خيمة الاجتماع وهيكل أورشليم نواة الكنيسة
تقديم
ظلت الكنيسة في فكر الله منذ الأزل، ولما حان وقت استعلانها للبشر، أراها الرب لموسى على الجبل بعدما صام موسى أربعين نهارا وأربعين ليلة، خيمة غير مصنوعة بيد، وأوصاه أن يصنع كل شئ بحسب المثال الذي رأته عيناه. فتصميم الكنيسة إذا لم يكن من إنسان بل من الله. فانحدرت الكنيسة من الجبل وهي في فكر موسى، حتى أكمل كل الشعب بناءها على الأرض بكل إتقان وإلهام وإذعان، فصارت كنيسة الجبل والبريَّة أول كنيسة للإنسان كنيسة شبه السماويات وظلها محل سكنى الله وسط شعبه ومحل عبادة الشعب لربه الإله.
كنيسة ليست بفطنة إنسان أو حكمته، بل بإعلان الله لكل دقائق تفصيلاتها، فهي عروسته التي يزيّنها لنفسه بحسب مشيئته، لتكون أهلا لسكناه رمز إلى أن الله لا يسكن في بيت مصنوع من فكر إنسان وبحسب هواه بل راحته تكون في بيت من صنعه هو ووفق تدبيره ورغبته وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء ثابتة إلى النهاية (عبرانيين ٦:٣). أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم (اكورنثوس ١٦:٣). وفي ذلك أيضا يقول القديس كيرلس الكبير (٤١٢ – ٤٤٤م) عن العذراء القديسة مريم [ السلام لمريم الهيكل غير المنهدم … الموضع الذي احتوى غير المحوى].
وإن كانت علاقة كنيسة العهد الجديد بكنيسة العهد الأول هي علاقة البناء بالأساس، إلا أن كنيسة العهد القديم كانت ظلا لكنيسة العهد الجديد، بينما كنيسة العهد الجديد تمثل السماء عينها، والحقيقة ذاتها. ويرى القديس إيريناؤس (۱۳۰ ۔ ۲۰۰م) أن خيمة الاجتماع هي رمز لأورشليم السمائية، مسكن الله مع الناس، فيقول:
[عندما تزول هذه الأشياء من على الأرض، يقول يوحنا تلميذ الرب: إن أورشليم الجديدة العليا سوف تنزل (من السماء) كعروس مزينة لرجلها، فهذا هو مسكن الله حيث يسكن مع الناس … وعن هذا المسكن تقبل موسى مثاله على الجبل].
الماضي والحاضر والمستقبل كزمن مادي، كله حاضر في الكنيسة، لأن المسيح رأسها هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد . الكنيسة أبدية لأنها مولودة بالروح القدس المحيي معطي الحياة، فهي حية أبدأ، ومقدسة أبدا، وحاضرة أبداً إن على الأرض أو في السماء مذبحها ناطق سمائي، هيكلها السماء عينها ، إفخارستيتها جسد الابن الوحيد بالحق، ودمه الكريم بالحق ، فهي وحدها التي يمكنها أن تستحضر الآن فعل دم المسيح على الصليب أو كأس دم المسيح في ليلة العشاء الأخير في آن معاً، دون أن يعوقها زمن بعينه أو مكان بذاته، فقوة موت المسيح الخلاصي وقيامته حاضرة فيها دوماً، وبلا مانع لكل من يريد.
الماضي في الكنيسة خبرة إيمانية تُضاف إلى حاضرها، ومستقبل الكنيسة حاضر كل حين بإيمانها ورجائها، فهذا هو عمل الروح القدس فيها، الذي يعلن لنا ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن، بل يفحص أيضا حتى أعماق الله نفسه رأس زاوية الحياة الأبدية، ونورها وحياتها ومركزها وفرحها.
والأساس الذي أرساه الله للكنيسة منذ أن كانت خيمة في العهد القديم، حفره وعمقه جداً ودعمه بطرق منوعة حكيمة، ليتحمل خلاصاً شاملاً عظيماً بهذا المقدار، مدعوا إليه كل إنسان وشعب وأمة تحت السماء.
أولاً: خيمة الاجتماع أو كنيسة البرية
حوت خيمة الاجتماع ملامح كنيسة العهد الجديد بدقائق تفصيلاتها. فهذه الخيمة البسيطة المقامة على عصي وأوتدة والمسقفة بجلود تخس وشعر معزى وغنم، والتائهة في البرية محمولة على الظهور والأكتاف، في تنقل وترحال من مكان لمكان، لا تجد مستقرا لها على الأرض حتى تبلغ أرض راحتها، قد حملت في ظاهرها وباطنها سر الكنيسة وخلاص العالم كله.
لقد حلت خيمة الاجتماع وتصبت ، لتكون محل سكنى الله بين الناس، وهو ذات التعبير الذي يستخدمه القديس يوحنا الحبيب حين يقول: في مستهل بشارته عن المسيح له المجد «الكلمة صار جسدا، وحل بيننا» (يوحنا ١٤:١) . فتعبير ”حل بيننا” في اليونانية هو έσκήνωσεν έν ήμίν أي “نصب خيمته بيننا أو في وسطنا“. وفي ذلك يقول القديس غريغوريوس النيسي (٣٣٠ – ٣٩٥م) في تعبير بديع له عن ابن الله:
[الذي في طبيعته الذاتية ليس مصنوعاً بيد بشرية، ولكنه تقبل وجوداً مخلوقا لما صار لازماً عليه أن ينصب خيمته بيننا].
فالخيمة إذا لم تكن إلا صورة مادية صغيرة مجسمة لحقيقة روحية عظمى عتيدة أن تستعلن حينما يحين ملء الزمان ويتجسد ابن الله فيرتقي الإنسان من الصورة إلى الحقيقة، ومن المادة إلى الروح، ومن الطفولة الساذجة إلى الرجولة الكاملة، ومن الحدود العقلية إلى الرحب المطلق في الله. هذه الخيمة التي نظر إليها بولس الرسول بعين الاستعلان فرآها شبه السماويات وظلها كما أوحي إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن (عبرانيين ٥:٨)
كانت الخيمة من خارجها لا منظر لها يمكن أن نشتهيه فخارجها جلود خشنة لتخس وكباش، أما في داخلها فكانت مزينة بأنواع كثيرة، لأن مجدها كله من الداخل حرير وكتان نقي، وذهب مع فضة وأخشاب عطرية، وبخور زكي، وخبز إلهي، ومنارة ذات سبعة سُرج ووصايا إلهيّة مكتوبة بأصبع الله الحي على حجارة صماء. رمز للمسيح وصليبه، الذي هو عار وهزء في الظاهر، ومجد وبهاء في الخفاء.
كانت خيمة الاجتماع الخشنة من الخارج، والجميلة المزينة بكل حكمة بأمثلة ورموز من الداخل، وحلول الله فيها مع الشعب، هي الصورة الأولى للكنيسة، والأصل الذي يحمل دقائق الصلات التي تربط الإنسان بالله.
كل ما فيها بل واسمها يشير إشارة صريحة إلى حقيقتها: خيمة الاجتماع، أي اجتماع الله مع شعبه، “حيث أجتمع بكم لأكلمكم هناك، واجتمع هناك ببني إسرائيل فيُقدَّس بمجدي، وأقدس خيمة المنارة ذات السبعة سرج الاجتماع والمذبح، وهرون وبنوه أقدسهم لكي يكهنوا لي وأسكن في وسط بني إسرائيل، وأكون لهم إلها” (خروج ٤٢:٢٩ – ٤٥). هذا هو أول معنى للكنيسة، فالكنيسة ليست اجتماع مؤمنين فحسب بل اجتماع الله بالمؤمنين، أي وجودهم في الحضرة الإلهية لسماع كلام، ونوال معرفة للحياة.
ولو فحصنا كل الفرائض والطقوس التي فرض على الكهنة والشعب ممارستها في الخيمة نجد أنها تهدف نحو غاية واحدة، هي تأهيل الناس لحضور الله بين شعبه فطقوس التطهير بالماء، والتكريس بدهن المسحة، والتقديس بالدم، ثم تطهير الإنسان وتكريسه وتقديسه ليصبح أهلا لمعية الله وحضرته هي طقوس لازمة ولا غنى عنها لشعب أو جماعة في حضرة الله القدير. هذه وصايا الله للإنسان وتكميلها برهان طاعة وخضوع الإنسان الله.
وكان يلزم أن يكون في الخيمة حجاب ووسيط، فالحجاب يحجب قدس الأقداس حيث التابوت الذي من على غطائه يتكلم الله الوسيط أي رئيس الكهنة، والذي يلزمه أن يُجري التطهير والتكريس و التقديس أولاً، وأن يحمل في يده دما كجواز مرور بين الشعب القائم خارج الحجاب والله الكائن وراء الحجاب. فطالما توجد خطية، فلابد من الماء والزيت والدم والوسيط، وكلها رموز للمعمودية والميرون والإفخارستيا والكهنوت. ويشرح القديس بولس الرسول أن حجاب الخيمة الداخلي هو جسد المسيح، وأن رئيس الكهنة هو رمز المسيح نفسه، فيقول إن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقة، بل إلى السماء عينها، ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا بعبوره الحجاب أي جسده.
وكان يوم تنصيب الخيمة في البريَّة، بوضعها البدائي المتنقل على الرمال، وجلودها الخشنة تعبيراً واقعياً عن اقتناء الله لأول كنيسة للإنسان، كنيسة البريَّة الخشنة، شعب إسرائيل الصلب الرقبة، الذي يمثل كل شعب، بل كل نفس يوم أن يلاقيها الله أول مرة، وهي تائهة شريرة في بريَّة العالم منجسة بخطاياها. ولكن هناك في قدس الأقداس حيث يسكن الله ، هناك في الهيكل، كان الرمز معبراً عن اختيار الرب للنفس لحلوله فيها، وجعلها هيكلاً روحياً لسكناه، ففي داخل القلب يسكن الروح القدس فينا ليتكلم معنا، ويشفع فينا بأنات لا ينطق بها.
والقدس؛ والذي يحوي مائدة خبز الوجوه، كما يحوي المنارة التي هي نور استعلان الكلمة لمعرفة الحق، قد أكد قول الإنجيل المقدس عن المسيح له المجد أنه خبز الحياة، وأنه نور العالم.
أما مذبح البخور المقام في مواجهة الحجاب، فقد ظلت الصلوات المرفوعة عليه صباحا ومساء، ترجو اجتياز الحجاب، لا برئيس كهنة من الناس لأجل الناس، يدخل الأقداس مرارا كثيرة بدم الذبيحة ليقدّمه عن نفسه وعن الشعب كل سنة، بل برئيس كهنة الخيرات العتيدة الذي يدخل الأقداس بدم نفسه مرة واحدة ويُدخلنا مائدة خبز الوجوه معه؛ فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقا كرسه لنا حديثاً حياً بالحجاب أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله» (عبرانيين ۱۰: ۱۹، ۲۰).
وظلت الخيمة تتنقل مع الشعب أربعين سنة في البريَّة إلى أن بلغت حافة الأردن، وهناك توقف الشعب بأمر إلهي ثلاثة أيام أمام نهر الموت (البحر الميت) ثلاثة أيام بالذات، وهي المدة اللازمة للعبور من الموت إلى الحياة بمعمودية في نهر الأردن. ثم صدر الأمر بالعبور فعبروا الشاطئ الآخر للنهر، شاطئ أرض الميراث، كنعان الراحة، أرض الخيرات.
إذا فقد جازت خيمة الاجتماع نهر الأردن نهر المعمودية الشهير نهر الموت والقيامة، وجاز الشعب معها، بل جاز الشعب بواسطتها، لأنه حالما لمست أقدام الكهنة حاملي التابوت حافة النهر ، انشق الأردن بمجد عظيم، وهربت المياه من تحت أرجل الكهنة. انشق الأردن كما انشق الموت من وسطه، وخرج التابوت وخرج معه الشعب إلى شاطئ الحياة الأخرى، كما خرج الرب من القبر في ثالث يوم.
وعلى ذلك فقد وضعت في أساسات خيمة البريَّة، مواصفات المعمودية بدقة . كيف سيجوز الرب الموت بنفسه، ويخرج غالباً فتجوز معه الكنيسة وكل نفس إلى شاطئ القيامة ليرث هو الأمم «اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك» (مزمور ۲) وترثه الأمم أيضا «لأن الأمم شركاء في الميراث والجسد» (أفسس ٦:٣).
وللعلامة أوريجانوس المصري (١٨٥- ٢٥٤م) تأمل بديع في خيمة الاجتماع ومحتوياتها والرموز التي كانت تشير إليها فيقول:
[أوضح الرب سر بناء الخيمة بقوله لموسى: «تصنعون لي مسكنا في وسطكم»، يشتهي الله أن يصنع له مسكنا بيننا واعدا إيانا برؤيته كمقابل ذلك، أما مسكن الرب الذي يريدنا أن نقيمه فهو القداسة … بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم الله خيمة داخل قلبه….
ليكن للنفس مذبح في وسط القلب، عليه تقدم ذبائح الصلاة ومحرقات الرحمة، فتذبح فوقه ثيران الكبرياء بسكين الوداعة، وتقتل عليه كباش الغضب وماعز التنعم والشهوات…
لتعرف النفس كيف تقيم داخل قدس أقداس قلبها منارة تضئ بغير انقطاع. ففي بيت الرب الذبيحة روحية والسكين عقلي، والحجارة حيّة، فيقول بطرس الرسول «كونوا أنتم أيضاً مبنيين كحجارة حية، بيتا روحيا كهنوتا مقدساً، لتقديم ذبائح روحيَّة مقبولة عند الله بيسوع المسيح» (بطرس ٥:٢)].
ثانياً: هيكل أورشليم
ظلت الخيمة تتنقل في البريَّة، ولم تكن لها إقامة ثابتة إشارة إلى طلب وطن افضل ثابت لا يتغير، إلى أن بلغت ملك الأمم . ولكنها ظلت تتنقل أيضاً في ملك الأمم إلى أن قام داود رجل الحروب الذي أراد أن يبني الله بيتا، ويقر للخيمة وطناً دائماً. ولكن بسبب حروبه لم يسمح الله له بذلك، إشارة إلى أن الكنيسة ستظل متغربة بلا وطن إلى أن يحل السلام، فيبني سليمان البيت في أورشليم مدينة السلام، لأنه كان ابن سلام، إذ خضع له أعداؤه، إشارة إلى المسيح رئيس السلام الذي سيأتي ويغلب أعداءه أي الخطية والموت والعالم، ويضعهم تحت قدميه فيهيئ للكنيسة وطنا سماويا أفضل، ويعد منازل كثيرة في بيت الآب في مدينة السلام الأبدي أورشليم السمائية.
وأخذت أعمدة الهيكل أسماء خاصة بها، إشارة إلى الآباء الرسل الذين صاروا أعمدة كنيسة العهد الجديد، وإشارة إلى الغالبين الذين يصيرون أعمدة في هيكل أورشليم الجديدة النازلة من السماء. أما تاجا عمودي الهيكل بوعز وياكين فهما إشارة إلى إكليل البر والخلاص العتيد أن يلبسه الغالبون.
وحجارة الهيكل كانت تنحت بمواصفات خاصة خارجاً، وتأخذ شكلها المناسب لوضعها في البناء، سواء كانت للأساس أو للسور أو للأعمدة أو للمذبح، لأنه لم يُسمع في البيت عند بنائه منحت ولا معول ولا أداة من حديد (١ملوك ٧:٦). وذلك إشارة إلى أنواع المؤمنين المعتبرين حجارة حية في بيت الرب الروحي. فهنا زمان نحت الحجارة حيث تهذب بالآلام بحزن وصراخ ودموع، حتى إذا انطلقنا إلى السماء نأخذ مكاننا الخاص في هيكل السماء، جوار العرش، كل حسب موضعه فهناك في السماء لا يُسمع صوت بكاء ولا دموع ولا حزن ولا تنهد.
فحجارة الأساس: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» أفسس (۱۰:۱)، وأساساتها اثنا عشر عليها أسماء رسل الخروف الاثني عشر.
وحجارة الأسوار والأبواب يدعوها إشعياء أسوار خلاص وأبواب تسابيح. وعلى الأبواب اثنا عشر ملاكاً وأسماء مكتوبة هي أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر» (رؤ ۱۲:۲۱).
وحجارة المذبح، هم الشهداء الذين غلبوا بدم الخروف؛ «رأيت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم رؤيا»
وغشى سليمان كل حجارة حوائط البيت من الداخل بالذهب الخالص المصفى بالنار، إشارة إلى الإيمان القلبي الذي سيربط جميع المؤمنين معاً في هيكل الله الواحد.
أما الحجاب الفاصل الذي يحجب خلفه قدس الأقداس، مسكن الله عن أروقة الشعب فكان لا زال قائماً، لأن الخطية كانت لا تزال تفصل الإنسان عن الله. وجعل سليمان أيضا حاجزاً يفصل بين أروقة اليهود ورواق الأمم، رمزا للعداوة التي كانت تحجز الإنسان عن الإنسان.
وظل البخور يُرفع على مذبح البخور خارج قدس الأقداس حيث مسكن الله الذي يفصله الحجاب الفاصل، حتى قدم المسيح ذاته ذبيحة على الصليب فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة. فانتقل مذبح البخور إلى قدس الأقداس في كنيسة العهد الجديد، حيث يشئم الآب كل حين ذبيحة ابنه حاملة فيها مصالحة الإنسان مع الله، والإنسان مع أخيه الإنسان.
أما موائد خبز الوجوه، وهو الخبز الذي كان يشير إلى الخبز الحي النازل من السماء، فظلت متعددة في هيكل أورشليم حتى صارت في الهيكل الجديد مائدة واحدة، وإفخارستيا ،واحدة ، لأن الذبيحة واحدة أي ذبيحة المسيح على الصليب عوض ذبائح العهد القديم المتعددة التي لم تنفع شيئاً.
كان الهيكل عظيماً في بنائه احتاج بناؤه إلى عشرة آلاف عامل متطوع، وألفي كاهن في ثيابهم المزركشة، ليضعوا حجارته بعد أن صقلها النحاتون. وكان أعجوبة زمانه لأساساته الرخامية الفخمة وفسيفسائه الثمينة، وأخشابه العطرية الرائحة، وسقوفه اللامعة وأبوابه التسعة المحلاة بالذهب والفضة والحجارة الكريمة، وكرمته الذهبية بعناقيدها المعلقة المحفورة على مدخل الباب، وسجفه المزركشة المنقوشة بالورود الأرجوانية. وأروقته المرتفعة بتدرج بديع، رواق الأمم بفسيفسائه الثمين، وأعمدته الفخمة التي من حجر واحد، وفوقه سلم من أربع عشرة درجة يؤدي إلى رواق النساء، وبعده سلم من خمس عشرة درجة يؤدي إلى رواق الكهنة، ثم بعده أيضا سلم من اثنتي عشرة درجة يؤدي إلى الطابق الأخير المتوج بالقدس، وقدس الأقداس الذي شبهه الربيون بأسد رابض، والذي برخامه الأبيض وسقوفه المحلاة بالذهب كان يماثل جبلاً عظيما تتوج الشمس الذهبيَّة قممه الثلجيَّة.
ولكن مع هذا البهاء كله ظل هذا الهيكل العظيم ينتظر من يشق حجابه، حجاب الخطية ليصالح الإنسان مع الله، ومن يهدم الحاجز المتوسط بين اليهود والأمم ليرفع العداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان. حتى جاء ملء الزمان فجاء المسيا. وفي ذات يوم أخذه تلاميذه ليروه أبنية الهيكل العظيم فقال لهم «أما تنظرون جميع هذه، الحق أقول لكم إنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض» (متى ١:٢٤،٢) . ويا لهول المفاجأة، كان البناؤون لا يزالون يشتغلون بهمة كما كانوا يفعلون منذ نحو خمسين سنة، ولكن كان عملهم مقضيا عليه بالفناء قبل أن يكمل ! وما اعتبره اليهود رمزا لتاريخهم ومفخرة لديانتهم منذ أيام سليمان، حكم عليه بالخراب. ودفن الهيكل في رماد خرابه بعد خمس وثلاثين سنة لا يزيد . لم يجد الله في بيته محلا لسكناه، فعوض أن يكون بيته بيت صلاة، صار مأوى لكل مفتخر بغير الله . فكان عدلاً أن يُسمع فيه حتفه المحتوم «هوذا بيتكم يُترك لكم خرابا» (متى ۳۸:۲۳). فكانت نبوة عن زوال الهيكل القديم وابتداء زمان إقامة الهيكل الجديد.
ثالثاً بين خيمة الاجتماع وهيكل أورشليم
الخيمة صورة لإمكانية حلول الله مع الإنسان بعد أن يتقدَّس ويتطهَّر بماء ودم. أما الهيكل فقد أعطى صورة لعدم إمكانية دوام قداسة الإنسان طالما يوجد حجاب أو خطيئة بينه وبين الله.
والخيمة وهي تهيم في البريَّة تصور لنا الكنيسة وهي تسعى نحو الوطن الدائم في هذا العالم، ثم نجد الهيكل المتهدم يبدد كل أمل في وجود هذا الوطن على الأرض.
والخيمة تطوى وثفرد، وتحمل وتُوضع وتنصب وثفك، معبرة في ذلك عن الآلام والاضطهادات التي ستجوزها الكنيسة في جهادها، أو الضيقات التي تجوزها النفس في بريَّة العالم. والهيكل الواقف في أورشليم كالطود ، يمثل الكنيسة وهي تناطح الزمن في عصورها الأخيرة، أو النفس عندما تدخل راحتها وتستقر مع الله في حياة غير مضطربة.
وعندما عبرت الخيمة نهر الأردن، وصارت هيكلا، أعطت لنا صورة عن الانتقال من الجسد العتيق إلى الإنسان الجديد عبر المعمودية.
والضباب الذي كان يحل على الخيمة بالنهار، والنور البهي الذي يستقر عليها ليلا، يوضح لنا رعاية الله، وعنايته الدقيقة، وعينه المفتوحة على الكنيسة والنفس، ليلا ونهاراً طول أزمنة جهادها، أو طالما هي في جهاد حقيقي.
ثم ضياع الخيمة وتخريب الهيكل وفقدان التابوت يهيئ ذهننا إلى هيكل آخر غير مصنوع بيد، ومدينة أخرى بانيها الله، منتقلين من أمثلة الأشياء التي في السماويات إلى السماويات عينها، ومن أشباه الحقيقة إلى الحقيقة ذاتها، ومن مسكن مصنوع بجلود معزى أو منحوت من حجارة إلى «المسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة» (عبرانيين ۱۱:۹)
رابعاً: الهيكل الجديد
كان المؤمنون يجتمعون في خيمة من جلود، ثم كانوا يجتمعون في هيكل من حجر ، فكان المكان الواحد يجمعهم ودم الحيوانات يطهر أجسادهم فيهيئهم للوجود في حضرة الله.
أي أن المكان الواحد كان عنصرا هاما في العبادة، فلم يكن إلا خيمة واحدة، أو هيكل واحد يحضر إليه كل يهود العالم لتقديم الذبيحة ويجتمعون فيه. فإذا اجتمعوا في الهيكل معا تطهروا، وإذا اشتركوا في الذبيحة الحيوانية تقدَّسوا بالجسد ، وإذا خرجوا تفرقوا، فكانت وحدتهم مكانية مؤقتة وكانت قداستهم جسدية محدودة.
أما كنيسة العهد الجديد التي أسسها المسيح بدمه، فهي كائنة في كل مكان، فحيثما يجتمع المؤمنون في حضرة الرب برئاسة الأسقف فهناك تكون الكنيسة. فالكنيسة (إكليسيا) هي جماعة المسيحيين حيثما اجتمعوا، وهو ما تردّده الأسفار المقدسة، ثم أطلقت الكلمة على البناء الذي يجتمع فيه المسيحيون لعبادة الرب.
ودم الحيوانات في الخيمة والهيكل كان يستطيع أن يقدّس إلى طهارة الجسد فقط، أما النفوس فلا يقدسها إلا دم إلهي يتعمق كيانها الروحي غير المدرك.
هيكل غير محدود
الخيمة في ظاهرها وباطنها، والهيكل في بنائه وكيانه، لم يكونا إلا رمزا للجسد، جسد المسيح الذي حل فيه ملء اللاهوت متحداً به، الذي أعطى لنا أن نأكل منه لنتحد به فنجتمع فيه فصار جسد المسيح الخيمة الجديدة، والهيكل السري غير المنظور الذي فيه يجتمع المؤمنون بل ويتحدون، وهم المؤمنون من كل لسان وشعب وأمة تحت السماء، سواء الذين رقدوا أم الذين يجاهدون.
إذا فقد امتدت الخيمة إلى كل أطراف الأرض (أعمال ۸:۱)، واتسع الهيكل فشمل السماء، وعبر الأزمنة السالفة فشمل الأزليَّة، والأزمنة الآتية فشمل الأبدية هيكل جسده القائم من الأموات «الكنيسة أي جسده» (كولوسي ۱۸:۱)
والله بعد أن كان يحل في وسط شعبه، صار يسكن في داخل شعبه، يأكلونه في سر الإفخارستيا فيثبتون فيه، ويتحدون به فيجتمعون، كما تثبت الأغصان فى الكرمة فتتحد بها مجتمعة.
الحجاب في الهيكل الجديد
كان الحجاب قديما الذي يفصل قدس الأقداس عن المسكن وبالتالي عن الشعب من حرير أزرق، وكان يشير إلى السماء التي هي الحجاب الذي يحجب مسكن الله عن الإنسان.
ولم يخترق أحد قط هذا الحجاب ونزل منه إلا ابن الإنسان الذي صعد أيضا إلى ما وراء هذا الحجاب إلى قدس الأقداس، سماء السموات، مسكن الله الآب حيث جلس عن يمينه ليتراءى أمام وجهه كرئيس كهنة من أجلنا. ولكن ساعة أن صلب الرب وأسلم الروح، انشق حجاب الهيكل فتراءى قدس الأقداس للإنسان، فدل ذلك في الحال على أن السماء قد انفتحت ودخل ابن الإنسان ليتراءى أمام الله ورفع الحجاب الذي يفصل الله عنا، رمز الخطيَّة التي أبطلها المسيح بذبيحة نفسه، فصار لنا نحن أيضا ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، وصرنا قادرين بجرأة أن نتقدَّم إلى عرش النعمة لنجد رحمة، وذلك بواسطة أخذ جسد يسوع ، الحجاب الذي كان يحجب اللاهوت ويحمله الذي لما انشق على الصليب كشف اللاهوت وأعلنه بالقيامة من الأموات. فبعد أن كان حجاباً صار طريقا حيا حديثاً إلى الأقداس، الذي به صار للإنسان أن يرى الله في السماء بلا مانع.
وهكذا صارت السماء وسماء السموات جزءًا مكشوفا في الهيكل الجديد، واتصلت الأقداس العليا في السموات بالأقداس المتواضعة على الأرض في الإنسان. أليس هذا هو ما نطلبه كل يوم «لتكن مشيئتك كما السماء كذلك على الأرض» (متى ١٠:٦).
وعلى ذلك لم يعد هيكل الله إذا حجارة صلبة وأعمدة رخامية، بل حجارة حيَّة، قلوبا لحمية، نفوساً منيرة أعمدة إيمان لا تزعزعها الجبال، وبالاختصار «أنتم أبناء الله» (۱كورنثوس ۹:۳).
أما الحاجز المتوسط، حاجز العداوة الذي كان يفصل أروقة اليهود عن رواق الأمم رمز العداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان، فقد رفعه المسيح في الوسط، إذ صالح الاثنين في جسد واحد ـ أي جسده ـ مع الله بالصليب قاتلاً العداوة بموته عن الاثنين، أي اليهود والأمم. فنقض حائط السياج المتوسّط بينهما، أي ناموس موسى وفرائض اليهود. فصار معه عهداً جديداً وخلاصاً لكليهما، جاعلاً الاثنين واحداً، الأمم كاليهود في كل شئ. وأصبح للجميع قدوم إلى الله الآب بروح واحد محسوبين جميعا رعية واحدة مع القديسين وأهل بيت الله كل من يؤمن.