العذراء والدة الإله
العذراء والدة الإله
مقدمة
إن خلق الإنسان على صورة الله ،ومثاله يُفسر ويشرح لنا جوهر المحبة الإلهية الغنية تجاه البشر. لقد أوجد الله الإنسان في هذه الحياة لكى يختبر هذه المحبة الفائقة الوصف ويدرك أهميتها، ويمارسها ، ويصير شريكا في المجد الإلهى. إذن فرسالة الإنسان في هذه الحياة مرتبطة بقدرته على ممارسة المحبة كما أوصاه الله وبنفس الكيفية أيضاً ” مَن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة” ( ١ يو٨:٤). وهذه الممارسة لها علاقة مباشرة برغبة الإنسان الحرة في اتحاده بالله. هكذا يُستعلن جوهر الحياة الحقيقية.
إذن فوجود الإنسان وتميزه وتمتعه بالحياة الحقيقية مرهون بالشركة مع الله معطى الحياة. ومن أجل هذا لم يكتف الله بأن يخلقنا من العدم، بل وهبنا بنعمة الكلمة حياة تشبه حياة الله. أعطانا شركة في قوة كلمته، حتى نبقى في سعادة ونحيا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس. فإذا ما احتفظ الإنسان بالنعمة التي أعطاها له الله، باعتبار أنه نال قوة الله فإنه سيفرح بشركته مع الله ويحيا حياة عدم الموت.
الخروج من هذه الحياة يعود إلى الإرادة الحرة في الإنسان، فهى التي دفعته نحو التحول إلى الشر والخطية وهذا يعنى أن رفض الشركة مع الله والانحصار في الذات، هو الذي أدى إلى فقدان بنوتنا الله، وفقدان الشركة في الطبيعة الإلهية. لقد صار الإنسان ضحية لغواية الشيطان كما نصلى وعندما خالفنا وصيتك بغواية الحية سقطنا من الحياة الأبدية ونفينا من فردوس النعيم”، فقد قبل الإنسان مشورة الشيطان بكامل حريته، وبالتبعية فقد القيمة الحقيقية للحياة واقتيد إلى الموت. هذا يعني أن فقدان الشركة مع الله، يقود بالضرورة إلى الموت. والإنسان في الفردوس لم يفقد نوعًا من الصلاح كان يجب عليه أن يستعيده، لكنه فقد الشركة الله فانقطعت المسيرة إلى التآله (أي الوصول لمرحلة القداسة) الذي هو قصد الله من خلق الإنسان.
عودة الحياة للإنسان مرة أخرى كان يتطلب تحررًا من الخطية وإنتصارًا على الموت، ولما كان الإنسان غير قادر على أن يصنع هذا بإمكانياته الذاتية، كان تجسد المسيح أمرًا لازما، كما يقول القديس كيرلس الأسكندرى : [ بدون مجيء المسيح يكون من غير الممكن أن يَخلُص الإنسان وأن يتحرر من الخطية والموت]. وعدم قدرة البشر على التحرر من قيود الفساد والموت راجع إلى أن النعمة قد انتزعت منهم، كما يصف القديس أثناسيوس حالة آدم وذريته بعد السقوط الذين نُزعت منهم النعمة التي سبق وأن أعطيت لهم، فنحن نحتاج لإعادتنا إلى نعمة مماثلة صورة الله. لكن نظرا لأن الله بسابق علمه كان يعرف رغبة الإنسان في الاكتفائية والانحصار في الذات، وهى أمور تقود بالضرورة إلى السقوط والموت، فقد أعد خطته لعلاج الطبيعة الإنسانية القابلة للتغيير، وذلك حتى يتمكن الإنسان من الإنتصار على ذاته والعودة مرة أخرى إلى الأحضان الأبوية، وهذا يتطلب أمرين:
۱ – مخلّص قادر أن يخلّص الإنسان من قبضة الموت ويهبه الحياة مرة أخرى ، وهذا المخلّص لا يمكن إلا أن يكون الابن وحيد الجنس، كلمة الله الآب.
۲ – خادمة لسر التدبير الإلهى، وهذه لا يمكن إلا أن تكون العذراء القديسة مريم التي قبلت البشارة بالحبل الإلهى بثقة ويقين وتسليم.
لقد تجسد كلمة الله لكى يخلّص الجنس البشرى من قبضة الفساد والموت. واختيار العذراء القديسة مريم لكى يأتي منها الكلمة المتجسد، يدخل في إطار علم الله السابق.
فالمعرفة السابقة والاختيار المسبق، لا يتعارضان مع الاختيار الحر من قبل الإنسان، فالله عندما يُعيّن إنسانًا مسبقا، فهو أيضا يعرف قرار الإنسان فيما يختص بأمر ما. وهكذا في حالة العذراء فقد عينها، لكى تصير والدة الإله، لأنه كان يعرف مسبقا قبولها للدعوة الإلهية، هذا ما ظهر في اجابتها على دعوة رئيس الملائكة عندما بشرها بالحبل الإلهى ” هوذا انا أمة الرب ليكن لى كقولك ” (لو ۱: ۳۸).
لقد ارتفعت العذراء القديسة مريم إلى مستوى الإيمان القادر على عمل المعجزات في طاعة وثقة وتسليم، ولذلك فقد دعيت بكلية القداسة، وهذه المكانة المتميزة ترجع إلى أنها خادمة سر التدبير الإلهى، هذا هو امتيازها الفائق في الكنيسة. وهكذا صارت العذراء القديسة مريم بقبولها للدعوة الإلهية مستحقة أن تكون خادمة لهذا السر. فإذا كانت حواء قد ساهمت في دخول الموت إلى العالم، بعد أن فقدت النعمة الإلهية واختارت طريق الاعتماد على الذات سبيلاً للوصول إلى حالة الكمال، فإن قبول العذراء لدعوة الله بأن تصير والدة الإل ، قد ساهم في عودة الحياة الحقيقية مرة أخرى إلى العالم . ولذلك يقول القديس غريغوريوس اللاهوتى: [إن لحظة قبول العذراء مريم للدعوة الإلهية ثم الحبل بالكلمة المتجسد إنما يُمثل العطية الثانية من الله نحو الإنسان]، بإعتبار أن الله قد أراد للإنسان الحياة، وخلقه على غير فساد كما نصلى في صلاة الصلح “يا الله العظيم الأبدى الذي جبل الإنسان على غير فساد..”، إلا أن الإنسان قد جلب على نفسه قضية الموت، بقبوله لمشورة الشيطان والرغبة في الحياة بمعزل عن الله مصدر وجوده وحياته هذا الموت الذي دخل إلى العالم قد هدمه الله بالظهور المحيي الذي للابن الوحيد الجنس ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، وهكذا نال الإنسان عطية الحياة مرة ثانية. ولذلك يقول فلاديمير لوسكى ممجدا قبول العذراء القديسة مريم للدعوة الإلهية [ هي الأولى والسباقة ، لأنها ولدت الطريق ووضعت نفسها في الاتجاه الصحيح. كأنها عمود نار يقود المؤمنين إلى أورشليم الجديدة]
إذن الخضوع التام للإرادة الإلهية وقبولها الكامل لعمل النعمة الإلهية لتكون خادمة لسر التدبير الإلهى، هو الذي جعلها مستحقة أن تمتلئ بالمجد الإلهى ويكون لها مكانة متميزة وفائقة في الكنيسة وتتمتع في الكتاب المقدس ببركة لا يعادلها بركة. لذلك ستواصل كل الأجيال تكريم والدة الإله، فيتم بذلك ما سبق وأخبرت به في تسبيحتها الخالدة فهوذا” منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى. يقول نيقولا كابيسيلاس: [ إن القديسين في ملكوت السموات، هم فقط الذين يستطيعون أن يعبروا بحق عن المجد الذي لوالدة الإله، لكن نحن نمتدحها على قدر ما نستطيع، وهذا المديح هو لنفعنا لأنه سيؤول لتقديس نفوسنا وكلامنا. يكفى فقط أن نقول كلمة، أو تذكار لتمجيد العذراء، لكى تسمو نفوسنا وأفكارنا ، ولكي نتجلى من جسدانيين إلى روحيين ومن دنسين إلى قديسين ].
لقب والدة الإله
إن قبول العذراء القديسة مريم للوعود الإلهية قد ساهم كما يقول القديس كيرلس في رفع الفساد والموت اللذان دخلا إلى العالم، إذ صارت خادمة لسر الخلاص. ” إن اسم والدة الإله وحده يحوى كل سر التدبير الإلهى للخلاص هكذا يدعو القديس كيرلس الأسكندرى العذراء القديسة مريم : (والدة الإله).
لقد أقر المجمع المسكوني الثالث المنعقد بأفسس سنة ٤٣١م التعاليم اللاهوتية للقديس كيرلس الأسكندرى واعتمد عليها، وذلك عندما بدأت جلسات المجمع في طرح آراء نسطور للمناقشة. وكان اثبات لقب والدة الإله عقيديًا من قبل هذا المجمع، يُشكل بالنسبة للقديس كيرلس الأسكندرى مركز الصراع ضد نسطور .. فعدم قبول نسطور لهذا اللقب “والدة الإله هو الذي قاد القديس كيرلس للتصدى له وتفنيد ،آرائه، وإبطال حججه الخاصة برفض لقب “والدة الإله”، وكان القديس كيرلس في تصديه للمزاعم النسطورية يُعبر عن تقليد آبائى أصيل امتد لقرون طويلة، وهذا ما أشار إليه مرارا في كثير من رسائله. فقد ذكر [ إن كتب الآباء القديسين يمكن أن نجد فيها، ليس مرة واحدة بل كثيرًا جدًا، التعبير المألوف الذي كانوا يعترفون به وهو أن القديسة العذراء مريم هي والدة الإله].
وبينما إستخدم نسطور مصطلحات:
+ أم الإنسان + أم المسيح
إلا أنه رفض لقب والدة الإله. وعلى العكس من ذلك يرى القديس كيرلس أن لقب “والدة الإله” له أبعاد خلاصية ، فهو ليس مجرد لقب تكريمى بل إن لقب “والدة الإله” يعتبر في حد ذاته بمثابة اعتراف بالإيمان المستقيم، فالكلمة المولود من العذراء هو إله حق من إله حق كما أقر قانون الإيمان. وقد أُثير هذا النزاع عندما حاول نسطور رئيس أساقفة القسطنطينية، بواسطة رسائل مختلفة، أن يدعم الكاهن أنسطاسيوس الذي علّم في الكنيسة قائلاً: ” لا أحد يستطيع أن يدعو العذراء، والدة الإله، فالعذراء إنسان، ويستحيل أن تكون أم الله” وأيضا دعمه للأسقف ذوروثيؤس، ذاك الذي قدم الأسرار المقدسة، بعد أن أعلن رفضه للقب ” والدة الإله “. وقد نشأت هذه الآراء نتيجة عدم قدرة أصحابها على استيعاب أن الله يمكن أن يولد من امرأة. وعلى الفور أخذ القديس كيرلس الأسكندرى موقفًا من نسطور في كلمته الاحتفالية بمناسبة عيد القيامة في ٧ أبريل سنة ٤٢٩ مشددًا على لقب “والدة الإله “. ومنذ ذلك الحين وحتى أغسطس سنة ٤٣٠ ، حيث أُدين نسطور في مجمع عُقد في روما تحت رئاسة كلستينوس بدأ نسطور يكثف من اتصالاته ولجأ إلى بابا روما، وقد خاطب القديس كيرلس أيضًا كلستينوس مستطلعا رأيه فيما يتعلق بهذا الأمر، وتبادلا فيما بينهم رسائل كثيرة. بل إن القديس كيرلس تبادل مع نسطور بعض الرسائل بيّن له فيها صحة لقب “والدة الإله”، إلا أن نسطور لم يستجب لهذه الرسائل وظل على موقفه الرافض للقب “والدة الإله وانتهى الأمر بأن أرسل القديس كيرلس إلى نسطور رسالة تحتوى على ۱۲ حرمًا وطلب منه أن يوقع عليها، حتى يُقلع بهذه الطريقة عن تعليمة الخاطئ، إلاّ أنه أصر أيضا على موقفه، وبدأ الصراع يأخذ بعداً مسكونيًا، وهذا ما سبق الإشارة إليه في الجزء السابق.
فقد انعقد المجمع المسكونى الثالث سنة ٤٣١ في أفسس برئاسة القديس كيرلس الأسكندرى. ومنذ اليوم الأول للمجمع تمت إدانة تعاليم نسطور، وإنتهي الأمر بإدانة تعاليمه وعزله عن كرسيه البطريركي.
ولم يكن نسطور بالطبع هو أول من رفض لقب “والدة الإله” كما يؤكد القديس كيرلس. فقد رُفض هذا اللقب قبل نسطور بكثير، وأخذ بُعدين:
۱ – رفض بشكل غير مباشر لدور العذراء القديسة مريم في خطة التدبير الإلهى، وعدم قبول دعوتها بأم الله. وهذا الرفض جاء كنتيجة لرفض ألوهية الابن الكلمة المتجسد ” . في هذه الشريحة يدخل كل من آريوس وافنوميوس اللذين رفضا ألوهية الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس. فالابن وفقاً لآريوس هو مخلوق ولا يمكن أن يكون إلها كاملاً، لكنه مخلوق من الآب لكى يخلق العالم بواسطته. وامتدادًا لتعليم آريوس فقد رفض افنوميوس أى مساواة بين الآب والابن. والنتيجة لهذا الرفض المباشر لألوهية الابن، هو رفض لقب والدة الإله. ويدخل في هذه الشريحة أيضًا المانويون الذين رفضوا سر التجسد الإلهى لأنهم نظروا إليه على أنه حدث خيالى غير حقيقي، فكانت النتيجة الطبيعية هي عدم قبول لقب ” والدة الإله”. أيضا يدخل ضمن هذه المجموعة بولس الساموساطى، الذي رفض ولادة الابن قبل كل الدهور، وقبل فقط ولادة المسيح من العذراء. وهكذا يكون قد رَفَض الاتحاد بين الطبيعتين في الكلمة المتجسد من الواضح أن هذه الهرطقات تعكس الرؤية اليهودية الخاصة بألوهية الابن، وبعدم قبول لقب “والدة الإله “.
٢ – الرفض المباشر للقب “والدة الإله أو على الأقل تزييفه وعدم الاستخدام الدقيق له. ويُعد ذيودوروس الطرسوسي وثيودروس الموبسيستى ” سابقين على نسطور، في رفضهما للقب “والدة الإله”. فقد علم ذيودوروس الطرسوسى بأن العذراء تُدعى والدة الإنسان، لأنها ولدت الإنسان يسوع المسيح، ونسب إليها مجازا لقب “والدة الإله”، على أساس أن الإنسان الذي حملت به العذراء قد اتحد به كلمة الله. وعليه فقد قبل بفكرة ولادة إبنين، واحد من العذراء والثانى من الله الآب. ومن الواضح أن القديس غريغوريوس النيسى كان قد اكتشف مبكرًا هذا التعليم المنحرف لذيودوروس الطرسوسى، وذلك قبل أن يتوسع القديس كيرلس الأسكندري بهذا القدر الهائل في شرح هذا الموضوع. هذا ما يظهر بوضوح في رسالته الثالثة ” ، والتي يُفترض أنها كتبت حوالي سنة ۳۸۳ ، والذي يُعلّم فيها بأن العذراء تدعى والدة الإله” وليست والدة الإنسان. أما ثيودروس الموبسيستى والذي دعى فيما بعد بنسطور السابق على ظهور نسطور، حيث كانت تعاليمه الخرستولوجية الخاصة بطبيعة المسيح تتسم بالغموض والخطورة “. فقد كان يرى أن اتحاد كلمة الله بالإنسان في بطن العذراء، تحقق أثناء فترة تكوين الجنين ” ، وأن العذراء هي ام الإنسان ووالدة الإله في آن واحد. فالعذراء، طبقاً لرأية حملت بالإنسان الذي اتحد به كلمة الله فيما بعد . ولقد أشار القديس كيرلس إليهما في رسالته ٧١ (من كيرلس إلى الإمبراطور ثيودروس ) حيث يقول [كان هناك شخصا ما اسمه ثيودروس وقبله ذيودوروس، الأخير أسقف طرسوس والأول أسقف موبسستيا، هذان كانا والدي تجديف نسطوريوس. ففي الكتب التي ألفاها تكلما بجنون شديد ضد المسيح مخلصنا جميعًا، لأنهما لم يفهما سره، وأراد نسطوريوس أن يدخل تعاليمها في وسطنا ولذلك عزله الله].
رفض نسطور للقب “والدة الإله” يستند على أمرين أساسيين:
1- الأول خاص بالزمن فيقول إن خالق الزمن لا يمكن أن يولد من أم تخضع للزمن مثل العذراء مريم.
2- الأمر الثاني أن المتشابهات تلد دائما متشابهات فإذا كان الكلمة المولود من العذراء هو إلها، فإن التي ولدته لا تحمل لقب أم، طالما أنه من المستحيل أن تكون أما لابن لا يحمل نفس طبيعتها.
وهو بهذا ينتهى إلى نتيجتين
1 – إن كانت العذراء تُدعى أماً، فإن المولود منها يكون إنسان وليس إله.
۲ – من المستحيل أن تُدعى مريم أما لله، طالما أنه من المستبعد أن تكون أماً لابن لا يحمل نفس طبيعتها.
هذه الحجج التي يستند عليها نسطور تقود إلى رفض تام للقب “والدة الإله”.
كل هذا يرجع إلى عدم قدرة نسطور على فهم وإدراك سر التدبير الإلهى وطريقة عمله، الأمر الذي جعله يرفض الإتحاد الحقيقي بين الطبيعتين في المسيح (أى الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية). وبناء على ذلك يصبح أمرًا منطقيًا أن ينتهى إلى هذه النتائج المشار إليها، لأنها مبنية على حجج قائمة أساسا على عدم قبوله لهذا الإتحاد الحقيقي بين الطبيعتين في المسيح.
لقد حاول نسطور تبديل لقب “والدة الإله” بلقب آخر وهو أم المسيح أو أم السيد أو أم الإنسان أو الإناء الإلهى. وقد نسب لقب أم المسيح للعذراء، لأنها ولدت الإنسان يسوع، الذي ارتبط به الله الكلمة، فيما بعد. وفيما يتعلق بلقب أم الإنسان يقدم نسطور حجتين:
وفقاً للحجة الأولى : يقول عندما تلد ،امرأة، فإنها تلد الجسد أما النفس فينفخها الله في هذا الجسد ، على الرغم من أن المرأة في النهاية تلد كائنًا حيًا أو يحمل نفسا حية، إلاّ أنها لا تدعى أم النفس، بل أم الإنسان. هذا بالضبط ما يدعيه نسطور بالنسبة للعذراء، فعلى الرغم من انها ولدت إنسانًا مرتبطًا بالله الكلمة، إلا أنها لا تُدعى والدة الإله، بل والدة الإنسان، وذلك طبقا لما يراه.
ووفقا للحجة الثانية : يقول لو ان العذراء تُدعى “والدة الإله” فإن إليصابات يجب أن تُدعى “والدة الروح” طالما أن الملاك قد بشر زكريا بأن يوحنا من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس” (لو١ : ١٥). ولم يكن نسطور يخجل من الاعلان عن رفضه للقب “والدة الإله”. ويظهر هذا الرفض بوضوح في رده على رسائل القديس كيرلس الأسكندري.
فقد اعتبر أن لقب والدة “المسيح هو المصطلح الأدق والحقيقي لأنه يظهر “الهيكل” أى الإنسان الذي ولدته العذراء، كأداة لألوهية الكلمة. وينتهى إلى نتيجة وهى أن العذراء ولدت إنسانًا مثله مثل كل البشر ، لكى يكون مسكنا لله الكلمة. ولذلك فالعذراء كما يرى لا يمكن أن تُسمى “والدة الإله” بل “أم “المسيح” أو “أم الإنسان”. هذا ما دعى القديس كيرلس للرد على نسطور برسائل متتالية يوضح فيها بطلان هذه التعاليم المضللة، وخطورته على الأيمان المستقيم . وهذا ما أكد عليه في رسالته إلى رهبان مصر، مشددًا على لقب والدة الإله أن العذراء [ندعوها والدة المسيح ووالدة الإله معا. لأنها لم تلد مجرَّد إنسان بسيط مثلنا، بل بالحرى الكلمة الذي من الله الآب الذي تجسد وتأنس لأننا نحن أيضًا ندعى آلهة بحسب النعمة، أما الابن فليس إلها على هذا النحو، بل بالحرى هو إله بالطبيعة وبالحق ، حتى وإن كان قد صار جسدا].
لقب “والدة الإله” في كتابات آباء القرون الأولى:
لقد ظهر لقب “والدة الإله” لأول مرة في كتابات العلامة أوريجينوس (١٨٥-٢٥٣) ، وفي كتابات تلميذه القديس غريغوريوس العجائبي (۲۷۰-۲۱۳). وقد ذكر المؤرخ الكنسى سقراط في كتابه تاريخ الكنيسة، أن أوريجينوس في تفسيره لرسالة رومية قد أشار مرارًا إلى لقب “والدة الإله”، عندما كان يأتى ذكر العذراء مريم.
وفي القرن الرابع الميلادى، بدأ لقب “والدة الإله” يظهر بشكل مستمر في كتابات الكتاب الكنسيين. ويذكر المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصرى (٢٦٠-٣٤٠) في كتابه “حياة قسطنطين” أن الإمبراطورة هيلانة زيّنت المكان الذي ولدت فيه والدة الإله”. وقد أورده الأسقف والشهيد ميثوديوس (۳۱۱م) في كتاباته، وجاء في كتابات البطريرك الكسندروس الأسكندري (۳۲۸) ، وأيضًا قد ذكره القديس أثناسيوس الرسولى (۲۹٥-۳۷۳) مرات عديدة في كتاباته. استخدمه ديديموس الضرير (۳۱۳-۳۹۸) والذي يدعو العذراء والدة الإله” والدائمة البتولية”
وفي كتابات الآباء الكبادوك، نجد إشارات عديدة للقب “والدة الإله”. يقول القديس باسيليوس ( ۳۳۰-۳۷۹ ) [إن والدة الإله استمرت على الدوام عذراء]. وقد ذكر القديس غريغوريوس النيسى (٣٣٥-٣٩٤) لقب “والدة الإله مرات كثيرة. ويُعد القديس غريغوريوس النزينزي، أقرب جميع الآباء الذين إلى الصياغة الخاصة بلقب والدة الإله، وفي كتابات القديس ثاؤفيلوس رئيس أساقفة الأسكندرية (٤١٢) . أيضا نجده في تعليم القديس كيرلس الأسكندرى، ويشير القديس كيرلس الأسكندرى أن آخرين قد استخدموا لقب “والدة الإله” في كتاباتهم مثل القديس يوحنا ذهبي الفم (٣٥٤-٤٠٧) . وأمفيلوخيوس أسقف أيقونيا (٣٩٥.٣٤٢)، وآخرين.
لقب “والدة الإله” في صلوات الكنيسة:
إن المكانة التي تحتلها العذراء القديسة مريم في الكنيسة، سامية وتفوق أى قديس آخر. والكنيسة تؤكد على هذه المكانة الرفيعة، بسبب الشركة في تدبير الله الخلاصى فهى أرفع من الشاروبيم وأجل من السيرافيم لأنها صارت هيكلاً للواحد من الثالوث (ثيؤطوكية يوم الأربعاء).
القداس الإلهي:
يتكرر لقب “والدة الإله” في صلوات القداس الإلهى منذ بداية القداس وحتى نهايته، أثناء دورة البولس، في الهيتنيات يُقال: “بشفاعة والدة الإله القديسة مريم”، والتي تُكرر ثانية في ختام صلاة الصلح.
أيضًا بعد مرد الإنجيل يقال أرى بريسفافين” اشفعى فينا يا سيدتنا كلنا السيدة والدة الإله.
وفي المجمع يقال : “وبالأكثر االقديسة المملوءة مجدا العذراء كل حين والدة الإله … “.
في الاعتراف يقول الأب الكاهن: “… وأعترف إلى النفس الأخير أن هذا هو الجسد المحيي الذي أخذه ربنا إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح من سيدتنا وملكتنا كلنا والدة الإله الطاهرة القديسة مريم”.
وفي صلوات القسم مثل قسمة أعياد الملائكة يصلى الأب الكاهن قائلاً: “مقدسة ومملوءة مجدًا والدة الإله الطاهرة القديسة مريم العذراء”.
صلوات السواعي:
في صلاة باكر ومع بدء قانون الإيمان نقول “نعظمك يا أم النور الحقيقى ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله”.
وفي صلاة الساعة الثالثة نقول “إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس نحسب كالقيام في السماء يا والدة الإله أنت هي باب السماء.” (القطعة الثالثة).
وفي الساعة السادسة نصلى قائلين “فنحن بك نتوسل إلى الذي ولد منك يا والدة الإله العذراء”. (القطعة الثالثة).
وأيضًا في القطعة السادسة نقول أنت” هى الممتلئة نعمة يا والدة الإله العذراء …”.
وفي صلاة الستار الخاصة بالرهبان يُقال “يا والدة الإله قد حوينا الثقة بك، فلا نخزى بل نخلص”.
وفي صلاة نصف الليل يقول المصلى ” قدوس قدوس قدوس أنت يا الله من أجل والدة الإله ارحمنا” القطعة الأولى من الخدمة الأولى.
وأيضا “أنت هي سور خلاصنا يا والدة الإله العذراء الحصن المنبع غير المنثلم” (القطعة الثالثة من الخدمة الأولى).
ثم نصلى قائلين “ونحن أيضا نمجد ميلادك غير المدرك، يا والدة الإله يا أم الرحمة والخلاص” (القطعة الثالثة من الخدمة الثانية).
وبعد ذلك أيضًا نقول ” يا باب الحياة العقلى يا والدة الإله المكرمة خلصى الذين التجأوا إليك بإيمان من الشدائد “القطعة الثالثة من الخدمة الثالثة.
ونختم الصلاة بالتحليل الأخير حيث نطلب ” بشفاعة سيدتنا كلنا والدة الإله القديسة مريم …”.
تسبحة نصف الليل
في هذه التسبحة يتكرر لقب والدة الإله في الثيؤطوكيات، التي تمجد فيها الكنيسة العذراء والدة الإله والكنيسة بهذا تريد أن تُعبّر عن إيمانها بأن العذراء مريم هي بالحقيقة والدة الإله.
كما نصلي في ثيؤطوكية يوم الثلاثاء ونقول : ” أنت يا أم النور المكرمة والدة الإله حملت الكلمة غير المحوى”.
وفي ثيؤطوكية يوم الأحد تُسبح قائلين “من أجل هذا كل أحد يرفعك يا سيدتى والدة الإله القديسة كل حين”.
وفي لبش يوم الاثنين يُقال “ومن قبل مريم والدة الإله رجع آدم إلى رئاسته مرة أخرى”.
في ثيؤطوكية يوم الثلاثاء نقول ” السلام لوالدة الإله تهليل الملائكة. السلام للعفيفة كرازة الأنبياء”.
وفي لبش نفس اليوم يُقال “أي لسان جسدى يستطيع أن يتأملك أيتها العذراء القديسة والدة الإله”.
ونسبح في ثيؤطوكية يوم الأربعاء قائلين “عيد بتولي يدعو لساننا اليوم لكي نمدح والدة الإله مريم”.
في ثيؤطوكية الخميس يُقال “يا لكرامة الحبل الذي للبطن البتولى والوالد الإله بغير زرع”.
وفي ثيؤطوكية يوم الجمعة نقول إن “نسوة كثيرات نلن كرامة، تعاليت أنت أكثر من جميعهن لأنك أنتِ فخر العذارى يا والدة الإله مريم”.
وأيضاً “أيتها العذراء مريم والدة الإله الحكيمة بستان العطر ينبوع ماء الحياة المقدس”.
أما في ثيؤطوكية يوم السبت فإننا ننشد قائلين “صرت سماء ثانية على الأرض يا والدة الإله لأنه أشرق لنا منك شمس البر”. وفي لبش نفس اليوم نقول “الروح القدس ملأ كل موضع منك، نفسك وجسدك يا مريم أم الله”.
وهكذا تُعبر الكنيسة في كل صلواتها، عن هذه الحقيقة الإيمانية الراسخة ، وهى أن العذراء كل حين الطاهرة القديسة مريم هي والدة الإله بالحقيقة هذا الإيمان استمدته الكنيسة من إيمان العذراء ذاتها حينما قالت ” ليكن لى كقولك” لأنها وضعت ذاتها تحت تصرف الله بلا مناقشة ولذلك طوبتها اليصابات قائلة “طوبى للتي آمنت بأنه يتم ما قيل لها من قِبَل الرب” (لو ۱ : ٤٥) . وأيضا “من أين لي تأتي أم ربي الي” كل بركات العهد الجديد كانت بدايتها إيمان العذراء القديسة مريم.
الكنيسة تكرم العذراء كأم الله، ويتمسك التقليد الكنسي في رسم أيقونة العذراء وهى حاملة المسيح على ذراعها الأيسر “جلست الملكة عن يمين الملك”. إذن بحسب تقليد الكنيسة لا تُرسم العذراء بمفردها.
وربما تم تعديل هذا التقليد بعد أول ظهور للعذراء بمفردها في الكنيسة التي تحمل إسمها بالزيتون.
- Βλ.Ν.Α. Ματσούκα “Δογματική και Συμβολική Θεολογία Β” Θεσνίκη 1992, σ. 267–268.
- Βλ. Ιωάννου Καρμίρη “ Τα δογματικά και συμβολικά μνημεία της opρoδοgoυ kaboukg ekanoiag“ toμoς A, σ. 151-152.