هي كنيسة بلا بهاء أو قوة دنيويَّة، كنيسة إنجازاتها الرئيسية إنجازات ليتورجيَّة ثقافيَّة تبشيريَّة. كنيسة تحدَّت البقاء على قيد الحياة ضمن أسوار من العُزلة والازدراء. ولم يبدأ وجود كنيسة المشرق الآشورية في القرن الثالث كما يعتقد بعض المستشرقين، ولكنها كنيسة تأسست في آخر العصر الرَّسولي أي في نهاية القرن الأوَّل، أو على الأكثر بداية الثاني في بلاد ما بين النهرين على الضفة الشرقيَّة للفرات، ضمن حدود الإمبراطورية الفارسية القديمة، وخارج الإمبراطورية الرومانية. فنعمت بقسط وافر من الاستقلالية السياسية والكنسيّة، وقدَّمت كغيرها من الكنائس آلافاً من الشهداء من أجل الحفاظ على إيمانها. لكنها سقطت في شئ من الانزوائيَّة. فما هو أصل هذه الكنيسة؟ ومن أين أتت؟
يؤكد دكتور عزيز سوريال عطيَّة في مؤلّفه ” Eastern Christianity – المسيحيّة الشَّرقيَّة“، أن هذه الجماعة المسيحيّة هي في الحقيقة بقايا الأسباط العشرة التي سُبيت في القديم إلى أرض الكلدانيين فيما بين النهرين إلى ما وراء بابل وهي أرض آشور. فعلى مدى أجيال طويلة حفظ جانب كبير من سلالة العبرانيين في المنطقة الشمالية من آشور، والتي تعرف الآن باسم “کردستان ، والتي عُرفت قديماً باسم “أديبنه“ مسكن الأسباط العشرة في “جوزان وحاران ومنطقة حلح . ومنهم تسلسل أبناء الكنيسة النَّسطورية في وقتنا الحاضر.
وهناك أدلة تثبت أن أصل هذه الكنيسة هم الأسباط العشرة الذين سباهم تغلث فلاسر أوَّل ملوك الآشوريين، وبعده شلمناصر:
+ لو رجعنا إلى التقرير الذي كتبه لوقا الطبيب في سفر الأعمال عن المجتمعين في أورشليم يوم الخمسين لوجدناه يذكر «يهوداً أتقياء من كـــل أمَّة على وجه الأرض ، ومن ضمنهم يذكر «الماديون والعيلاميون والساكنون ما بين النهرين. هؤلاء كانوا في العيد في أورشليم، وأُتيح لهم أن يشاهدوا المعجزات التي اقترنت بحلول الرُّوح القدس على التلاميذ في يوم الخمسين، فإذا بهم يسمعون الرُّسُل ينادون ببشارة الإنجيل بنفس اللغة التي ولدوا فيها.
وكذلك لو رجعنا إلى نفس السفر في الأصحاح السادس والعشرين، واستمعنا إلى الخطاب الذي ألقاه القدّيس بولس الرسول أمام الملك أغريباس، فإننا نجده يذكر أنه واقف في موضع الاتهام ليحاكم على رجاء الوعد الذي صار من الله لآبائنا. الذي أسباطنا الاثنا عشر يرجون نواله. فلو كان أغريباس يشك في هذه الحقيقة – أي حقيقة وجود هذه الأسباط لما ترك هذه الملاحظة تمر دون اعتراض.
+ يذكر المؤرخ يوسيفوس في حديثه عن الملك أغريباس أنه بعد مرورٍ أربع سنوات على محاكمة القدِّيس بولس الرسول أمامه أنه ألقى خطاباً على اليهود محاولاً تسكين ثائرتهم ضد الرُّومان، وقال لهم: “وهــل تعتقدون أن إخوتكم الساكنين عبر الفُرات في أديبنه سوف يهبـون لمعونتكم؟ ، وكان قد مرَّ على سبي الأسباط العشرة إلى أرض آشور حتى ذلك الحين ما يزيد على سبعة قرون كاملة ومع ذلك فالملك يتحدَّث عن وجودهم كشعب له كيانه في القرن الأول المسيحي.
+ يوجه القديس يعقوب رسالته إلى «الاثني عشر سبطاً الذين في الشتات»، وغني عن القول أن هؤلاء غير اليهود الدخلاء أو الأمم المتهودين.
+ يذكر القديس جيروم في القرن الخامس الأسباط العشرة كجماعة تعيش في أيامه في أرض السبي. وفي شروحاته لنبوة هوشع يقول: “إن الأسباط العشرة يعيشون حتى يومنا الحاضر خاضعين لسلطان ملوك فارس حتى أن سبيهم لم ينتهي بعد، وما زالوا يسكنون المدن والمناطق الجبلية في أرض المديانيين ،، .
+ لما عاد عزرا إلى أورشليم اصطحب معه ألفين من الرجال، فهل كان هذا هو العدد الذي سُبي؟ يجيب المؤرّخ يوسيفوس على هذا السؤال قائلا: وبعد أن أخذ عزرا القرارات من الملك بالرجوع، قرأها على اليهود الذين في أورشليم، كما أرسل منها نسخاً لكل بقيَّة الشعب الذي كان في أرض ميديا. وحينما عرف اليهود تقوى ذلك الملك نحو الله ولطفه وإحسانه العزرا فاضت قلوبهم بالسرور، بل إن كثيرين منهم رجعوا إلى بابل تمهيدا لعودتهم إلى أورشليم. لكن غالبية أمة إسرائيل بقيت هناك في أرض الماديين، أي دولة ميديا . وقد تكونت دولة ميديا من اتحاد مملكة آشور بمملكة مادي، وهناك بقى يهود الشتات مئات السنين قبل ظهور المسيحيّة. ولا يوجد أي دليل حتى اليوم يثبت أي اضطهاد وقع على هذه الكنيسة تحت حكم الفرس القدماء.
ومن الملاحظات ذات الاعتبار أنهم ينفذون بدقة، وحتى اليوم، النَّاموس اليهودي الذي يقضي بالانتقام من مرتكب الجريمة، والذي يقوم به من يُسمى في التّوراة بــ “ولي الدَّم“. حتى أنه يُحسب عاراً يلحق بأسرة القتيل إذا لم تقم بأخذ الثأر. ولم تفلح تعاليم الإنجيل في محو العادة اليهودية. أما مُدن الملجأ في العهد القديم فقد استبدلت بها الكنائس في الطقس الكلداني. فيستطيع القاتل بطريق الخطأ أن يلجأ إلى الكنيسة، ويبقى هناك دون أن يمسه ولي الدَّم حتى يجتمع الشيوخ ويفحصوا جريمته. فإذا ثبت سوء نيته، يسلّم إلى ولي الدَّم ليموت. أما إذا أثبت التحقيق براءته، فتُحدَّد ديَّة بواسطة القضاة حسبما يتراءى لولي الدم.
وهكذا نرى أن القانون المدني للكنيسة الآشورية مستمد في معظم بنوده من الناموس الموسوي، وهو ما يقدّم لنا أقوى دليل على أصولهم اليهودية.
ولغة كنيسة المشرق الآشورية هي الآرامية السريانية، ولقد كانت هذه اللغة نفسها هي لغة اليهود المتداولة في عصر السيد المسيح. وتحتفظ البشائر الأربع لنا بعينات من هذه اللغة مثل قول المسيح: «طاليثا» قومي»، أي «يا صبيَّة قومي»، وكذلك كلمة السيّد المسيح على الصليب «إيلي إيلي لما شَبَقتني» أي «إلهي إلهي لماذا تركتني»، وأيضاً كلمة «إفتا» أي «انفتح».
وهذه اللغة الآرامية السريانية التي تكلمها النساطرة، لا يوجد مــــن يتكلّم بها الآن في العالم عدا بعض القُرى اللبنانية مما يدل على أنهم سلالة شعب قديم واحد ولا يزال الآشوريون في جبال الكردستان وشمال العراق ينطقون بلهجة متحدّرة من الآرامية. أما اللغة الآرامية السريانية فلم تعد اليوم لغة حيَّة، واقتصر استعمالها على الصلوات الطقسيَّة. إلا أن الكلدان في العراق يتعلمون السريانية في المدارس، وهم اليوم أشد تمسكاً بلغتهم القومية وأكثر فهماً لها.
دخول المسيحيّة إلى بلاد فارس القديمة
إن ما أحاط هذه الجماعة من ظروف قد مهد السبيل أمامها لقبول رسالة المسيحية. فقد كانوا أكثر تفتحاً من يهود فلسطين في مناقشة نبوات العهد القديم، وتفهم مضمونها على أيدي المبشرين لهم بالمسيح المخلص، المسيَّا الذي انتظروه مئات السنين منذ إبراهيم. ويؤكد بعض المؤرّخين أن هذه الجماعة المسيحيّة تكونت فيها أقدم وأعرق الكنائس المسيحيَّة على الإطلاق. فكنيسة المشرق الآشورية هي بالتأكيد من أقـــــدم كنائس العالم.
ولا يسعفنا التاريخ في كشف كيفية دخول المسيحية إلى تلـك البلاد. ولكن هناك تقاليد لهذه الكنيسة تعتبر هي المصادر التي عرفت عن طريقها المسيحية.
أولها: زيارة المجوس للطفل يسوع في فلسطين، وعودتهم إلى بلادهم يكرزون بما رأوا .
وثانيها: قصة الملك أبجر الخامس ملك أديسا الذي سمع بأعمال المسيح فأرسل إليه يستضيفه إلى بلاده لكي يشفيه من مرضه، ولكي ينادي بالدين الجديد بين شعبه، وإرسال يسوع خطاباً إلى الأبجر مرسلاً بيد حنانيا أحد رجال البلاط، يعده فيه بأن يرسل إليه أحد تلاميذه بعـــد أن يصعد هو إلى السَّماء لينال الشفاء على يديه، ويهبه الحياة هو ومن معه. وكان التلميذ الذي أرسله يسوع هو تداوس الرسول (أداي). فكرز بالإيمان المسيحي بدءًا من الرَّها، ثم امتد إلى الجنوب الشرقي منها عن طريق تلميذه ماري. فاعتنق الملك المسيحية واعتمد هو وكــل شعبه. وتركزت المسيحيّة أوَّل ما تركزت في جنوب قسطيفون العاصمة الفارسيّة القديمة. وبرغم أن القصَّة تفتقر إلى السند التاريخي، إلا أنه من المؤكد تاريخياً أن الأبجر الثامن (176– 213م) كان مسيحيا. أما فتح الرُّومان لأديسا سنة 216م فقد أنهى حكم الأبجر التاسع.
وبينما كانت المسيحيّة تُضطهد في الإمبراطورية الرومانية حتى سنة 313م، استطاعت الكنيسة الآشورية أن تتطور بسلام في بلاد فارس القديمة. وكان ذلك قبل قدوم الفرس سنة 226م، وهم سلالة ملكية تُدعى الساسانيين، تحت حكم الملك أردشير الأوَّل.
وفي سنة 286م تبنت الإمبراطورية الفارسية الزردشتية ديناً للدولة فيها. وسرعان ما حلت موجات اضطهاد عديدة على الكنيسة كان أكثرها سفكاً للدماء ما بين سنة 339م وسنة 379م تحت حكم سابور الثاني مخلفة وراءها الآلاف من الشهداء.
وعندما استعادت الكنيسة الآشوريَّة السَّلام، تم عقد مجامع كثيرة في العاصمة الفارسية، سلوقية الجديدة، في الفترة الواقعة ما بين سنة 410م وسنة 775م ، والمعروفة عموما اليوم باسم Synodicon Orientale منها مــار اسحق 410 م ، مار پاهبالاها 420 م ، مار دادیشو 424م، مار آقاق 486م، مار آبا 544م، مار إيشوعياب 587م، مار صابريشو 596م، مجمع غريغور 605م، مجمع عام612م … الخ.
ازدهار المراكز اللاهوتية المسيحية في دولة فارس القديمة
خلال الأربعة قرون الأولى للميلاد لم يكن هناك انقسام بين الكنيسة السريانية الشرقية والكنيسة السريانية الغربية، بل كانت أديسا وهي “الرَّها” في الإمبراطورية الفارسية ملاذاً لأكثر من واحد من رواد الفكر المسيحي من الإمبراطورية الرومانية.
وبعد مجمع نيقية مباشرة افتتح مار يعقوب مدرسة “نصيبين” مع الشاب الموهوب مار أفرام السرياني كمعلم. وكانت المدرسة مع المدينــــة نفسها ضمن حدود الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت. وفي سنة 363م في عهد شاهبور (سابور) الثاني ملك الفرس تنازلت الإمبراطورية الرومانية عن “نصيبين” موطن أفرام السرياني، كجزء من معاهدة السلام بعد موت الإمبراطور جوليان أثناء حملته في جنوب بلاد ما بين النهرين. وبسقوط ”نصيبين” في أيدي الفرس لم يجد جهابذة الفكر هناك من سبيل إلا الهرب إلى “أديسا” وهي الرَّها . وكان على رأسهم القدّيس أفرام السرياني، أبو الأدب السّرياني في مجال التفسير، وتأليف الأناشيد والنُسكيَّات، حيث تُرجمت كتاباته إلى اليونانية والأرمينية، وبعد ذلك إلى اللغة العربية.
ففي الوقت الذي فيه كانت أنطاكية تنحدر من ضعف إلى ضعف، كانت أديسا تزداد قوة وحفاظاً على الأدب السرياني. حتى جاء الوقت الذي حدث فيه الانشقاق بين الكنيسة السريانية الشرقية (المسيحية الآشورية) وبين الكنيسة السريانية الغربيّة (المسيحيّة الأنطاكية) وذلك سنة 431م بظهور بدعة نسطور بطريرك القسطنطينية، حيث انتقلت هذه البدعة إلى قلب السريانية الشرقيَّة، ووجدت لها هناك مكاناً آمناً بعيداً عن الإمبراطورية الرومانية بسطوة أباطرتها.
وبتأصل هذه الهرطقة النَّسطوريَّة في الكنيسة السريانية الشرقية، اعتنقت الكنيسة الآشورية سنة 486م النَّسطورية رسمياً وذلك في مجمع سلوقية، تحت تأثير متروبوليت نصيبين المدعو برصوم بعد أن أصبحت “نصيبين” أسقفية هامة من أسقفيَّات كنيسة المشرق. وفي سنة 489م، طرد الإمبراطور زينون النساطرة من الرَّها فهاجروا إلى فــارس، فانقطعت هذه الكنيسة نهائياً عن الكنيسة الأم، وهي كنيسة أنطاكية. وأكد النَّساطرة موقفهم بطريقة أوضح في سنودس سنة 612م، عندما اعتمدوا المبادئ المخالفة للكنيسة الجامعة، فقالوا بطبيعتين، وأقنومين، وشخص prosopon واحد للمسيح، وأقصوا تماماً تعبير والدة الإله Theotokos عن القديسة مريم. وهكذا انزوت هذه الكنيسة مؤثرة العزلة عن أحداث مسيحيّة مستقبلة سواء في أنطاكية أو القسطنطينية أو غيرهما.
وجاء الدور على مدرسة نصيبين عندما استقبلت في الوقت المناسب الأساتذة اللاجئين من الرَّها، حين تم إغلاق المدرسة اللاهوتية في الرَّها من قبل الإمبراطور زينو سنة 489م كما سبق القول.
وعلى مدى القرن الخامس كله كان التّعليم اللاهوتي في الرَّها ونصيبين يسير جنباً إلى جنب، والشاهد الرئيسي على ذلك هو الشاعر نارساي، الذي درس وعلم في الرَّها، ثم انتقل حوالي سنة 471م ليعلم في نصيبين، وظل يعلم بها حتى سنة 496 م وهو العام الذي تم فيه إصدار القوانين المنقحة لمدرسة نصيبين.
ولقد حافظت مدرسة نصيبين بشكل جلي خلال القرن السادس على موقع ريادي كان له تأثير كبير على التّطورات اللاهوتية لكنيسة المشرق في هذه الفترة. وفي غضون منتصف القرن السادس نفسه حينما بدأ الانتعاش الرهباني يتركز في جبل إيزالا شمال شرق نصيبين و باضطراد دور الأديرة في التعليم اللاهوتي – بدأ الضعف يدب في مدرسة نصيبين مع أوائل القرن السابع الميلادي.
وإلى جانب مدرسة نصيبين اللاهوتية كان يوجد مدارس لاهوتية في مدن أخرى مثل المدرسة الموجودة في سلوقية – قسطيفون.
الكنيسة الآشورية من عهد جوستنيان حتى العصر الحديث
كانت سياسة جوستنيان الإمبراطور الرُّوماني ذات أصداء كبيرة على كنيسة المشرق الآشورية. فقد أدان المجمع الخامس سنة 553م كتابـــات تيودور الموبسويستي. وكانت النتيجة المباشرة لاضطهاد جوستنيان لمناوئي مجمع خلقيدونية، أن العديد من الرهبان والكهنة الأرثوذكس عبروا إلى الإمبراطورية الساسانية طلباً للأمن. وكانت إحدى نتائج ذلك أن شهد أواخر القرن السادس امتداداً ملحوظاً للوجود السرياني الأرثوذكسي في الإمبراطورية الساسانية.
فنشأت فيما بعد جماعة مسيحيَّة في الإمبراطورية الساسانية ارتبطت مع بطريركية أنطاكية السريانية الغربية، ورسم لها أساقفة الكنيسة من الأنطاكيَّة، وكان للأسقف يعقوب البرادعي دور متميز في ذلك. وفي سنة 629 م تم تنظيم هذه الجماعة رسميا كجزء من بطريركية أنطاكية. وكانت الأسقفيات السريانية الغربيَّة في أراضي الكنيسة السريانية الشرقية جميعها في شمال وغرب العراق حالياً، في المنطقة الموجودة حول تكريت وهي المنطقة التي احتلها الإمبراطور هرقل والجيش البيزنطي سنة 629م.
ولم يتأثر النَّساطرة الذين كان معظمهم يعيش في العراق وإيران بالأحداث التي هزت بلاد الشام في القرن العاشر حتى القرن الثالث عشر. ولما استولى المغول على العراق سنة 1258م وقضوا على الخلافة العباسية، تحسنت أوضاع النساطرة. فهولاكو الفاتح (1217- 1265م) كانت أمه نسطورية، وعدد كبير من شعبه اعتنقوا النَّسطوريّة. واعتلى السدة البطريركيَّة عدة بطاركة من أصل مغولي، إلا أن معظم المغول الوثنيين انتحلوا الإسلام في القرن الرابع عشر وتألبوا على النساطرة. وقضى تيمور لنك (1396 -1405م) على جماعاتهم في إيران والعراق وكان لاضطهاده أسوأ الأثر على الكنيسة النَّسطورية، وكاد أن يعدمها وجودها. أما من ثبتوا على إيمانهم من النساطرة ونجوا من المذابح، فقد لاذوا بالجبال في مناطق كردستان وبحيرتي وأورميا وفان فانكمشوا إلى قبائل فقيرة تسكن الجبال ويسودها الجهل .
في العصور الوسطى
في أواسط القرن السادس عشر، وبالتحديد في سنة 1552م، بدأ الاتصال بين النساطرة والكنيسة الكاثوليكية، بواسطة راهب مــــن ديـــر الرَّبان هر ميزد قرب الموصل بالعراق، يُدعى شمعون سلاقة، احتجاجاً على مبدأ الوراثة البطريركيَّة من عائلة واحدة، وهو المبدأ الذي أُدخل على منصب البطريركيَّة منذ نهاية القرن الخامس عشر. فانقسم النساطرة إلى شطرين:
الشطر الأوَّل : بقى على مذهبه القديم، ودعوا باسم “الكنيسة الآشورية”.
الشطر الثاني : اتحد بروما مع حفاظه على طقوسه، ودعوا باسم ”الكنيسة الكلدانية”، وبطريركهم يقيم اليوم في مقره في بغداد، بعد أن تنقل من مكان لآخر كان آخرها الموصل.
في العصر الحديث
كان النَّشاطرة (الآشوريون) يتمتَّعون بشبه استقلال في معاملت الجبلية، وثاروا على العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى بتحريض من الإنجليز والروس، ثم تخلى عنهم الحلفاء فاضطروا إلى الهرب من وجـ الأتراك، فترحوا عن أراضيهم ولجأوا إلى العراق.
وفي سنة 1915م أُجبر كثير من مسيحيي الكنيسة الآشورية على مغادرة أرض أجدادهم بسبب الاضطهاد الشديد لهم من قبل العثمانيين والأكراد. وحلّت بهم في العراق نكسة جديدة سنة 1933م، فلجأ عدد منهم إلى مناطق سوريا، ونُفي بطريركهم إلى الولايات المتّحدة.
وأضحى الآشوريون الآن أقليَّة مشتتة ما بين إيران والعراق وسوريا والقوقاز. وبلغ عددهم في أوائل السبيعنيات من القرن العشرين حوالى 120 ألفاً، منهم 80 ألفاً في العراق وسوريا ولبنان، وحوالي 5 آلاف في الهند، و 25 ألفا في أمريكا، مع بعض آخر موزع في بلدان العالم المختلفة.
وهم يعيشون الآن مبعثرين في أنحاء العالم، ويحاولون أن يحافظوا على خطر الانصهار بالبيئة التي يعيشون فيها، ليس فقط على إيمانهم، بل أيضا على لغتهم وثقافتهم. وقد تحسنت أحوالهم أخيراً في العراق، واستعاد البطريرك جنسيّته العراقية وتمكن من زيارة البلاد.
أما الفرع الكاثوليكي أي الكلداني، فقد تبنى جماعة منهم التقويم الغريغوري سنة 1965م، ليحتفلوا بالأعياد المسيحيّة مع الغرب. وبلغ تعداد الكلدان في أوائل السبعينيات من القرن العشرين حوالي 300 ألف، معظمهم من العراق. ويقيم بطريركهم أيضا في العراق.