البخور في الكنيسة 

يقترن البخور دائما بالصلاة لتكن صلاتي كالبخور قدامك، وبالشعور بحلول مجد الله. ففي رائحة البخور نتنم أريج الحياة الأبدية وحلاوة بيت الله وعطر صلوات القديسين. 

وكل التقدمات والعطايا والنذور والبكور والعشور التي تقدَّم الله في كنيسته المقدَّسة مع الشكر هي رائحة بخور يشتمها الله بالرضى والسرور. فلازال البخور الذي يُرفع أمام الله الآب في الكنيسة رمزاً لرائحة ابنه على الصليب التي اشتمها الآب. 

وإن رائحة البخور التي نشتمها في الكنيسة ليست دائماً واحدة فلكل مناسبة في الكنيسة رائحة تميزها، فرائحة الكنيسة في الصوم المقدَّس الكبير غير رائحتها في شهر كيهك المبارك، غير رائحتها في عيد القيامة والخمسين المقدسة، وهكذا فهي رائحة لا تشتم بالحواس الخارجيَّة، ولكنها رائحة المسيح الزكية المتنوعة بتنوع مراحل خلاصنا التي أكملها فينا ومن أجلنا. “فشكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين، ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان، لأننا رائحة المسيح الزكيَّة الله” (٢كورنثوس ١٥:١٤). 

كان لتقديم البخور في خيمة الاجتماع، وفي هيكل سليمان مكانا بارزاً في العبادة اليهودية. ففي خيمة الاجتماع كان مذبح البخور قائماً أمام قدس الأقداس، وأمام حجاب مقفول يرفع عليه البخور صباحا ومساءً كأمر الرب. والبخور الذي استخدم في خيمة الاجتماع كان يُسمى “بخورا عطراً”، وكان مركبا بمقادير محددة من الأعطار قاصراً على استخدامه في العبادة فقط، ولم يكن مسموحا لأحد أن يصنع مثله ليشمه، وإلا تقطع تلك النفس من شعبها. 

وبتحول العبادة من العهد القديم إلى الجديد، لم يتحول مفهوم تقديم البخور في الصلاة كصلاة، بل بقى كما هو ليعبر عن العلاقة الأساسية التي تربط الإنسان بالله فالبخور في العبادة هو رمز الصلاة الصاعدة أمام الله، وهو يصاحب صلوات القدّيسين ، بل ذكر صراحة أن البخور هو “صلوات القديسين”. إلا أن حرق البخور في كنيسة العهد الجديد صار يحمل معنى الخدمة المقدسة كلها، وأنواع العطايا التي تقدَّم الله فيها، وذبيحة المسيح التي لا يكون غفران للخطايا إلا بها، وذبيحة التسبيح أي الصلوات واستجلاب الرحمة من الله. 

ونبوة ملاخي النبي “لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يقرب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة. لأن اسمي عظيم بين الأمم قال رب الجنود” (ملاخي ١١:١). وهذه النبوة لا تقصد بخور العهد القديم بل الجديد، لأن بخور العهد القديم ما كان يجوز رفعه إلا في خيمة الاجتماع، ثم في الهيكل بعد ذلك في أورشليم، وليس في كل مكان من مشرق الشمس إلى مغربها كقول النبي. 

وأقدم إشارة تاريخية تثبت استخدام البخور في الكنيسة القبطية هي حادثة إثبات بتولية البابا ديمتريوس الكرام (١۹۱ – ٢٢٤م) البطريرك الثاني عشر من باباوات الكرازة المرقسية، حينما أخذ المجمرة وهي متقدة ناراً وأفرغها في كمه وكم زوجته، وطافا كلاهما البيعة كلها أمام المصلين، ولم تحترق ثيابهما. 

وكذلك في وصف تشييع جسد البابا بطرس خاتم الشهداء (۳۰۰- ۳۱۰م) إلى القبر بعد استشهاده: “… وحملوا سعف النخيل كعلامة للنصرة، ومشاعل. وبتسابيح حلوة وبخور عطر الرائحة خرجوا محتفلين بانتصاره السماني. واستودعوا جسده في المقبرة التي كان قد أقامها هو بنفسه والتي صار منها عجائب …..”. 

أما أول وثيقة معروفة لدينا تتكلم عن استخدام البخور في الليتورجية فهي النشيد السابع عشر من أناشيد نصيبين للقديس أفرام السرياني (٣٠٦ – ٣٧٣م) يمتدح فيه الأسقف أبرأم أسقف كيدون Abraham de Kidum قائلا: 

[ليكن صيامك حصناً لبلادنا، وصلواتك رجاء لقطيعك، وبخورك جالباً للغفران]. 

وهنا يلزم أن نعرف أن طقس تقديم البخور عند السريان والموارنة يرتبط لديهم بطقس كفاري أكثر من الكنيسة البيزنطية، أما الكنيسة القبطية فليس لديها مفهوم التكفير كأحد المعاني الرئيسية للبخور كما في الكنائس الأخرى. ولكننا نقول في سر بخور الإبركسيس أثناء القداس الإلهي: “يا الله الذي قبل إليه محرقة إبراهيم، وبدلا عن اسحق أعددت له خروفاً، هكذا أقبل منا أيضاً يا سيدنا محرقة هذا البخور، وأرسل لنا عوضه رحمتك الغنيَّة، واجعلنا أنقياء من كل نتن الخطية …..”. 

ويقول القديس أفرام السرياني أيضاً:  

[أتوسل إليكم ألا تكفنوا جسدي بالأطياب، فالروائح الطيّبة تليق ببيت الله احرقوا بخوركم في بيت الرب كرامة له ومديحا]. 

والقديس باسيليوس الكبير (۳۳۰ – ۳۷۹م) يصف حالة الخراب والدمار التي حلت بالكنائس أيام الاضطهاد فيقول: 

[هدموا بيوت الصلاة بأيديهم النجسة، وحطموا المذابح، وتوقف تقديم القربان والبخور عليها. ولم يوجد مكان للذبيحة. والحزن المرعب خيم على الجميع كسحابة]. 

وتأتينا شهادة أخرى من القديس أمبروسيوس (۳۳۹ – ۳۹۷م) أسقف ،میلان، وهو يصف ظهور الملاك لزكريا الكاهن وقت تقديم البخور فيقول في ذلك: 

[… فليته يقف بجوارنا ملاك يؤازرنا وقت حرق البخور على المذبح]. 

وفي الكتاب الثامن من المراسيم الرسولية (حوالي سنة ٣٨٠م) – وهو يعبر عن الطقس الأنطاكي – وردت إشارة واحدة عن استخدام البخور في العبادة المسيحية ، عندما حدَّد المؤلف أنه لا يقدَّم على المذبح سوى الخبز والخمر، وفي وقت الاحتياج يستثنى سنابل القمح الجديدة، والعنب ولاحظ أنهما أيضا من أجل عمل الخبز والخمر والزيت للسراج المقدَّس، والبخور لوقت التقدمة الإلهية. 

وذكرت السائحة الأسبانية إيجيريا التي زارت اورشليم خلال الفترة من سنة ۳۸۱م ، إلى سنة ٣٨٤م ، أن البخور كان يُستخدم في السهر الكاتدرائي في كنيسة أورشليم تذكاراً لما فعلته النسوة حاملات الطيب عندما حملن الطيب إلى قبر المخلص، فتقول: “… بعد تلاوة المزامير …. يؤتى بالمباخر إلى المغارة (القبر) في كنيسة القيامة فتمتلئ بازيليك القيامة كلها من رائحة العطور”. 

وهناك شهادة وثائقية عن استخدام البخور في العبادة المسيحية تأتينا من ثيؤدوريت (۳۹۳ – ٤٦٦م) المؤرخ أسقف قورش Cyr. ففي موضوعه الثامن والعشرين على سفر الخروج، والذي كتبه سنة ٤٥٣م، أو بعدها بقليل، يعلّق ثيؤدوريت معقباً على الآية: “فيوقد عليه هرون بخورا عطراً كل صباح، حين يصلح السرج الموقدة” (خروج ۷:۳۰) فيقول: 

[نحن نخدم الليتورجية المخصصة لخيمة الاجتماع أو للهيكل من الداخل (أي تقديم البخور الذي كان يُرفع من داخل القدس في كلاهما) لأننا نقدم لله البخور وإيقاد السرج كما نخدم أسرار المائدة المقدسة (المذبح)] . 

ولعل الإشارة السابق ذكرها هي أول إشارة وثائقية واضحة عن استخدام البخور في الصباح والمساء في الكنيسة المسيحية. وهذا التطور الطقسي في المراسيم الكنسية في هذين الاجتماعين هو تطور في غاية الأهمية، وذلك بسبب أن القديس يوحنا ذهبي الفم (٣٤٧- ٤٠٧م) لم يشر مرة واحدة إلى أي استخدام للبخور في الخدمات الكاتدرائية في كنيسة أنطاكية. 

وهناك شهادة صريحة عن طقس رفع البخور في الكتابات المنسوبة لديونيسيوس الأريو باغي وهي ترقى إلى القرن الخامس فيقول: “أما الأسقف فعندما ينتهي من الصلاة المقدسة على المذبح الإلهي، يبدأ التبخير عليه، ثم يدور دورة كاملة حول المكان المقدس كله“. 

على أن ندرة أقوال الآباء فيما يختص باستخدام البخور في الكنيسة يرجع إلى أنه كان طقساً يُسلم بالتلقين الشفاهي من كاهن إلى آخر باعتباره أحد أهم عناصر التقليد السري، فهو أحد طقوس القداس الإلهي. 

ويُستعمل البخور في كل مراحل الصلوات الطقسية، حيث يتم تبخير المذبح والإنجيل والأيقونات والهيكل والشعب. ويمكن للشماس عند كل الكنائس الشرقية – إلا الكنيسة القبطية – تبخير المائدة المقدسة والأيقونات، وإعطاء البخور للشعب. 

والبخور فوق المذبح هو إعلان منظور وتنبيه للعين لحلول مجد الرب عليه. والبخور المقدَّم أمام أيقونات القدّيسين هو تعبير عن صلواتهم المرفوعة كل حين أمام عرش الابن الوحيد تشفع في ضعفنا وفي مذلتنا والبخور الذي يمر بين الشعب والذي يُعطى للكهنة هو لجمع صلواتهم وطلباتهم وإصعادها أمام الله. والبخور الذي يقدم أمام رئيس الكهنة، فهو يُقدَّم أمامه كرمز لصلواته التي يرفعها أمام الله عن الشعب. والبخور لا يُقدَّم لأي من هؤلاء بل الله مصحوباً بصلواتهم جميعاً، حيث أمر الرب ألا يقدَّم بخور إلى أحد سواه، فجعله قدساً له. وكلما ازدادت الدرجة الكهنوتية ازدادت معها مسؤولية الصلاة والطلبة من أجل الشعب، لذلك تزاد أيادي البخور مع التقدم في الدرجة الكهنوتية. 

المعاني الروحية للشورية أي المجمرة 

أما المبخرة أو الشورية فتحمل عدة معاني روحيَّة بديعة؛ فالثلاث سلاسل تشير إلى الثالوث القدوس، وارتباطها سويا من أعلى في حلقة واحدة، يشير إلى وحدانية الجوهر الإلهي . وهذه الحلقة العليا ترمز للسماء. والجزء المدلى من الخطاف والذي يخرج من انجماع الثلاث سلاسل في هذه الحلقة يشير إلى نزول السيد المسيح، الأقنوم الثاني من الثالوث إلينا على الأرض. أما الجزء المجوف في بطن الشورية فيرمز إلى بطن السيدة العذراء، والفحم يشير إلى الناسوت، وجمر النار يشير إلى اللاهوت، أما الفحم المتقد نارا في الشورية فيرمز إلى اللاهوت المتحد بالناسوت في بطن العذراء والمواد الزكية التي توضع في المبخرة تشير إلى هدايا المجوس والأطياب التي وضعها يوسف ونيقوديموس على جسد السيد الرب. واحتراق البخور رمز لآلام المسيح، ورائحة البخور المحترق رمز لقبول الآب ذبيحة ابنه عن خلاص العالم. وفي ذلك يقول الكاهن وهو يحمل الشورية ويبخّر بها وسط الشعب هذا الذي أصعد ذاته على الصليب، فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة فتح باب الفردوس ورد الإنسان مرة أخرى إلى رئاسته”.

وكانت الشورية في القديم بدون سلاسل، حيث تحمل على اليد، أو توضع على المذبح كما عند السريان للآن. 

يقول مار أفرام السرياني (٣٠٦ – ٣٧٣م): 

[قد جعلت ذاتي كنيسة للمسيح، وقربت له داخلها بخوراً وطيباً أعني أتعاب جسمي]. 

وعن طقس صلوات رفع البخور في عشية وباكر، أفردنا كتاباً مستقلا لذلك، ضمن السلسلة الثالثة من الدرة الطقسية، وهي عن “طقوس أسرار وصلوات الكنيسة”. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى