خصائص المعمار الكنسي وفن المعمار القبطي 

الكنيسة بمبناها ونظامها المعماري، وبترتيب أثاثها من الداخل تشرح بالطقس معالم الطريق الروحي الذي يلزم أن يسلكه الداخلون إليها. فالمعمودية في أقصى غرب الكنيسة حيث محل الميلاد الفوقاني والهيكل في أقصى شرقها، السماء على الأرض، حيث المذبح وسر الإفخارستيا ،المقدَّس، عبوراً بالمنجلية، مكان قراءة كلمة الله، تشير كلها إلى أن دخول السماء لا يكون إلا بالولادة أولاً من الماء والروح في جرن المعمودية ، ثم الخضوع لكلمة الإنجيل عبر مسيرة حياتنا بدءًا من المعمودية وانتهاءً إلى الإفخارستيا.

بالماء والروح والكلمة، يكون النور؛ «في البدء … كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة ، وروح الله يرف على وجه المياه، وقال الله ليكن نور فكان نور» (تكوين ١:١-٣) والنور هو الحياة، والحياة هي المسيح؛ «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يوحنا ٣:١) . وبالاختصار: المعمودية – الإنجيل – الإفخارستيا هي معالم رحلتنا إلى الحياة الأبدية بالكنيسة. 

وعلى العتبة العليا للهيكل، المسيح مصلوباً، هذا الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من هذا العالم الشرير. فالمسيح المصلوب هو ميراث الكنيسة وسر حياتها وترنيمتها التي لا تفتر في الأرض وفي السماء على حد سواء. فبدون آلام وموت الصليب ما كانت القيامة، لأن القيامة تعني بالضرورة نهوضاً من موت. 

والوصول إلى حضن الآب في شرقيَّة الهيكل لا يكون إلا من خلال المذبح حيث الذبيحة المرفوعة عليه، لأنه لا يعرف أحد الأب إلا الابن ومن أراد معرفة الآب فالابن وحده هو الذي يعلن له. 

إذا لم نعد نرى مبنى الكنيسة حجرا على حجر، ولم نعد نراه خشبا وألوانا وزخارف، بل أيقونة السماء عينها. فما أرهب بيت الله. ويقول المؤرخ يوسابيوس القيصري (٢٦٠ – ٣٤٠م): “إن الكنيسة المنظورة تُبنى على صورة الكنيسة غير المنظورة … هي السماء على الأرض”. 

وعن مبنى الكنيسة نحدد كلامنا في النقاط الثلاث التالية: 

أولا: المبنى الكنسي في الثلاثة قرون الأولى. 

ثانياً: شكل الكنيسة قديما في الخارج والداخل.

ثالثا: فن المعمار القبطي وعلاقته بفنون المعمار الأخرى. 

أولاً: المبنى الكنسي في الثلاثة قرون الأولى 

مصر هي أولى بلدان العالم التي عرفت بناء الكنائس، إن لم تكن أولها على الإطلاق. ويؤكد المؤرّخ الفريد جوا بتلر A Butler على هذه الحقيقة فيقول : “… بالنظر إلى أن مصر هي الأقرب إلى مهد الديانة المسيحيَّة، وأن كنيستها قد أسسها القدّيس مرقس، فإنه من المحتمل بأن تكون الإسكندرية قد سبقت بقية بلدان العالم في بناء الكنائس، وذلك هو وضعها الطبيعي في الحضارة بوجه عام. وكذلك الاحتمال بأن تكون هي البادئة في استخدام طراز العمارة الذي أصبح مألوفا للأوربيين في بيزنطة. وأن الاسم نفسه (أي بيزنطي) قد أطلق فيما بعد نسبة إلى هذه المدينة. 

ومعروف أنه بدءًا من القرن الرابع الميلادي وبعد منشور ميلان سنة ۳۱۳م، وبعد أن صارت المسيحية ديانة معترفاً بها في الإمبراطورية الرومانية، بدأ عصر بناء الكنائس والكاتدرائيات، ولكن كيف كان شكل الكنيسة في عصور الاضطهاد، أي في الثلاثة قرون الأولى بالتحديد؟ 

لقد دلت الاكتشافات الأثريَّة الأخيرة في كل من القدس (أورشليم) والناصرة على وجود أماكن مسيحية يهودية مشتركة تعود للقرنين الأول والثاني للميلاد، بالإضافة إلى شهادة النصوص والممارسات التي تدعم التأكيد على أن المسيحيين في القرنين الأولين كانوا يقيمون الشعائر الدينية في المجامع اليهودية، ذلك لأن مقاومة الإمبراطورية الرومانية للمسيحية لم تكن قد أخذت صبغتها الرسمية إلا في حوالي سنة ١٦١م ، أما قبل ذلك التاريخ فقد كانت المسيحية معتبرة أنها شيعة يهودية لا ديانة مستقلة بذاتها. 

وهناك أدلة معمارية تدل على أن المسيحيين كانوا يُجرون بعض التعديلات في المباني العادية كالبيوت مثلاً لكي تصبح صالحة كأماكن للعبادة، ثم بدأوا بعد ذلك وبالتدريج يبنون كنائس بسيطة. ولقد كشفت الحفريات التي قامت بها بعثة فرنسية أمريكية مشتركة سنتي ۱۹۳۱، ۱۹۳۲م في مدينة “دورا – يوربوس Dura – Europos “ على نهر الفرات عن أحسن مثال لبيت تحول إلى كنيسة. وتدل الشواهد على أن “دورا – يوربوس كانت من قبل مملوءة بالمعابد الوثنية. ولقد وجد هناك مجمع يهودي بحالة جيدة وبالقرب من كنيسة مسيحية، وكانت هذه الكنيسة مسكناً من قبل، ولكن في سنة ٢٥٠م تحول هذا المسكن إلى كنيسة بإزالة حائط داخلي لكي يكون هناك مكان متسع للاجتماع، وبنيت منصة منخفضة للمذبح و المنبر . وفي حجرة صغيرة عُملت المعمودية. ويظهر على الحوائط آثار بعض الرسومات، أما بقية المسكن والفناء الملحق به فالأرجح أنها كانت تستخدم للإدارة الكنسيّة، ومسكن للأسقف. 

وبالإضافة إلى استخدام المجامع اليهودية ثم البيوت ككنائس للصلاة في بواكير المسيحية، استخدمت أيضاً السراديب تحت الأرض والتي كانت تُبنى خارج المدن كمواضع للدفن، حيث وجدها المسيحيون أماكن آمنة لإقامة الإفخارستيا، حيث أن القانون الروماني كان يأمر بعدم مهاجمة هذه السراديب كأماكن لدفن الموتى. 

ولقد ترك مؤرخو القرن الثالث الميلادي نصوصاً ذكروا فيها بوضوح أسماء الأماكن التي كانت تقام فيها الشعائر الدينية المسيحية. فالمؤرخ بورفير (+۲٦٨م) يتكلم عن غرف كبيرة يجتمعون فيها للصلاة. ويحكي يوسابيوس القيصري (٢٦٠ – ٣٤٠م) أن أسقف قيصرية اصطحب القديس مرتينو إلى “الكنيسة” بعد خروجه من المحكمة، و أن بولس السموساطي أسقف أنطاكية، رفض الحرم الذي أصدره بحقه مجمع أنطاكية، وترك “بيت الكنيسة”. 

أما أول كنيسة أنشئت في مصر – بعد كنيسة القديس مرقس بالإسكندرية – فقد بناها الأقباط في ضاحية بوكاليا، وقد رآها مارمرقس الرسول نفسه. كما بنى البابا ثاؤنا (۲۸۲ – ۳۰۰م) السادس عشر من بابوات الكرازة المرقسية كنيسة باسم السيدة العذراء في مدينة الإسكندرية أيضا. وعن هذه الكنيسة يقول القديس ساويرس بن المقفع في مؤلفه “تاريخ بطاركة الكنيسة القبطية“. “ولما تنيح مكسيموس جلس بعده تاونا على الكرسي بالاسكندرية … وبنى بيعه حسنه على اسم السيدة مرتمريم وسميت طاماوتا. والى هذا الوقت كانت الشعوب تقدّس في المغاير والكهوف والمواضع المخفيه. فمن ماري مرقس الى السنه الثالثه من بطريركيّة تاونا مايتي وتسعه عشر سنه …”. 

وفي بنتس شيد القديس غريغوريوس النزينزي (۳۲۹-۳۸۹م) الناطق بالإلهيَّات كنيسة في قيصرية الجديدة سنة ٢٥٨م، هذه التي أمر الإمبراطور أورليان بولس السموساطي سنة ۲۷۰م أن يسلمها للأرثوذكس. 

وفي الغرب في عهد الإمبراطور الروماني ألكسندر ساويرس (٢٢٥-٢٣٥م) وهي من الفترات النادرة التي نعم فيها المسيحيون بالراحة من نير الاضطهاد، شيّد المسيحيون في روما كنيسة، قام الأسقف كالستوس بتدشينها ، وقد حلّ موضعها الآن كنيسة القديسة ماريا. 

وشيد الأب غريغوريوس المنير (٢٤٠-٣٣٢م) الأرمني ثلاث كنائس حوالي سنة ۳۰۰م ، حيث بكرازته قبلت أرمينيا المسيحية كديانة قومية لها قبل عصر قسطنطين. 

فواضح إذا أنه بجوار المجمع اليهودي والبيوت العادية والسراديب التي استخدمت كأماكن للعبادة المسيحية شيدت أيضا كنائس بسيطة وقليلة في أماكن متفرقة من الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف آنند.

على أن هذه الكنائس قد حل محلها كنائس أكبر لتزايد أعداد الداخلين إلى الإيمان فيقول يوسابيوس المؤرخ: “من يقدر أن يصف بالكامل تلك الاجتماعات التي احتشدت بأعداد لا حصر لها؟ وتلك الجموع المجتمعة معا في كل مدينة؟ حتى لم تعد المباني القديمة تكفي وصارت الضرورة ملحة لإقامة كنائس على مساحات أكبر في كل مدينة“. 

ويقول لاكتانتيوس: “بانتهاء الاضطهاد الدقلدياني تزايد عدد المتردّدين على الكنائس بصورة كبيرة، فهدمت الكنائس القديمة في كل المدن، وشيدت من جديد من أساساتها إذ لم تعد المباني تكفي جموع المتعبدين المتزايدة، فأقيم في مواضعها مباني أكثر اتساعا وفخامة”. 

وهكذا نجد أنه مع بداية القرن الرابع للميلاد كان بروما وحدها أربعون كنيسة، خمس وعشرون منها بالمدينة ، وخمس عشرة بالضواحي. 

أما في مصر فنجد أن بقايا بعض المعابد الوثنية قد تحولت إلى كنائس وأديرة، ولكن يبدو أن هذا لم يحدث قبل القرن الخامس للميلاد. 

ثانياً: شكل الكنيسة قديماً من الخارج والداخل 

الاتجاه للشرق في الصلاة هو تقليد قديم غير مكتوب توارثه المسيحيون منذ البداية، كما يذكر ذلك القديس باسيليوس الكبير (۳۳۰ – ۳۷۹م). ويُعد القديس كليمندس الإسكندري (١٥٠ – ٢١٥م) أول من أشار إلى الاتجاه للشرق في الصلاة. وعلى ذلك فإن اتجاه الكنيسة إلى الشرق في بنائها هو أمر أساسي في تصميمها، وهو ما نجده منطبقاً بكل دقة في الكنائس القديمة في مصر. بينما هو أمر لم تعرفه كنائس أوروبا إلا في العصور الوسطى. 

ويعتقد المؤرخ الإنجليزي بتلر Butler أن أوروبا قد أخذت عن الكنيسة القبطية هذا الطقس، فيقول في ذلك: ” … ومن الممكن أن يكون توجه الكنائس الأوروبية إلى الشرق والذي لم يكن معروفا في البداية وأصبح منتشرا في العصور الوسطى قد أخذ عن مصر”. 

ولا يميز مباني الكنيسة القبطية من الخارج شئ عن المباني المحيطة بها، فلا يوجد للكنيسة القبطية نموذج معماري خاص بالواجهة، بل نرى أن واجهتها المطلة على الطريق العام – وغالباً ما تكون الواجهة الغربية – تمتد لتلتحم مع المباني المجاورة بحيث لا تبدو مستقلة عما حولها. فلم يكن الفنان القبطي يقصد أن تنتزع الكنيسة إعجاب الناظرين بمبانيها الفخمة ونقوشها الباهرة، بل بالحري انجذاب العابرين إلى ما بداخل الكنيسة من عمق التسابيح والصلوات وجمال الطقوس. 

وتبنى الكنيسة عادة على أحد شكلين: 

  • الأول شكل الصليب 
  • الثاني: شكل السفينة 

أما الشكل الأول (شكل الصليب) فهو ما لم يعرفه المعمار القبطي. وكما يقرر بتلر Butler إن البنائين الأقباط لم يعطوا اهتماماً لهذا الشكل وربما لم تكن لهم أية دراية به. 

أما الشكل الثاني (شكل السفينة) فهو النموذج الذي يبني عليه الأقباط كنائسهم، ولعل فلك نوح أو سفينته كانت رمزاً واضحاً لمسؤولية الكنيسة تجاه بنيها حين تعبر بهم بحر هذا العالم سالمين. فالعالم الذي خلق من الماء هلك به، ولم ينج سوى ثمانية أنفس كانت بداخل الفلك وكما استطاع الفلك وحده أن يخلص من الطوفان، هكذا كنيسة الله وحدها هي القادرة على خلاص البشر على حد قول القديس كبريانوس الشهيد (٢٨٥م) [لا خلاص خارج الكنيسة]. 

ولقد أشار القديس أغسطينوس (٣٥٤ – ٤٣٠م) إلى فلك نوح كرمز للكنيسة قائلا: [الفلك بلا شك هو رمز مدينة الله في رحلتها عبر التاريخ، وهو رمز الكنيسة التي خلقت بالخشبة التي علق عليها الشفيع بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح (۱تيموثاوس ٥:۲)].

ويقول القديس يوستينوس الشهيد (١٠٠-١٦٥م) في دفاعه [لا يمكن عبور البحر إلا إذا بقيت علامة النصرة – أي الصاري – على السفينة دون أن يصيبها ضرر ] (٥٥:١). 

ويقول العلامة ترتليان (١٦٠ – ٢٢٥م) في مقاله عن المعمودية: [ترمز السفينة إلى الكنيسة التي تقاومها أمواج الاضطهاد والتجارب والرب في طول أناته يبدو نائماً حتى اللحظة الأخيرة عندما توقظه صلوات القديسين فيبكم العالم ويرد السلام لذويه] (۷:۱۲) 

وفي القوانين الرسولية (٥٧:٢) وصيَّة للأسقف المرسوم حديثا تقول: “حين تجتمع بكنيسة الله كن كقبطان لسفينة عظيمة، لاحظ أن تكون الاجتماعات مقادة حسناً . انظر أن يُري الشمامسة الإخوة مواضعهم، فيكونوا كبحَّارة في تعاملهم مع المسافرين…. لتكن السفينة مبحرة نحو الشرق، فيقف الملاحظون عند المدخل يحرسون الناس، وتقف الشماسات عند أبواب النساء كمضيفات”. 

وفي الدسقولية العربية، وهي ترجمة كتب المراسيم الرسولية (النصف الثاني من القرن الرابع): “ليكن البيت الذي هو الكنيسة مستقلا إلى الشرق في طوله، وتكون أروقته من جانبيه إلى النواحي الشرقية، وهكذا يتشبه بالمركب وليكن كرسي الأسقف منصوباً في الوسط. ويكون القسوس جلوساً حواليه من جوانبه، والشمامسة قياماً أمامه مستعدين. وتكون أذيالهم (أطراف ثيابهم) مشمرة إلى فوق مربوطة يشبهون النوتية باهتمام” (الباب العاشر)

إن الكنيسة وهي متخذة شكل السفينة تنقل إلينا إحساس المسافرين بالغربة طالما أنهم لم يصلوا إلى الميناء بعد فكل الآمال معلقة على الوصول بسلام إلى الميناء. وكلما اشتدت العواصف وارتفعت الأمواج وعصفت بالسفينة، كلما ازدادت اللجاجة في طلب النجاة. كل هم المسافرين أن يستخدموا مياه البحر لتنقلهم إلى الميناء، ولكن الحذر كل الحذر أن تدخل هذه المياه إلى داخل السفينة، فتكون المياه التي كانت وسيلة للوصول فحسب سبباً في الهلاك. 

وهناك في الأبدية السعيدة وعندما تكون السفينة قد وصلت إلى مرساها الأبدي، حيث وجه يسوع، فلا تعود تخشى أمواجاً أو عواصف لأن البحر لن يوجد فيما بعد (رؤيا ۱:۲۱ ) . أما هنا فالبحر حتما سيهيج وفي مؤخر السفينة سينام يسوع حتى يظل التساؤل «أين إيمانكم؟» (لوقا ۸ :٢٥) يختبر دوماً إيمان المسافرين فقبول الرب في السفينة بكل الإيمان هو الواسطة الأكيدة والوحيدة لوصولها كنعان السمائية بسلام أليس هو الذي قال للبحر الهائج اسكت ابكم»، فحين نقبل يسوع في سفينة حياتنا للوقت نصل إلى شاطئ الأرض التي نبغي الوصول إليها. 

وثمة مأساة حدثت في قصة فلك نوح، وظلت المأساة تتكرر من جيل إلى جيل، وكأن الإنسان لا يتعلم من التاريخ شيئاً. كانت الفاجعة هي أن كل الذين تعبوا في بناء الفلك طيلة مائة عام كاملة كلهم هلكوا، هلكوا لعدم الإيمان كانوا يبنون بأيدهم فلك النجاة، ولما أتموا بناءه هلكوا، وعبثاً تشبثوا به من الخارج، وفاتهم أن يدخلوا إليه قبل أن يغلق الرب بابه وضاعت كل أعمالهم التي كانوا قد قبضوا أجرها. إن الكنيسة تنبه بذلك أذهان خدامها الذين ينهمكون في بنائها وتشييدها وتنظيمها، وينفقون أموالا طائلة في تزيينها أنها لا تريد مالهم بل إياهم. نظموا الداخلين ولم يدخلوا، ولما أغلق الباب قرعوا، فسمعوا الصوت من الداخل: لا أعرفكم من أين أنتم . هذه كانت مأساة الفلك القديم، فهل نرعوي فلا نكرر القصة من جديد؟ لأن هذه إنما كتبت مثالاً لنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور 

وكما حوى الفلك طيور وحيوانات طاهرة وغير طاهرة هكذا تحوي الكنيسة قدّيسين، وأيضاً خطاة يطلبون النجاة. 

ثالثاً: المعمار القبطي و علاقته بفنون المعمار الأخرى 

نقصد بفنون المعمار الأخرى، أي فنون المعمار الفرعوني والبازيليكي والبيزنطي، وعلاقة المعمار القبطي بها، ولاسيما فن المعمار الكنسي، وهو ما يعنينا في المقام الأول. 

 إطلالة على بعض خصائص المعمار في مصر الفرعونية 

تقول الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها شخصية مصر“: في المعمار المصري، الأعمدة السامقة الثابتة تحيطك بالقوة، وتؤكد لك أن قومنا لم يهربوا من المادة، ولكنهم جعلوها تشف وتبين أنت داخل المعابد المصرية تحس الطمانينة بين العُمد الشامخة، والجدران الغنية وصور الحياة التي تشعرك بالعمران … بالعيش “. 

ويقول ف. لوولن ، أستاذ الآثار المصرية بجامعة أكسفورد: “كان المصريون القدماء مهرة في صناعات كثيرة بصورة خارقة، ولنا أن نعجب بقدرتهم على نقل النصب الهائلة التي بلغت زنة الواحدة منها ألفاً من الأطنان من المحاجر إلى المعبد البعيد، ورفعهم المسلات إلى وضعها العمودي فوق قاعدة ضيّقة، وذلك كله بلا روافع هندسية. وقد أمكن في السنوات الأخيرة فقط تفسير هذه العجائب حقا … وقد لا يمضي زمن طويل حتى نعرف بصورة قاطعة كيف تغطت أسطح هائلة من الصوان وغيره من الحجارة الصلدة بنقوش دقيقة، وكتابة هيروغليفية، وذلك في خلال عهد ملك واحد” 

ويقول أيضا : “إن الكيفية التي تقام بها مسلة تقيلة مع أنها نحيلة لمن المسائل الكثيرة التي أثارتها مصر طلبا للحل. والمسلة المصرية بشكلها العمودي التقليدي تمثل أسلوب مصر في البناء وشخصيتها فيه… ذلك الأسلوب الذي التزمته مصر حتى عصرنا الحاضر بعد كل مظاهر التحوير وإن العين المتأملة لا تخطئ وحدة الفن في المسلة والمئذنة والبرج (منارة الكنيسة) … إنه الخيط الذهبي الذي يربط فن مصر على طول العصور ويؤكد شخصيتها”. 

إن استقرار الحضارة في مصر ولمدة طويلة على أسس سلامية أعان على نضج وجداني عند الإنسان المصري، يجمع بين الواقعية والمثالية، وهي أعلى مراتب الوعي الروحي. 

ومن مزايا العمارة المصرية القديمة حتى الدولة الحديثة، أن فنها كان ينبثق من بين خطوطه إشعاعات قويَّة، استطاع في ضوئها اليونان والرومان معرفة السبيل إلى التكوين والإنشاء، إذ عرفوا منها كيف يضعون خطوطهم المعمارية لتتلاقى عند هدف واضح كالخطوط المصرية. 

كانت المصاطب ومن بعدها الأهرام ثم سلسلة من آثار المعابد والنصب التذكارية والمنشآت المدنية من أحجار الجرانيت والبازلت الصلبة التي كانت تتوسد شاطئ النيل هي أول أمثلة لنظريات العمارة في العالم، وأول طراز معماري عرفه التاريخ. وكان للعمارة المصرية أثرها وفضلها في ظهور الطرز المعمارية التي عاصرت مدنيَّات الغرب. 

إن الآثار المصرية – لا أقول عن الشامخة منها – ولكن الخرائب فحتى هذه الخرائب تنبثق منها رؤية البقاء … إنها عالقة بالخلود معلقة به. إن آثارنا ليست منسوبة إلى الماضي وحده وإلا اقتصر أمرها على قني محفوظة، ولكنها تخلصت من التاريخ والزمن وخرجت إلى أفق المعنى ولهذا فهي باقية. 

مصر أول من استعمل الفسيفساء المذهبة، ومصر أول من استعمل القبو في التسقيف. 

 إطلالة على بعض خصائص المعمار في مصر المسيحية 

العمارة في مصر المسيحية كانت في نفس الراهب. فقد كان في داخل الراهب المصري معبد مصري بمعانيه لا بأحجاره. 

ولكن الفنون تعاني في حياتها فترات من الخمول أو الضعف، فإذا واتتها ظروف جديدة للانتعاش عادت حاملة معها مختلف صفاتها القديمة وخصائصها وطبعها. ولقد حدث في العصر المسيحي في مصر حين أفسحت الحياة المصرية مجالاً للفنون أن نمت الفنون وترعرعت حاملة في طياتها مختلف الصفات الموروثة من عصور سابقة. وفي هذا تقول زالوشر”: “إننا نؤمن الآن أن الفن لا يتقدم في خط مستقيم مطرد، بل من الثابت أن تياراته تتقابل وتتراكم ثم تمحى وتختفي لتعود إلى الظهور بقوة ووضوح”. 

وإن ظاهرة العودة إلى الظهور نجدها ملموسة في الفن القبطي. فهو الأول في الشرق القديم الذي له صفته الشعبية. فإن الأباطرة لم يعودوا يقطنون مصر كما كان الحال في أيام الفراعنة، أو أيام البطالمة، بل كانت مصر في عهدهم ولاية رومانية تابعة لروما أو بيزنطة،وصار الأباطرة إذا أرادوا إقامة أعمال فنية تخلدهم يقيمونها في عواصمهم لا في مصر. وبذا اتجه الفن القبطي نحو الشعبية البحتة، فنحن إذا نظرنا إلى الكنيسة الكبيرة في الدير الأبيض قرب سوهاج وهي من بناء القديس شنوده، أو إذا زرنا كنائس مصر القديمة، أو دير القديس سمعان في الضفة الغربية بأسوان، أو كنائس الواحات الخارجة أو إذا شاهدنا الآثار القبطية في المتحف القبطي، أو مختلف متاحف العالم، نجد أعمالاً فنيَّة قام بها الشعب المصري ووضع فيها الفنان القبطي عصارة روحه ومهارته. 

ولقد خيل للبعض أن الفن القبطي فن ديني يتصل بالكنيسة والعبادة فحسب، وما من شك أن هذا الرأي خاطئ، فهو فن الشعب المصري بأكمله، يظهر في الأمور الدينيَّة، كما يظهر في النواحي المدنية بوضوح. وإن كنا نجد أن أغلب العمائر الباقية من ذلك العصر هي عمائر دينيَّة مثل الكنائس أو الأديرة، فمرجع ذلك إلى اهتمام الشعب عادة بدور عبادته ومحافظته عليها. ولكن منذ العصر الفاطمي أخذ الفن القبطي ينحصر بين الأقباط أنفسهم، ويحيا مرتبطا بالنواحي الدينية والطقسية فقط حتى عصرنا هذا. 

أما العمارة فكأي لون من ألوان الفنون الجميلة، هي انعكاس للبيئة بكل ما تحتويه من معان روحيَّة ومادية والعمارة المصرية القديمة يتمثل فيها هذا المعنى بشكل واضح مجسم. فهي في جميع مراحلها تعبر لنا تعبيراً واضحاً عن التيارات المختلفة التي تنازعت المجتمع المصري في مختلف العصور. ولعلنا لا نكون مبالغين إذا ذهبنا إلى أن التفوق والتسامي اللذين امتازت بهما العمارة المصرية القديمة كان لها صدى روحي بالغ الأثر في تكييف الفن المعماري في جميع أنحاء العالم. 

ويقول الدكتور مراد كامل : “العمارة القبطية هي العمارة الفرعونية، وهي العمارة اليونانية والرومانية في مصر، وهي العمارة الإسلامية في مصر. وأما الفوارق التي تفصل بين كل منها فهي فوارق إقليمية اقتضتها السلطات الزمنيَّة في عهد ما، ثم بعض اعتبارات دينية ولكنها في الحقيقة تلتقي عند الأصول والأسس التي قامت عليها العمارة الفرعونية . ومهما يكن فإن ما دخل عليها في كل عصر من تحوير أو تكييف بما يلائم ظروف البيئة، لم يمنعها من أن تظل محتفظة بروحها وعناصرها الأساسية. 

والعمارة القبطية قفزت بروح الفن الفرعوني وبعناصره، وكل ما طرأ عليها من تحوير فإنه لم يمس إلا مظهرها الشكلي فقط، فهي حلقة أخيرة أكملت حلقات الفن المتصلة منذ الحضارة المصرية القديمة والحضارة اليونانية الرومانية بمصر“. 

ولما كان الفن المصري يرتبط بفنون الدين ويلازمها، فقد احتفظ في العهد المسيحي بكثير من التقاليد في الحياة اليومية والجنائزية والأعياد وغيرها. 

أما روما مركز المسيحية في الغرب، والتي تشرف على الحضارة الأوروبية الغربية، ثم القسطنطينية وهي مركز الحضارة الشرقية، فقد حاولت كل منهما إيجاد طراز جديد لعمارة تتفق مع الدين الجديد، إلا أنهما كانتا دائماً مقيدتين بالحضارات القديمة التي سبقت العهد المسيحي، ووجدتا نفسيهما مضطرتين لنقل كثير من تعاليم هذا الدين الجديد عن مصر التي سبقتهما في المعرفة والعلم، فنقلتا عنها الكثير من الرموز والتقاليد، كما نقلتا كثيراً من فنون مصر ، واتخذتا منها منبعاً للوحدات الزخرفية التي قرب فيها المصري بين نماذجه القديمة وبين دينه الجديد، ولذلك ترى أن مراكز المسيحية تبنت من هذه الوحدات الزخرفية القديمة ما استطاعت كل منها أن تفسره بطريقة تتفق مع دينها الجديد. 

فقد كانت للبيوت أبواب خشبية كبيرة كما نراه في الريف المصري الآن، ولها مزلاج من الخشب معروف إلى اليوم. وكانت للبيوت أسقف مرتفعة، ولها واجهات منمقة بحجارة منقوشة مزخرفة بأوراق العنب عادة . وكانت بها كنائس كالتي عُثر على بقاياها في مدن أبا مينا ومصر القديمة وباويط و البهنسا وإسنا وطيبة وسقارة وأسوان وسوهاج والواحات الخارجة. وهي تتكون من قاعات فسيحة بها صفوف من أعمدة رخامية مستديرة أو مضلعة ذات رؤوس منقوشة بأبدع النقوش والألوان الثابتة الزاهية. ويكون هيكلها مفصولاً عن القاعة بحجاب مصنوع من الخشب المنقوش أو المعشق على أشكال هندسية مختلفة، ومحلى بصور القديسين، وأشكال مختلفة للصليب، وبعض رقائقه من العاج، كما نجد ذلك في كنيسة أبي سرجة بمصر القديمة ومن الناحية الشرقية من الكنيسة حنية أي تجويف في الحائط. 

ووصلنا كثير من أفاريز المباني ورؤوس الأعمدة، وكثير مما تزين به الجدران والأسقف والأعمدة والمصنوعات المعروفة بالفسيفساء ونشاهد الآن في المتحف القبطي وفي متاحف العالم المختلفة تيجانا لأعمدة من الحجر نشعر فيها بتأثير البيئة على الخيال الفني، فمنها المجدول على شكل السلال تجديلا أتقن النحات صنعه حتى بدا شديد الشبه بالسلال المصنوعة من القصب التي لازالت متداولة بيننا ومنها  تيجان منحوتة بشكل زخرفي لأوراق النبات أو الفروع النباتية أو الزخارف المتشابكة من نبات العنب أو الرمان أو نبات الأكانتس أو سعف النخيل أو نبات اللوتس. ومنها تيجان مزينة تجاويفها بزخارف محارية الشكل، وبعضها ملون باللون الأخضر، وهو اللون الطبيعي للنبات. وهناك بعض زخارف عُثر عليها تعبر عن ظواهر الطبيعة كمداعبة الهواء لأوراق الشجر، فجاء التعبير عنها تعبيراً حياً يكاد يسمعنا حفيفها. 

وكانت النقوش تزين الجدران بالألوان أو بالحفر، وكذلك عبر هذا الفن عن البيئة تعبيراً صادقاً، فنجد في المتحف القبطي على سبيل المثال واجهة باب من باويط من الحجر الجيري على شكل نصف دائرة، وقد حلي برسوم هندسيّة وبزخارف ثمار الرمان. وهذا يدل على ارتباط المصري قديماً وحديثاً وفي مختلف العصور بخواص البيئة المصرية بل والأقاليم المصرية، ولايزال الرمان يُنسب إلى منفلوط. 

وكذلك زخرف القبط الحوائط والأفاريز بصور من الطيور والحيوانات فنری ضمن زخارف الفن القبطي صوراً لصيادي الطيور والأسماك والوحوش المفترسة كالأسود، فضلا عن الحيوانات المصرية الأليفة كالأرانب والغزلان. وأصل الكثير من هذه الزخارف يرجع إلى مصر الفرعونية، ويبيّن وحدة الفن المصري في عصور مختلفة.

هذه الزينة البديعة التي زينت كنائس الأقباط من الداخل كان يقابلها تجاهل متعمد للزينة الخارجيَّة لكنائسهم. وهي واحدة من أهم الخصائص القبطية البارزة في معمار الكنائس. وهي خصائص لا توجد في سوريا ولا في بيزنطة ولا في كنائس أوروبا أو الكنيسة اللاتينية بوجه عام. ويعقب بتلر على ذلك بقوله : ” … بينما ساد في البلدان الأخرى الشعور بأن خارج الكنيسة يستحق اهتماماً بالعمارة الفخمة مثل الداخل، فإن هذه البساطة في الشكل الخارجي كانت تدل على مقتضى الحال بالنسبة للأقباط. 

تأثر فن المعمار الكنسي المصري بنظيره الفرعوني 

من المعقول أن تكون الكنائس القبطية القديمة قد أخذت شكلها عن أماكن العبادة الخاصة بأسلافهم. أي معابد قدماء المصريين. ففي الحقيقة أدى انتشار المسيحية الأول في مصر إلى تحول المعابد الوثنية إلى كنائس. وقد سجل لنا الكثير من أمثلة النساك المسيحيين الذين سكنوا المقابر القديمة والمقدسات الخاصة بالفن طلبا للعزلة. 

ومن الطبيعي عندما بدأ الأقباط مؤخرا في إقامة كنائس خاصة بهم أن جاء المهندسون المعماريون بالمعابد تطابق في شكلها ما قام به البناؤون القدامى، خاصة بعدما بدا أنها تحمل إمكانية تحقيق مطالب الإيمان الجديد خلال القرون الأربعة الأولى أثناء التحول من الوثنية إلى المسيحية. 

إن طبوغرافيا المعبد المصري القديم تحمل ثلاثة أقسام:

– القسم الأول البوابة الخارجيَّة، وهي تقود إلى بهو مفتوح محاط بصفين من الأعمدة مع سقف ضيق من الحجارة.

– القسم الثاني: يوجد خلف هذا الرباعي الضخم المخصص لعبادة العابدين قاعة ذات سقف مرتكز على الأعمدة وهذا الموضع مزدحم بالأعمدة في صفوف متقاربة تكون معا سقفاً ضخماً من الحجارة مخصص للأسرة الحاكمة، وجماعة الأرستقراطيين. 

– القسم الثالث يأتي في نهاية المعبد، وهو عبارة عن غرفة صغيرة مغلقة، أو بالحري مضيئة بطريقة غامضة، محوط بسور عظيم، تحوي القدس الداخلي أو قدس الأقداس، فيها يقيم اللاهوت، ولا يقترب إليها سوى فرعون أو رئيس الكهنة. 

ويبدو أن الكنائس القبطية الأولى قد أبقت على هذا التقسيم الثلاثي 

كما تشهد بذلك بعض كنائس الأديرة القديمة. فالقسم الداخلي في الكنيسة وهو خلف حامل الأيقونات، أي الهيكل، لا يُسمح بالدخول إليه لغير الكهنة والشمامسة لخدمة السر المقدس. وخارج الهيكل، يوجد صحن الكنيسة وهو مخصص للمعمدين والقسم الأخير، وهو عند المدخل ويُترك مفتوحا للموعوظين غير المعمدين. 

وفي وقت غير معروف – ربما في حدود القرن الخامس – اختفى التمييز بين المسيحي المعمد والموعوظ. وبهذا فإن تقسيم الكنيسة قد أعطى مجالاً للثالوث العمودي، أي صحن الكنيسة وجناحيها، وبهذا بدأ النظام البازيليكي يؤكد ذاته في المعمار الكنسي القبطي. وتعتبر 

كنيسة مارمينا التي شيدها الإمبراطور أركاديوس (٣٩٥ – ٤٠٨م) في منطقة مريوط بجوار الدلتا، وآثار الكاتدرائية الضخمة بالأشمونين، وديرا أنبا شنوده الأبيض والأحمر بسوهاج أمثلة لهذا التغيير الوشيك الوقوع في القرنين الرابع والخامس، إلا أنه من ناحية أخرى، فإن عدم انتظام أشكال كنائس مصر القديمة إنما يشير إلى أن نظام البازيليكا قد قبل ببطء. 

ويذكر الدكتور عزيز سوريال عطية في كتابه تاريخ المسيحية الشرقية، أنه : “بالرغم مما عانته أغلب الآثار القبطية القديمة من غارات مستمرة وإهمال الكثير منها وتحطيمه، لكنه لا يزال يمثلها عدد من المباني الديرية والكنائس تحمل شكلها الأولى الأصيل، لهذا يستطيع رجل المعمار أن يرسم صورة صادقة عن أساسيات المعمار القبطي“. 

فنَّا المعمار الكنسي اللذان سادا في العالم المسيحي 

ساد في العالم المسيحي طرازان لعمارة الكنائس هما الطراز البازيليكي، والطراز البيزنطي، فهل حقا هما طرازان ينتسبان إلى المعمار الروماني أو البيزنطي؟، أم أنهما مسميان وفدا إلينا من خارج مصر، واستقرا باسميهما فيها برغم أنهما أصلا إبداع معماري مصري بحت؟ هذا ما سنعرض له في السطور القادمة بشهادة مؤرخين وعلماء أجانب، لكي لا يكون الحكم في ذلك متحيزاً. 

 الطراز البازيليكي 

كلمة بازيليكا – Basilica “ مأخوذة عن الكلمة اليونانية Baouiurog وتعني “ملوكي” أو “ملكي“ . ويرى بعض الباحثين أن هذه التسمية ربما تكون نسبة إلى باسيليوس ملك اليونان الذي وهب البهو الملكي الذي كان مخصصا كدار للقضاء ليكون كنيسة. ولما كان هذا البهو الملكي مستطيل الشكل وله جناحان أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار، وكان الصحن الأوسط أكثر اتساعاً وارتفاعاً، فقد عُرف كل بناء كنسي يكون على هذا النمط باسم النظام البازيليكي. وعلى ذلك يرى بعض رجال المعمار أن ساحات القضاء الروماني تمثل إحدى الأشكال الهامة التي تأثر بها المعمار الكنسي، خاصة في غرب أوروبا. فكانت المباني الكنسية تمثل بالطابع “البازيليكي” أو “الملوكي“. 

إلا أن هذا الرأي تعوزه الحجة، لأن هذا النظام بالذات كان معروفا في مصر قبل أكثر من ألفي سنة، فمعبد خفرع أحد ملوك الأسرة الرابعة ( ۲٥۰۰ ق.م) قد بُني على هذا النمط تماما. فهذا البناء المستطيل الشكل كان يتخذه قدماء المصريين نموذجاً لبعض معابدهم ليكون على نمط الإنسان الكامل الإله بتاح، ولما اعتنقوا المسيحية رأوا الاحتفاظ بهذا النمط ليكون ممثلاً للإنسان الكامل الرب يسوع المسيح. 

وهذا النمط من البناء كان يسمح أن تُبنى الكنيسة به من طابق واحد ، ولها عدة مذابح أو هياكل، وهكذا استمرت الكنيسة القبطية في جميع عصورها تشيد كنائسها من طابق واحد، وبداخلها طابق أو طابقان جانبيان للسيدات. ولقد انتشر هذا الطراز في مصر أيام الرومان بعد مجمع خلقيدونية سنة ٤٥١م ، إذ بسبب الاضطهاد الذي استجد على الكنيسة لجأت إلى تشييد هذه الطوابق مع إيجاد ممرات سرية للهروب منها وقت الخطر، إذ أن المرأة لا تستطيع أن تقاوم الحملات الغادرة التي كان يقوم بها الجنود الرومان. 

ويؤكد العالم جلبرت Gilbert على عدم وجود أي ارتباط بين البازيليكا الروماني سواء في ساحة القضاء أو البيوت، وبين الطراز البازيليكي الكنسي، إذ يرى أن الأخير ذو أصل مستقل به. ويؤكد الدكتور مراد كامل في كتابه العصر القبطي في تاريخ الحضارة المصرية“ ما ذهب إليه جلبرت حيث يقول : يذهب البعض إلى أن تصميم الطراز البازيليكي دخيل على الأقباط، وواقع الأمر أنه مصري صميم، نجده أول الأمر في قاعات الاحتفالات بمعبد الكرنك التي شيدها تحتمس الثالث حوالي سنة حوالي سنة ١٤٠٠ق.م. 

ويؤكد بتلر في كتابه “الكنائس القبطية القديمة في مصر”، على أن المعمار القبطي له أصالته الخاصة به بالرغم من التشابه الذي يبدو بين الكنائس القبطية وتلك التي لها الطابع البازيليكي، فالكنائس القبطية غنيَّة بالدلائل التي تؤكد نظريّة جلبرت في أن النظام البازيليكي المسيحي ليس امتداداً للروماني. 

ففي مصر شاهد قوي وهو كنيسة المغارة الواقعة أسفل كنيسة أبي  سرجة بمصر القديمة، ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني أو الثالث، وهي مقسمة طولياً إلى ثلاثة أقسام. وطقس الهياكل الثلاثة في الكنيسة الواحدة القائم في أقدم الكنائس القبطية هو بحد ذاته برهان قاطع على أن وجود الرواقين الجانبيين هو طقس هندسي أكثر منه فنا. وهو موغل في القدم، إذ يرجع إلى عصور المسيحية الأولى حيث كل هيكل يتبعه صحن خاص إلى درجة أن اعتبر كل هيكل بصحنه عبارة عن كنيسة قائمة بذاتها، وباسمها الخاص كما في كنيسة الأنبا أنطونيوس الأثرية بديره بالصحراء الشرقية. 

إن الكنيسة الأولى عموماً بدأت بصالة مستطيلة بسيطة يقسمها عقد دائري يفصل بين الهيكل والصحن هذا التصميم الأولى أضيف إليه طوليا فيما بعد جناحان جانبيان، ثم إضافة ثالثة في المدخل. بينما أن أصل البازيليكا الرومانية هو ساحة مفتوحة تحيط بها بواكي على أعمدة. ثم تطور هذا التصميم فصارت هذه الساحة مغطاة بسقف، ثم أهملت البواكي الجانبية ، فصارت البازيليكا الرومانية عبارة عن صالة عالية يغطيها قبو مستطيل. وفي هذه الساحة أو هذه الصالة كان يجلس القاضي وحوله المحلفون ومساعدوه في القبو البازيليكي. وقد انتقلت هذه الصورة إلى الأسقف الجالس على كرسيه يحيط به الكهنة. 

والمثل الواضح على ذلك هو كنيسة أجيا صوفيا التي شيدت في القسطنطينية سنة ٥٢٧ م ، وكنيسة مارمرقس في البندقية بإيطاليا، وهي تعود إلى القرن الحادي عشر أي خلال السنوات (١٠٢٤-١٠٨٥م). 

ولأن الكنائس القبطية قد امتازت بكثرة القباب فقد ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن المعمار القبطي إنما هو فرع من فروع المعمار البيزنطي، ويبررون ذلك بالعلاقة التي قامت بين الإسكندرية وبيزنطة حينما صارت الأخيرة عاصمة الدولة الرومانية الشرقية. ولكن الحقيقة هي أن الأقباط هم الذين اخترعوا القباب منذ العصر الفرعوني، ثم أدخلوه في كنائسهم العصر المسيحي، وهو ما صار يُعرف فيما بعد باسم الطراز البيزنطي. وعن مصر أخذ الإغريق وكل الغرب هذا الطراز، ومن ثمَّ انتشر في كل كنائس الدنيا. فإذا زرت الهرم الثالث الذي بني سنة ۲٥٥٠ ق.م، تجد أن حجرات الدفن كلها مزينة بالقباب، وقد اكتشفها الإنجليزي الأثري “فيز” في سنة ١٨٣٨م. 

وحتى الكنائس الصليبية الشكل والتي تسمى بالطراز البيزنطي، وهو النظام الذي يعلوه دائما القباب هو اختراع مصري صميم. ومن هذا نرى أن تأثير الفن القبطي قد أصبح واضح التأثير على الفن البيزنطي. لهذا يجب أن يكون واضحاً أن الفن البيزنطي قد تأثر كثيراً بالفن القبطي وإلى حد بعيد. ولكن علينا ألا نتجاهل نموذجاً واحداً متفرداً للقبة المركزية بين كنائس القاهرة، وهي كنيسة القديسة بربارة، فهي الكنيسة الوحيدة التي يتخذ مبناها شكل الصليب برغم أن تفاصيلها تنتمي إلى الطراز البازيليكي بوجه عام. 

ويؤكد العالم الإنجليزي بتلر ذلك بقوله : “إن القبة – ولها الأهمية القصوى – تعود إلى أصل شرقي لا يُمارى فيه . وأظن أنه من المحتمل أن يكون الطراز البيزنطي قد استعارها من الإسكندرية وليس العكس فمن المؤكد أن استخدام القبة في بابل يرجع إلى العصور القديمة، وأن المباني ذات القباب كانت شائعة الاستخدام في أيام الساسانيين، لذلك يستطيع الإنسان أن يتصور عمارة كنيسة أجيا صوفيا مثلها مثل العمائر اليونانية في العصور الكلاسيكية تدين بالكثير لمصر“. 

ونستطيع القول إنه لا توجد في مصر حالة واحدة لكنيسة تمثل الطراز البيزنطي، لأن كنائس مصر تتميز بوجود القباب الكاملة فوق الهياكل، وليست أنصاف القباب التي تحيط بالقبة المركزية كما في الطراز البيزنطي الخالص. 

إذا ليس ثمة تأثير مباشر من الفن اليوناني على الفن القبطي بل إن العكس هو الصحيح تماماً. وهو ما يؤكده الدكتور طه حسين فيقول: فالتأثير المصري في فنون العمارة والنحت والتصوير عند اليونان شئ لا يُجحد ولا يُمارى فيه. والتأثير المصري يتجاوز الفن الرفيع إلى أشياء أخرى تمس الفنون التطبيقية، وتمس الحياة العملية اليومية… ومن الحق أن نعترف بأن مصر لم تنفرد بالتأثير في حياة اليونان، ولا في تكوين الحضارة اليونانية، وإنما شاركتها في ذلك أمم شرقيَّة أخرى كان لها حظ موفور من الحضارة والرقي وهي تلك الأمم التي كانت تعمر هذا الشرق القريب. 

ويلخص الدكتور طه حسين تأثر كلا الحضارتين المصرية واليونانية ببعضهما بقوله : “كان من أشد الشعوب تأثرا بالعقل المصري أولا، وتأثيراً فيه بعد ذلك، العقل اليوناني“ 

لقد امتازت الكنائس القبطية بكثرة القباب فقد ظلت القبة عند الأقباط هي النموذج المفضل لأسقف الكنائس سواء كانت قبة واحدة أو عدة قباب. فأقرب الكنائس القبطية إلى الطراز البازيليكي لا تخلو من قبة تغطي هيكلها الأوسط. 

وغالباً ما توجد قبتان جانبيتان للهياكل الصغيرة الجانبية. والقبة التي تقع في وسط صحن الكنيسة تماماً محتضنة ساحة الكنيسة تسمى البانطوكراتور” أي الضابط الكل، وغالباً يُرسم فيها أيقونة الرب. وفي بعض الكنائس خمس قباب والقبة الرئيسية في المركز تمثل الرب الضابط الكل والأربعة الصغار حولها يمثلون الإنجيليين الأربعة. وغالباً ما تكون القبة الوسطى محمولة على أربعة أعمدة يمثلون البشيرين الأربعة. 

وإن القباب التي تغطي هياكل الكنيسة وصحنها نجدها على سبيل المثال في كنيسة أبي السيفين بمصر القديمة، أو كنيسة السيدة العذراء بالزيتون. 

فضلا عن أن المعمار البيزنطي يستخدم شكل الصليب في بناء الكنائس، وهو ما لم تعرفه كنائسنا القبطية القديمة. فالمهندسون الأقباط لم يكونوا يميلون إلى تصميم كنائسهم على هذا الشكل. 

ولقد تحدث هاملتون في كتابه فن المعمار البيزنطي قائلاً: “الإسكندرية كمدينة عظيمة مزدهرة لها أثرها الفعال في تكوين الفن المسيحي لزمن طويل، لابد أن كان بها كنائس عظيمة وجميلة، لكن جميعها اختفى منذ زمن بعيد لابد لمصر أن تكون قد امتلكت العديد من الكنائس الفخمة، وإن أغلب الكنائس الحالية صغيرة الحجم وفقيرة المادة“. 

وجدير بالذكر أنه لم يتبق في الإسكندرية كنيسة واحدة ترجع مبانيها إلى القرون الثلاثة الأولى، فيقول ريبوارت Rybwart في كتابه بناء الكنائس يصعب جداً تقدير مساهمة الإسكندرية في التطور العام للمعمار الكنسي، فإن كنائس الإسكندرية على خلاف القسطنطينية لم تتحول ببساطة بوساطة الغزاة المحدثين لاستخدامهم الخاص وإنما غالباً ما حطمت وتركت بغير ملامح. 

وخلاصة القول، إن التصميم المعماري القبطي للكنائس صار يجمع بين الطرازين البازيليكي والبيزنطي، فلا توجد كنيسة واحدة تخلو من عناصر متناسقة من كل من الطرازين، فعمارة الكنائس القبطية تمثل في أغلب الحالات طرازا مختلطاً هو نصف بازيليكي ونصف بيزنطي، بينما نجد في حالات أخرى طرازا غير بازيليكي، ولكنه ليس بيزنطيا تماماً. فالبناء القبطي أقام القباب العظيمة القدر بحيث تلقي ظلالها على المذابح، ولكنه نادراً ما اهتم برفع أية قباب أخرى على الإطلاق هذه القبة المركزية نجد نماذج لها في الكنائس القديمة، بالإضافة إلى وجود القباب الكاملة لهذه الكنائس فوق الهياكل. 

والخلاصة هي أن فن المعمار الكنسي في الكنيسة القبطية هو فن مستقل في هندسته عن الطرازين البازيليكي والبيزنطي. 

وأخيرا نود الإشارة إلى أنه مع انضواء مصر تحت الخلافة العباسية، ظهر في مصر فنون معمارية تميل إلى الحضارة الإيرانية وخصائصها، حيث زاد أثر فنون “سامرا” على الإنتاج الفني والمعماري في مصر والذي يمثله حتى اليوم بوضوح قبة كنيسة الشهيد أبسخيرون بدير القديس أنبا مقار، وهي قبو من طراز مربع تعرفه فنون العمارة الإيرانية. ومع امتزاج التقاليد الفنية المحلية بالطراز العباسي الوافد من سامرا نتج ميراث فني ناضج نهل منه الفاطميون. ونالت الكنائس والأديرة حظا وافرا من التجديد والتزيين والتأثيث بأساليب معمارية وفنيَّة إسلامية، إذ تظهر في كثير من كنائس الأديرة خصائص معمارية إسلامية واضحة تتمثل في طرق البناء والتسقيف وأشكال النوافذ كما يُرى في هيكل البابا بنيامين بكنيسة دير القديس أنبا ،مقار وكنيسة العذراء بدير السريان، ودير أنبا شنوده بسوهاج، ودير الشهداء بإسنا. كما يظهر التأثير الفني الإسلامي على التصاوير الجدارية وزخارفها في الكنائس والأديرة، وعلى أزياء بعض القديسين المصورين على جدران الكنائس القبطية كما يُرى في ثوب المجوس بالحنية الشمالية الشرقية بهيكل يوحنا المعمدان بكنيسة أنبا مقار بوادي النطرون، وكذلك ملامح الوجوه التي تأثرت بالأسلوب التخطيطي الإسلامي كما في شكل أحد القديسين على أحد أعمدة الكنيسة المعلقة بمصر القديمة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى