : العلماني مع العلمانيين، ورجال الإكليروس مع الإكليروس.
القانون الأخير ١٥:
وصية بالصوم يومي الأربعاء والجمعة الأربعاء هو اليوم الذي تمت فيه المشورة بخيانة الرب؛ والجمعة لأنه اليوم الذي تألم فيه الرب وطلب من أجلنا، ويقول البابا بطرس إن ذلك بحسب التقليد. أما يوم الرب فنعتبره يوم فرح، لأن الرب قام فيه، واستلمنا ألا نحني ركبنا فيه. وهذا ما توصي به قوانين الرسل: ق 66، ق 69
الذي نلمحه من هذه القوانين أنها متفقة مع المبادئ الأساسية للكنيسة الأولى التي لا تشجع على الاندفاع والتهور وأعمال الإثارة والتحدي للسلطات، كما تبيح الهروب والنجاة من الاضطهادات والمضطهدين، وتتسامح مع الذين بسبب ضعف الجسد يخورون ويستسلمون طالما بقيت الإرادة قوية ولم تستسلم مع الجسد وتلقي السلاح.
كما أن هذه القوانين تُشبه – إلى حد ما – المبادئ التي سبق أن رأيناها في كتابات القديس ديونيسيوس الكبير منذ خمسين سنة، ولكن ليس فيها ذكر عن تأجيل التناول حتى لحظة الموت.
ولعل الملاحظ في كل هذه القوانين هو الاستنارة الروحية التي تكمن وراء كل قانون، والمبدأ الكتابي الذي يؤيده. فهي قوانين ليست فلسفية أو منطقية بل لها أساس كتابي، ينبني عليه القانون التأديبي.
انشقاق ملاتيوس أسقف ليكوبوليس (أسيوط):
مثلما حدث في كنيسة روما إبان اضطهاد داكيوس سنة 249 – 251م، وانشقاق نوفاتيان ضد بابا روما الشرعي بسبب تساهله مع المرتدين؛ هكذا أيضاً فعل ملاتيوس أسقف ليكوبوليس في مصر، إذ انتهز فرصة غياب أربعة أساقفة عن كراسيهم بسبب الاضطهاد وإلقائهم في السجن، فاستأثر لنفسه بإيبارشياتهم وكنائسهم ورسم أساقفة وكهنة، بل تهور واندفع إلى حد التدخل في الإسكندرية نفسها، حيث كان القديس بطرس إما غائباً في السجن أو غير قادر على عمل شيء بسبب الاضطهادات. وقد كتب هؤلاء الأساقفة الأربعة رسالة إلى ملاتيوس يقولون فيها:
[آباؤنا قد وضعوا الأساس والقاعدة، وهي ألا يُجري أي أسقف رسامة في كنائس الأساقفة الآخرين. لكنك دون اعتبار لقراراتهم ودون نظر للمستقبل، ولا للقانون التقليدي الذي لآبائنا (الرسل الطوبانيين الذين أرضوا المسيح، ودون اعتبار لأبينا وأسقفنا العظيم بطرس الذي نعتمد عليه جميعاً حسب رجائنا في المسيح يسوع ربنا، ودون أي اهتمام بالمحاكمات والسجون التي تجرى علينا، ولا الإهانات التي تعاني منها كل يوم والتي سببت حزناً وأسئ للجميع؛ سِرْتَ حتى نهاية الشوط في طرح كل شيء تحت الأقدام …] .
ولم يؤثر هذا الخطاب على ملاتيوس، بل بالعكس اندفع إلى الإسكندرية ونحى الوكلاء الذين أقامهم القديس بطرس أسقفها واستعاض عنهم بأشخاص اختارهم بمعرفته. وكان رد فعل القديس بطرس أن منع رعاياه من التناول والشركة مع أنصار ملاتيوس (حسب القانون الرسولي أيضاً). أما الأساقفة الذين وقعوا ضده، فقد استشهدوا في الاضطهاد.
ولما خفت حدة الاضطهاد قليلاً حاول القديس بطرس أن يحل مشكلة الراجعين والمرتدين في رسالة الفصح سنة 306م حسب ما ذكرناه آنفاً. فكانت النتيجة أن ملاتيوس اتخذ موقفاً مع مناقضاً، ونصب نفسه بطلاً للمتشددين والمتحمسين ضد رجوع التائبين مثلما حدث تماماً نوفاتيان قس روما منذ خمسين سنة. وعندما اشتد الاضطهاد مرة ثانية، نُفي ملاتيوس وأنصاره إلى مناجم النحاس في صحراء فلسطين – الفرات، فواصل دعايته ونشاطه بين المنفيين هناك. وبعدما توقف الاضطهاد سنة 311م، وكان القديس بطرس قد استشهد ؛ كون ملاتيوس كنيسة منشقة سماها: “كنيسة الشهداء”، واستمر انشقاقه بعد ذلك حتى أنه كان مع أنصاره من أشد المتحمسين لأريوس الذي انضم إليهم بعد حرمه بواسطة القديس بطرس.
بقية سيرة حياة البابا بطرس
كما سبق وعرفنا أن الإمبراطور جاليريوس قبل موته بستة أيام، أصدر قرار التسامح وحرية الأديان، إلا أن نائبه في مصر وفلسطين وسوريا – مكسيمين دايا – استمر في موالاة الاضطهاد، لأنه كان أكثر تعصباً للوثنية من عمه أو خاله جاليريوس في هذا الاضطهاد المتواصل، اعتقل البابا بطرس وأُلقي في السجن في انتظار الإعدام. وتستكمل لنا وثيقة متأخرة قليلاً عن القرن الرابع الميلادي قصة استشهاده، وهي وثيقة كتبت باللغة اليونانية بصيغة أدبية بليغة، ولها ترجمات قبطية وسريانية ولاتينية، تبدأ بالقول: إن آريوس كان محروماً من فم هذا البطريرك. ثم تحكي لنا أعمال ملاتيوس أسقف ليكوبوليس المنشق وانضمام آريوس إلى حزبه ثم تُضيف هذه الوثيقة وتقول :
- أرسل مكسيمين أربعة قضاة ومعهم الجنود، فقبضوا على البطريرك وألقوه في السجن، ولما سمع الشعب اجتمع حوله رجال وسيدات وعذارى، وقد نذروا أنفسهم لحراسته مما اضطر الجنود إلى استعمال السيوف وقتل آلاف من الشعب قبل وصولهم إلى السجن وتنفيذ حكم الإعدام على البطريرك بقطع رأسه.
- في هذه الأثناء تقدم آريوس بحيلة ومكر الأفاعي متوسلاً لكبار رجال الإكليروس لكي يتوسطوا له ويصالحوه مع البطريرك قبل استشهاده. فلما تقدم هؤلاء إلى البطريرك، ظهرت عليه علامات الغضب ورفع يديه نحو السماء قائلاً: “أتحسرون على التضرع لأجل آريوس؟ فهو محروم في هذا الدهر وفي الدهر الآتي ! وكانت مفاجأة أبكمت الحاضرين. ثم أخذ البطريرك مساعديه: أرشيلاوس وألكسندروس المتقدمين بين كهنة الإسكندرية وقال لهما : “أنا إنسان تحت الخطية مثلكما، ولكن خيانة آريوس تفوق كل حسبان الليلة الماضية أثناء صلاتي الله وقف بي غلام ابن اثنتي عشرة سنة ووجهه مضيء بدرجة لم أحتملها، وكان يلبس تونية مشقوقة من الرقبة حتى القدمين، وهو يمسك بطرفيها لكي يستر عريه. وفي إحساسي بالخجل لرؤيته هكذا تجاسرت وسألته: “يا رب مَنْ مزَّق ثوبك هكذا؟ فقال لي : “آريوس! احترس، لأنهم سيأتون هذه الليلة إليك متوسلين لأجله. لذلك احترسا لئلا تقبلاه في شركة الكنيسة”.
- ولكي يتفادى القديس المذبحة التي توشك أن تحدث بسبب تمسك الشعب براعيه، أرسل سراً إلى القضاة والجنود أن ينصرفوا ويرجعوا عند حلول الظلام خلف السجن، حيث سيعطيهم إشارة على الحائط، بقرعات خفيفة، وهم عندما يسمعونها يحفرون وينقبون الحائط، فيخرج إليهم وينفذون فيه الحكم. أما هو فقد أمضى ليلته كلها مصلياً. ولما سمع وقع أقدامهم قرع حائط السجن قرعات خفيفة، وهكذا نقب الجنود الحائط وأخرجوه متجهين بعيداً في جنح الظلام ليتمموا الحكم. وعند سيرهم عبروا على بقعة تُدعى بوكاليا حيث مدفن القديس مرقس كاروز الديار المصرية، فاستأذن البابا من الحراس ودخل ليُصلي صلاة طويلة حارة. ولما انتهى من صلاته، سمعت عذراء تقطن بجوار قبر القديس مرقس صوتاً من السماء يقول: بطرس أول الرسل، وهوذا بطرس خاتم الشهداء. ثم رافق البابا الحراس، فإذا بكهل تصحبه عذراء متقدمة في السن عائدين من الريف إلى المدينة، فنادى عليهما القديس: “هل أنتما مسيحيان؟ فأجاباه: “نعم” ! فأوصاهما القديس أن يلازماه، وقال الحراسه أن يتمموا الأمر المطلوب. ثم طلب من الرجل والعذراء أن يفرشا ما معهما من جلود، ومد عنقه فوقها، فقام أحد الجنود بقطع رأسه بحد السيف بعدما أغراه بقية الجنود بالمال والذهب وشجعوه لكي يكمل هذه المهمة. وبعدئذ غادر الجنود المكان، وبقي الشيخ والعذراء محافظين على الجسد والرأس إلى أن بزغ نور النهار، وعُرف الخبر في أنحاء المدينة، فجاءت الجموع وحملت الجسد والرأس. ثم ذهبوا بالجسد إلى كنيسة السيدة العذراء التي بناها البابا غرب مدينة الإسكندرية، ووضعوه على كرسي الكاتدرا الذي كان يرفض القديس في حياته أن يجلس عليه طوال فترة رئاسته للكنيسة.
بركة صلواته تكون معنا، آمين.