«المحبة قوية كالموت
الغيرة قاسية كالهاوية
لهيبها لهيب نار لظى الرب»
(نش 8: 6)
هذه الآية تتكلم عن نار المحبة أي نار الروح القدس المفاض في قلوبنا.
«المحبة قوية كالموت»
المحبة أقوي من الموت. يقول ق بولس: «إني متيقن أنه لا موت ولا حياة، . ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 38)
فحتى الموت نفسه لا يستطيع أن يفصلنا عن محبة المسيح. هذا ليس كلامًا نظريًا، فكل سير الشهداء تشهد بصحة هذا الكلام إن محبة الرب يسوع التي كانت داخل قلوب الشهداء كانت أقوي من الموت ولم يستطع الموت بكل أنواعه وبأشنع أنواع التعذيب، لم يستطع أن ينزع من داخل قلوبهم محبتهم للرب يسوع، بل على العكس كانت تزداد اضطراما في أيام الاستشهاد.
فالمحبة قوية كالموت أو هي أقوي من الموت، وهذا هو المفروض أن يكون فينا، لأن محبة الروح القدس عندما تكون داخل قلوبنا، تكون أقوي من الموت.
ولكن الشيء المؤسف والمحزن، والذي يُخجلنا جدا، هو أن محبتنا تتزعزع أمام أشياء أقل جدًا من الموت أمام تحقير أو سخرية من أحدٍ، أمام تعب زائد أو مرض أو حر شديد، هنا نجد محبتنا تَقِلُ جدًا. هذا دليل على أن محبة الروح القدس لم تشتعل كما يجب بملء اشتعالها داخل القلب.
«الغيرة قاسية كالهاوية»
مكتوبٌ إن إلهنا « إله غيور» (خر 34: 14). هذا يعني أنه لا يحتمل أن يقاسمه أحدٌ آخر محبته داخل قلبنا. الله يريد كل القلب: «تُحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك» (مت 22: 37). الله لا يحتمل أن يكون هناك إله آخر داخل قلبنا، أو بمعنى أوضح، أي شيء آخر يتعلق به قلبنا، بخلاف الله.
هذا هو معنى «الغيرة قاسية كالهاوية». يقول يعقوب الرسول: «الروح الذي حل فينا يشتاق إلى الحسد» (يع 4: 5) ، أو يشتاق إلى درجة الغيرة. هذا يعني أن الروح القدس الذي حل داخل قلبنا يشتاق إلى محبتنا، لدرجة أنه يكون «إلها غيورًا» داخل قلبنا لا يستطيع أن يحتمل أن يشترك معه أحدٌ آخر في امتلاك قلبنا. إنه يريد أن يكون القلب بكامله له.
«لهيبها لهيب نار لَظَى الرَّب»
هذه هي المرة الوحيدة التي يَرِدُّ فيها ذكر «الرب» في سفر نشيد الأنشاد. هذا السفر بأكمله سفر ،رمزي، ولذلك لا تجد فيه كلمة «الرب»، لأن الرب مُعبّر عنه بأسلوب رمزي بصفته العريس أو الحبيب، ولكنه لما أراد أن يصف نار المحبة، لم يجد في كل العالم المخلوق نارًا شديدة وطاغية ولا يغلبها شيء لكي يشبه بها نار المحبة إلا «نار لَظَى الرَّب» التي كانت تنزل أحيانًا من السماء، كما حدث في أيام إيليا النبي: «فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة حول المذبح)» (1مل 18: 38).
لقد تكرّر نزول نار الله من السماء عدة مرات في تاريخ شعب إسرائيل: نزلت مرة على ذبيحة هارون (لا 9: 24)، ثم على تقدمة جدعون (قض 6: 21)، وعلى ذبيحة إيليا (1مل 18: 38) ثم في أيام داود (1اي 21: 26)، وفي تدشين هيكل سلیمان (2اي7: 1) نار الله هذه التي كانت تندلع من السماء هي التي يُشبه بها نشيد الأنشاد نار المحبة الإلهية التي تندلع في قلب الإنسان وتأكل منه كل شيء. لقد اضطر كاتب النشيد هنا أن يستعمل كلمة «الرب»، بصفة استثنائية، لكي يصف طبيعة هذه النار: «لهيبها لهيب نار لَظَى الرَّب»، فليس هناك نار أخري في العالم المخلوق بأسره تشبهها.
هذه هي نار الحب الإلهي التي جاء الرب يسوع ليُلقيها على الأرض، كما قال: « جئتُ لألقي نارًا على الأرض» (لو 12: 49) هذه هي منتهى شهوته، أن تضطرم هذه النار داخل القلوب :«فماذا أريد إلا أن تضطرم؟» فما هي شهوة الرب يسوع؟ وماذا يريد غَيْر أن تضطرم هذه النار داخل قلوبنا؟ لقد جاء خصيصا إلى الأرض ليُلقي هذه النار أشعلها على الصليب وسكبها داخل القلوب ابتداءً من يوم الخمسين وحتى إلى اليوم وإلى أبد الآبدين لن تكف نار الروح القدس عن أن تنسكب داخل القلوب وتُضرمها بالحب الإلهي.
في الحقيقة، إن الرهبنة قائمة أساسًا على قبول هذه النار، «نار لظى الرب»، التي جاء الرب يسوع ليلقيها على الأرض.
يقول القديس أنطونيوس:
[أطلب من الله لأجلكم النار التي ألقاها الرب يسوع على الأرض،
ليلقيها في قلوبكم لتستطيعوا أن تتدربوا في عزائمكم وحواسكم].
[فأجنحة النفس المتعبدة للرب هي قوة نار الله التي يمكنها
أن تطير بها إلى علو السماء ].
[فلا تَدعوا قوة هذه النار تُنزع منكم، لأن حروبا كثيرة كائنة لكم من
الشيطان بسبب هذه النار المعطاة لكم من الرب، لكي ينزعها منكم
لأنه يعلم أنه لا قوة له عليكم ما دامت هذه النار معكم وفيكم]
نلاحظ في هذا القول أن هذه النار «مُعطاة لنا من الرب»، فهي ليست من جهادنا، ولا هي أتت بمهارتنا بل هدية مجانية من المسيح لكل إنسان أعطى قلبه للرب. ففي اليوم الذي فيه يدخل الأخ الجديد إلى الدير، ويُقرر أن يُعطي قلبه بكامله بلا رجعة للرب، بحسب الوصية: «تحب الرب إلهك بكل قلبك وبكل نفسك وبكل فكرك وبكل قوتك»، في مقابل ذلك فإن الرب يسوع يُعطيه هدية شعلة نار إلهية يُضرمها داخل قلبه. هذه الشعلة هي التي يقول عنها ق. أنطونيوس [لا تَدعوا قوة هذه النار تُنزع منكم]، لأنه ليس شيء يغيظ الشيطان مثل هذه النار المُعطاة لنا من الرب. لذلك يُكمل ق. أنطونيوس قائلاً: [ لأنه (أي الشيطان) يعلم أنه لا قوة له عليكم طالما كانت هذه النار فيكم].
فطالما كانت هذه النار مشتعلة داخل قلوبنا، يظل الشيطان عاجزا لا يقدر أن يعمل فينا أي شيء. لماذا؟ لأنه مهما عمل فإن هذه النار تتغلب على التجارب وتحولها لصالحها.
نار الله لها قدرة أن تحوّل كل الظروف الخارجية المُضادة لصالح الحياة الروحية. فليس هناك أي ظرف خارجي يمكن أن يَضُرَّ الراهب الذي يحتفظ داخل قلبه بنار الله التي أخذها من الرب يسوع في أول يوم دخل فيه الدير. بل على العكس تجد أن كل المعاكسات والمقاومات التي يثيرها الشيطان ضد الراهب، تُحوّلها هذه النار إلى وقود يزيد اشتعالها.
ونلاحظ أن الشيطان يُركّز كل حربه على هذه النار، لأنه يعلم أنه لا قوة له علينا طالما كانت هذه النار فينا، حسب قول ق. أنطونيوس. فكما ترى في الحروب بين الدول أن العدو يركّز هجومه على المواقع الإستراتيجية، فهو لا يفكر مثلاً أن يضرب مصنعًا للحلويات أو للعب الأطفال، ولكنه يُركز على مصنع للطائرات أو للمدافع؛ فالمواقع الإستراتيجية فينا، التي تُغدّي نار الله التي يرصدها العدو دائما ويركز حربه عليها.
ولكن ما الذي يُشعل نار الله فينا؟
العبادة الحارة بالروح الاستيقاظ في نصف الليل للتسبحة اليومية، وحرارة التسبيح طول النهار. فكما رأى .ق. أنبا مقار الشيطان يأتي في نصف الليل لكي يطمس عيون الرهبان وهم واقفون في الكنيسة أثناء التسبحة، ليجعلهم ينعسون ولا يكونون متيقظين.
ولكن لماذا يُركّز الشيطان على هذه المواقع بالأساس؟ لأنها هي التي يُقدِّم فيها الراهب الحب الإلهي للعريس، وهي التي فيها نار الله تزداد جذوتها في القلب. ولذلك يُركز العدو كل حربه لكي يُخمد هذه النار المعطاة لنا . من الرب، وهو يُخمدها بالكسل والتواني والانحلال، وبكلام الهذر ، والكلام غير النافع. ويُطفئها بالتراخي في الوجود أمام الله وبسرحان الفكر وبنسيان أننا موجودون في حضرته، وبأن ينزع منا خوف الله. هذه كلها خطايا طفيفة، وقد لا نعتبرها تقريبًا خطايا، بل نقائص طفيفة، ولكنها في نظر الشيطان هي المواقع الإستراتيجية، ذلك لأنه بهذه الخطايا بالذات يُخمد شعلة نار الله داخل قلوبنا.
النار الإلهية هي رأس مال الراهب
فالراهب الذي دخل الدير ووضع في قلبه أن يحتفظ بهذه النار بكل عافيته وبكل قوته لا يستطيع شيء أن يُزعزعه ولا أي ظرف خارجي يمكن أن يُقلقه. فكما يقول المزمور: «ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار» (مز 46: 2)، «الله في وسطها فلن تتزعزع» (مز 46: 2) تصوّر أن الجبال تنقلب وتنزل إلى قلب البحار. وهذا شيء خيالي يقصد به كاتب المزمور أكبر مصيبة يمكن أن تحدث.
وتفسيره بالمعنى الروحي أن الذين اعتبرتهم أمثلة روحية عليا لك، تراهم يزلون ويسقطون على الأرض ومع ذلك فأنت لا تنزعج ولا تتزعزع لأنه إذا كانت نار الله داخل قلب الراهب فلا يمكن لأي شيء أن يُزعزعه. «وإن قام علي قتال ففي هذا أنا أطمئن» (مز 27: 3 كما جاء في الأجبية).
والحقيقة أنه ليس فقط ق. أنطونيوس، بل وأيضا كل الآباء الأوائل، الجيل الرهباني الأول ق. أنبا مقار وق. يوحنا القصير، ق. إيسيذوروس… كانوا جميعهم يهتمون جدا بالمحافظة على نار الله. وكان النسك عندهم يقوم أساسًا على الحب الإلهي، وعلى إشعال نار الله داخل قلب الراهب. أما الأجيال التي أتت بعد ذلك، فابتدأ الرهبان فيها ينسون قليلاً قليلاً نار الله.
القديس يوحنا القصير يُظهر لنا كيف ابتدأ الوضع في جيله يتغيّر، فيقول:
[إن أحد الرهبان (وهو يتكلم عن نفسه) رأى بالنظر المعقول ثلاثة رهبان وقوفًا على شاطئ البحر، فجاءهم صوت من الشاطئ الآخر قائلاً: «خذوا لكم أجنحةً من نارٍ وتعالوا إلينا». فاثنان منهم أخذوا أجنحةً نارية وطارا بها إلى الجانب الآخر، أما الثالث فصار يبكي ويصرخ نائحًا، وفي آخر الوقت أُعطي أجنحة لكنها عديمة القوة، وبصعوبة كان يطير ثم يعود فيسقط، فينهض ثم يعود فيغرق، وهكذا حتى وصل إلى الجانب الآخر بعد تعب عظيم. هكذا يكون عمل هذا الجيل، فإن كان قد أخذ أجنحة ولكن ناز الروح ليست فيها، وبذلك تجدها قد عدمت قوة روح الله ]
(بستان الرهبان، قول رقم 237).
«نار الروح»:
ما أحوجنا أن نقتني من جديد نار الروح، فهي التي تُجنّبنا صعوبات كثيرة جدًا، وتُسهل علينا الطريق جدًا، فنكون مثل الراهبين الأولين اللذين أخذا أجنحة نارية وطارا بسهولة إلى الجانب الآخر. ولكن التراخي أو التسيب الذي يضحك به الشيطان علينا، يُدخلنا في صعوبات شديدة، كما يقول ق. يوحنا القصير عن الراهب الثالث أنه “صار يبكي ويصرخ نائحًا”. لقد أخذ أجنحة، ولكن نار الروح ليست فيها، ولذلك تجدها قد عَدِمت قوة روح الله.