مياه كثيرة لا تستطيع أن تُطفئ المحبة

«مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة 
ولا السيول أن تغمرها» نش 8: 7

مياه كثيرة لا تستطيع أن تُطفئ نار الله التي في داخل قلبنا، المُعطاة لنا من الرب يسوع نار الله من نوع عجيب جدًا، لا تشابهها نارٌ أخرى على الأرض. هي نار من طبيعتها أنه ليس شيء يقدر أن يُخمدها. بل الأعجب من ذلك هو أن كل ما يُلقى عليها لإطفائها، فهي لها القدرة أن تُحوّله إلى وقود يزيد اشتعالها. تصوّر نارًا من نوع غير معروف إن ألقيت عليها المياه لكي تطفئها، تحوّلها هذه النار إلى بنزين ووقود يزيدها اشتعالاً! هكذا نار الله ! 

هذا الكلام ليس نظريا، ولكنه محقق على مستوى الواقع في سير الشهداء وفي سير الآباء الرهبان الأوائل. ففي سير الشهداء نري أن كل التَّعْذِيبَات التي كانت توضع عليهم من قبل الحكام لإخماد نار الله التي كانت فيهم، كانت تتحول إلى قوة جديدة تزيد نار الله اشتعالاً داخل قلوبهم. فقد كانوا يعتبرونها فرصة ذهبية متجددة لهم، أن يقدموا نفوسهم ذبيحة حب للمسيح، كما قال ق. إغناطيوس:

[إني أشتاق أن تكون الوحوش أكثر تحفزًا للهجوم علي، بل إنـي سأستثيرها لتلتهمني بسرعة ولا تتعامل معي كما مع الذين تخاف أن تقترب منهم. وإن لم تشأ سأجبرها أن تفعل ذلك. سامحوني ولكني أعرف ما هو صالح لي. الآن أبتدئ أن أصير تلميذا !]

[لتأتِ على النار والصليب لتأتِ عليَّ زمرة من الوحوش، بل وسحق العظام وتقطيع الأعضاء، وتمزيق الجسد كله، لتأتِ عليّ أقسى العذابات التي يسوقها علي الشيطان فقط دعوني ألتصق بيسوع المسيح!) 

 رسالة إغناطيوس إلى رومية 5. 

فكل ما كان الشيطان يفعله بواسطة المُعذِّبين لم يستطع أن يُخمد نار الله، بل على العكس كان يعتبره القديسون فرصة لازدياد هذه النار جذوةً واشتعالاً. 

وهكذا أيضًا كل التجارب التي كان الشيطان يجلبها على آبائنا الرهبان، كانت تتحوّل إلى تقديم حُبِّ أكثر لله، وإلى تقديم أجسادهم ذبيحة حيةً مرضيةً عند الله، بحسب قول ق بولس الرسول : «فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدَّسة مرضية عند الله» (رو 12: 1). 

حقا، إن الشيطان يقف عاجزا جدًا أمام نار الروح القدس عندما نحتفظ بها مضطرمة داخل قلوبنا. لأن كل ما يفعله ليُخمد هذه النار يتحوّل إلى فرصة جديدة لزيادة اشتعالها والحقيقة أنه لا توجد أية ظروف خارجية يمكن أن نقول إنها ظروف مقاومة لحياة الراهب فالشيء الوحيد الذي يقدر أن يضر الراهب، هو الراهب نفسه، وذلك بكسله وإهماله وانحيازه للجسد، ولصوت الشيطان الذي يُقنعه بأن يُلقي مسئولية فشله على الآخرين بدلاً من أن يرجع بالملامة على نفسه في كل أمر ، كما يقول البستان (قول 460). توجد عظة للقديس يوحنا ذهبي الفم عنوانها [في أنه لا يستطيع أحد أن يضر الإنسان ما لم يُسيء الإنسان نفسه إلى نفسه]. أما الظروف الخارجية أيا كانت فلا يمكن أبدًا أن تُطفئ نار الله الموضوعة في قلب الراهب طالما هو  متمسك بهذه النار؛ بل على العكس، فمهما أتعبت الراهب، ومهما وضعت عليه من عمل ،زائد ومهما شتمته أو حرمته من حقوقه، أو أخرجته من ،قلايته ومهما غصبته أن يأكل الخبز والملح فقط، أو أخذت منه آخر جلابية عنده، أو جعلته يلبس جلابية مُرقّعة؛ مهما عملت به ما لا يُعمل، ومهما تكلمت عليه أو شتمته؛ فإنه يمكنه أن يستغل كل هذه الظروف الخارجية ليُقدِّم نفسه ذبيحة حُبّ متجدّدة للمسيح. فتتحوّل كل هذه المقاومات الخارجية إلى فرص جديدة لنموه في محبة المسيح. 

لا توجد، إذًا، أية ظروف خارجية يمكن أن تضر نار الله الموجودة في قلب الراهب. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يضرها هو الكسل والتواني والانحياز للجسد ولصوت الشيطان. ولكن طالما الراهب من الداخل محتفظ بهذه النار مضطرمة فيه، فإنه لا توجد أية ظروف خارجية تستطيع أن تضره. 

«مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ نار المحبة ولا السيول أن تغمرها» 

هكذا كان الشيطان يجلب سيولاً وأنهارًا غَامِرَةً على القديسين لكي يطفئ هذه النار الموجودة فيهم، ولكنه لم يقدر، فالسيول لا تستطيع أن تطفئ نار الله… ولكن الشيء المؤسف والمحزن أننا لسنا في حاجةٍ إلى سيول لكي تطفئ فينا هذه النار، لأن أقل شيءٍ أصبح في إمكانه أن يُعكر مزاجنا، ويُكدِّر صَفْوَنا، بل ويُزعزع محبتنا. فبمجرد أن أسمع عن أحدٍ أنه تكلّم عليّ بكلمةٍ لم تعجبني، ففي الحال محبتي نحوه تهتز . فإن كانت محبتي نحوه تقل، فأين هي إذن نار الله ؟! محبتى لأخي هي محبة الروح القدس المنسكبة في قلبي، فأين نار الله التي ولا السيول تستطيع أن تغمرها ؟! والشيء المؤسف أيضًا، أن أقل شيءٍ أصبح يُعكّر علينا حياتنا الروحية، ويجعلنا لا نستطيع أن نصلي كما ينبغي، ويجعلنا دائما نتزعزع، والحب الإلهي يفتر من داخل قلوبنا هذا كله دليل على أننا لسنا متمسكين بنار الله كما يجب. والعلاج الوحيد هو أن نرجع ونتمسك بكل قوتنا وبشدة بنار الله، وكما قال ق. يوحنا القصير، علينا أن نطلب الأجنحة التي فيها نار الروح القدس. 

«إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته عوض المحبة تُحتقر احتقارًا» 

الرب يسوع يطلب منا شيئًا واحدًا: «يا ابني أعطني قلبك» (أم 23: 26). إنه لا يرضى بشيء آخر عوض القلب وهذا هو نفس ما يقوله ق بولس الرسول: وإن أطعمتُ كل أموالي، وإن سلّمتُ جَسَدي حتى أحترق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئًا» (1كو 13: 3). هي دعوة متكررة لنا، أن نحتفظ بنار الروح القدس فينا، ونطلب بانسكاب واتضاع الله أن يُجدّدها في داخلنا، وهو ما نردده في صلاة الساعة الثالثة: 

[هذا لا تنزعه منَّا أيها الصالح، لكن جدّده في أحشائنا ] . 

لأنه لو كنا صرحاء مع أنفسنا، فكل الكلام الذي قلناه الآن، لو نقيس نفوسنا عليه، نجد أننا كلَّنا مُقصِّرون جدًا فيه، ولسنا على مستوى هذه النار. فلا بد لنا أن نركّز كل جهادنا الروحي في الاتضاع أمام الله والانسحاق أمام النعمة طالبين أن يجدد روحه القدوس في أحشائنا. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top