رهبنة الشركة الكينونيا
كانت الشخصية الفذة التي طبقت قداستها وعبقريتها أرجاء القرن الرابع الميلادي – العصر الذهبي للكنيسة – هو القديس أثناسيوس الرسولي البطريرك الـ ۲۰ لكنيسة الإسكندرية. هنا يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل هل كان هذا القديس إفرازاً فريداً في التاريخ الكنسي؟ إطلاقاً !! لأن بزوغ هذه الشخصية كان يواكبها حركة قداسة شعبية تجلت على سطح التاريخ متجسمة في القديس أنطونيوس الذي سلم الكنيسة نموذجاً أعلى للقداسة الفردية المجردة من أسلحة العقل واستخدام القوى الذهنية لخدمة قضية الخلاص الشخصي ورأينا كيف كان سعيه لإدراك الكمال المسيحي قد أدى دون قصد منه إلى اجتذاب جموع وجماهير وولاة وأصحاب سلطان، فارتدت عزلته ونسكياته خيراً على العالم المسيحي والكنيسة لتصير معياراً صادقاً للرهبنة الصحيحة فيما بعد.
في نفس هذا العصر أيضاً، لمع القديس باخوميوس كنموذج آخر لحركة قداسة شعبية ذات نمط مختلف تماماً عن الرهبنة الأنطونية؛ هي تكريس كامل لله في حياة الشركة الجماعية، ولكن على مستوى الواقع اليومي بما يتضمنه من احتكاك وعراك مع الحياة الإنسانية بكل نقائصها وضعفاتها داخل “رهبنة الشركة”، للارتفاع والتسامي به ليكون عملاً إلهياً يتوازى مع الصلاة، ولكن ليس بديلاً عنها .
الخطوط العامة لحياة القديس باخوميوس
وُلد سنة ۲۹۲م، من أبوين وثنيين في طيبة العليا، منطقة الأقصر الحالية.
وتمدنا السيرة العربية لهذا القديس ببعض التفاصيل عن طفولته وصبوته؛ وكيف حاول أبواه إرغامه على عبادة الأوثان وعلى شرب الخمر فتقيأها. ثم عاش فترة في أحد هياكل سيرابيس القديمة في هذه المنطقة.
وفي سن العشرين، أخذ للتجنيد في الجيش سنة ۳۱۲م ضمن الآلاف من شباب الأقباط، وذلك للاشتراك في الحملات الحربية التي قامت بين مكسيمين الطاغية حاكم الشرق ضد قسطنطين الكبير وشريكه في الحكم – وقتئذ – ليسينيوس زوج شقيقته.
وأثناء نقلهم بالمراكب النيلية في جنوب مصر تأثر باخوميوس بالمعاملة المسيحية التي صادفته من ساكني منطقة ديوسبوليس (إدفو). وكان هذا التأثر بالغاً حتى أنه بمجرد تسريحه من الجيش سنة ۳۱٣م، اتجه إلى شنيست – قصر الصياد بمحافظة قنا الحالية – وانضم إلى الموعوظين ليتقبل الإيمان والمعمودية من الكنيسة.
وكان تقليد كنيسة الإسكندرية منذ عهد أوريجانوس في بداية القرن الثالث، يوصي بأن تكون فترة الموعوظين ثلاث سنوات. لذلك نال القديس باخوميوس معموديته سنة ٣١٦م. ومنذ ذلك الوقت اجتهد أن يتجاوب مع النعمة التي نالها. وكان قد سمع عن الناسك بلامون المتوحد في نفس البلد التي تعمد فيها – شنيست فقصده وتوسل إليه أن يقبله تلميذاً. فشرح له المتوحد مصاعب الحياة النسكية، وكيف أن كثيرين ابتدأوا ولم يكملوا مسيرتهم. ومع هذا لم يتراجع باخوميوس، بل قطع عهد الطاعة مع معلمه فعاشا معاً على أكلة واحدة كل يوم صيفاً، وكل يومين شتاء. واقتصر غذاؤهما على الخبز والملح والماء دون أن يتذوقا الزيت أو الخمر. وكانا يقضيان أكثر من نصف الليل ساهرين في المزامير والتسابيح والصلوات وقراءة الكتاب المقدس؛ وأحياناً كان ينقضي الليل بأكمله دون أن يناما. أما النهار فكان لعمل اليدين والصلاة القلبية.
بينما كان باخوميوس يجمع الحطب في إحدى القرى الفرعونية المهجورة المسماة طبانيسي، ظهر له ملاك الرب طالباً منه أن يؤسس ديراً، وسلمه قوانين هذه الحياة وأهمها:
+ دع الراهب يتناول من الماكل والمشارب ما يشاء، ولا تنهه عن أي طعام، بل اترك ذلك الحكمته ألزمه فقط بالعمل بمقدار ما يأكل. أما الضعفاء بسبب (مرض أو علة) والصوامون فكلفهم بأعمال غير مضنية.
+ كل ثلاثة رهبان يقيمون في قلاية واحدة، ولا ينامون على فراش بل على مقاعد حجرية حتى لا تسترخي أجسادهم عن الجهاد والعمل.
+ تناول الطعام يكون في قاعة واحدة (مائدة).
+ يلبسون جلباباً بغير أكمام. ويشدون أوساطهم بمنطقة (حزام جلدي)، ويغطي كل واحد منهم رأسه بقلنسوة مرسوم على مقدمتها صليب أرجواني.
+ قسم الرهبان إلى مجموعات، وأطلق على كل مجموعة حروف الأبجدية القبطية (التي هي نفس الحروف اليونانية).
بعد الرؤيا، توجّه باخوميوس إلى معلّمه القديس بلامون وعرفه بها. فعاد الاثنان معاً إلى طبانيسي سنة ٣٢٣م، وكان القديس باخوميوس قد تجاوز الثلاثين من عمره، وقاما ببناء أول قلاية وقضيا معاً بعض الوقت حتى اطمأن القديس بلامون على باخوميوس، ثم تركه عائداً إلى وحدته في شنيست. وبذلك يكون القديس باخوميوس قد تتلمذ سبع سنوات، يقابله القديس أنطونيوس الذي صرف خمس عشرة سنة في تلمذته.
أول من تقبل الشكل الرهباني على يديه كان أخوه الأكبر ” يوحنا”. وفي وقت وجيز تجمع حولهما أكثر من مائة شخص، فكان يقودهم ويرشدهم في طريق الكمال بحرارة روحه وقدوته المثالية. وتحكي سيرته أنه أمضى خمس عشرة سنة لم يرخ جسده على فراش، بل كان رقاده جالساً على كرسي أو قطعة حجر . كما أن معدته لم تمتلئ بالطعام منذ أن نال معموديته.
بني القديس باخوميوس ديراً ثانياً في فابو (فاو الحالية). وتوالى بعد ذلك بناء الأديرة حتى بلغت في حياته تسعة أديرة للرجال واثنان للراهبات، وقد تولت أخته “مريم” رئاسة أحدهما سنة ٣٤٠م. وقد استقر القديس باخوميوس في دير فابو سنة ٣٣٦م، وجعله مركزاً لرئاسة أديرة الشركة.
وبسبب بساطة قوانينه واتساعها صارت تتمشى مع كل المستويات، حتى أنه لم يرفض أي شخص بسبب ضعف بنيته أو كبر سنه.
استقامة قصده:
في إحدى جولات القديس أثناسيوس الرسولي بين سنتي ۳۲۹ و ٣٣۰م، لافتقاد الرعية في طيبة العليا، أقنعه سيرابيون أسقف دندرة الذي كانت أديرة الشركة – وقتئذ – تحت رعايته، أن يرسم باخوميوس كاهناً. فلما أحس باخوميوس بذلك اختفى تماماً. فما كان من البطريرك إلا أن قال لأبنائه: “عظيم هو أبوكم … لكن قولوا له : إنك اخترت لنفسك ما هو أفضل، أي الاحتماء في الرب يسوع … لكن أرجو إذا مررتُ ثانية، أن تسمح محبتك بأن أرى وجهك”.
لكن هروب القديس باخوميوس من الكرامة الكهنوتية لم يمنعه من توصيل رسالة الخلاص لكل نفس، حتى أنه أقام كنيسة لرعاة الغنم في هذه المنطقة كان يخدم فيها كقارئ، أي مساعد شماس. ورغم أنه لم يكن كاهناً إلا أنه كان يُلبس الشكل الرهباني للكهنة الذين اشتهوا الانضمام لرهبنة الشركة. وبذلك أدخل في التقليد الرهباني المصري أن مرتبة الرهبان ليست من رتب الطقس الكنسي التي تستلزم وضع يد الأسقف، بل هي نوعية خصوصية من رتبة العلمانيين. ولا زالت آثار هذا التقليد باقية في الليتورجيا القبطية، حيث نسمع الشماس – مثلاً – في أوشية الراقدين، يطلب الصلاة من أجل المنتقلين ويُعدّد رُتب المؤمنين من القمة إلى القاعدة، وقبيل نهايتها يقول: “… آبائنا الرهبان، وإخوتنا العلمانيين….”
ولا ينبغي علينا أن نظن أن هروب القديس باخوميوس من القديس أثناسيوس كان يعني انعزال رهبنة الشركة عن أحداث الكنيسة المعاصرة وقتئذ، إذ كان يُشدّد على الرهبان بنبذ الهرطقات والوقوف مع رأس الكنيسة بالصلاة لأجل سلامة الكنيسة الجامعة التي كانت وقتها في محنة البدعة الأريوسية.
هذه الاستقامة الشخصية كان لها ثمنها، إذ استدعاه مجمع أساقفة إسنا سنة ٣٤٥م ليجاوب على بعض الاتهامات المغرضة. فكان اتضاعه وصبره أمام الأساقفة سبباً في أن يمدحوه ويصرفوه مكرماً.
امتداد رهبنة الشركة:
عاش القديس باخوميوس حتى شهد ازدهار أديرته التسعة التي كانت تضم أكثر من ثلاثة آلاف راهب ويرجع السبب في ذلك إلى التدقيق الشديد في النظام. فالجميع كانوا يطيعون الأب المدير المعين من قبل الرئيس العام. وكان العمل اليدوي مطلوباً من كل راهب. فقسمت الأديرة إلى جماعات بحسب المهن والحرف التي تتقنها كل جماعة: زراعة الحقول والبساتين، بناء السفن والمراكب، صناعة السلال واللباد من ليف النخيل الشائع في أعالي الصعيد؛ بالإضافة إلى المهن الأخرى المألوفة : كالنجارة، والحدادة، وسبك المعادن، وصباغة الأقمشة… إلخ.
وبعد نياحة القديس باخوميوس بقرن من الزمان، كان عدد رهبان أديرة الشركة في مصر حوالي خمسة آلاف راهب، وامتدت أديرة الشركة حتى مشارف الإسكندرية. فنسمع عن دير “الميطانيا“ حوالي سنة ٣٩٠م في كانوب (أبو قير الحالية)، حيث عثر القديس جيروم على سيرة وقوانين رهبنة الشركة، فترجمها إلى اللاتينية سنة ٤٠٢م، وكانت بمثابة مرجع في بلاد الغرب لجميع الرهبانات التي نشأت هناك بعد ذلك، بل وحتى زماننا الحاضر.
نياحته:
في إحدى موجات وباء الطاعون الذي كان يجتاح البلاد، انتشر هذا المرض الوبيل في أديرة الشركة حتى أنه في دير فابو – مقر إقامة القديس باخوميوس – تنيح مائة أخ في وقت قصير خلال الصوم الأربعيني سنة ٣٤٦م. وكان القديس نفسه قدوة مثالية في خدمة المرضى حتى وقع أسيراً للمرض. وحين أعلمه الله بقرب انتقاله عين بترونيوس خلفاً له، وسلم تلميذه الخصوصي (تادرس) وصيته الأخيرة، ثم انتقل بسلام في ١٤ بشنس الموافق ۲۲ مايو سنة ٣٤٦م عن أربعة وخمسين عاماً.
تلاميذه:
بقي بترونيوس رئيساً عاماً لأديرة الشركة مدة شهرين فقط، وتنيح في ٢٥ أبيب، فتولى بعده أورسيزيوس كتوصية سابقة من معلمهم قبيل نياحته، واستمر حتى عام ٣٨٥م بالتناوب مع تادرس التلميذ الخاص للقديس باخوميوس. وقد نمت الأديرة في عهدهما نمواً كبيراً، كما ترك لنا أورسيزيوس مقالة في : تعاليم ودستور الرهبنة، تشهد لمستواه الرهباني الروحي العالي. تتكون هذه المقالة من ٦٤ مادة، وتحوز تقديراً فائقاً لدى علماء الغرب باعتبارها تعكس نظرة عميقة لروح رهبنة الشركة أكثر من القواعد التي سنها القديس باخوميوس.
كما يحتفظ لنا التاريخ برسالة أرسلها البابا ثاوفيلس البطريرك الـ ٢٣ إلى أورسيزيوس، تحوي تفاصيل كثيرة عن ليتورجيا وطقس أسبوع الآلام – البصخة – في الإسكندرية متضمنة أيضاً مشاركة أورسيزيوس في احتفالاتها في تلك السنة.
أما القديس ثيئودورس – تادرس – التلميذ الأمين والمطيع المعلمه باخوميوس، فتاريخ رهبنة الشركة يحفظ له تقديراً خاصاً بسبب وداعته واتضاعه مع معلمه وبعد نياحة القديس باخوميوس كان هو اليد اليمنى لأورسيزيوس، فنجح في تهدئة الاضطرابات والمعارضات التي قامت في أديرة الشركة سنة ٣٥٠م بسبب محاولة بعض رؤساء الأديرة الاستقلال الذاتي والمالي عن الرئاسة العامة في فابو.
وقد تنيح القديس تادرس في ٢٧ أبريل سنة ٣٦٨م بعدما تعاون مع أورسيزيوس ما يقرب من ثماني عشرة سنة. وبسبب شهرته في أديرة الشركة، كتب البابا أثناسيوس الرسولي رسالة عزاء لأورسيزيوس الرئيس العام، يشدّده ويشجعه على حمل المسئولية واستئناف المسيرة، قائلاً:
[…. لا نبكي على مَنْ بلغ في رحلته إلى السماء، حيث السلام والفرح والطمأنينة. يا ليت كل واحد منا يعد نفسه لهذه الرحلة تادرس لم يمت، بل هو قائم في موضع الراحة في حضرة الرب. أنا أكتب إلى إخوة الشركة جميعاً، ولا سيما إليك أيها العزيز أورسيزيوس، لتأخذ مكانه وسط الإخوة. لأنه قبل انتقال تادرس كنتما كشخص واحد. وحين كان يذهب أحدكما خارجاً كان الآخر يتمّم كل الواجبات. وحين كان كلاكما بالدير كنتما كشخص واحد، كإخوة، بكل ما هو نافع … وعليك بالاستمرار في ذلك ].
وقد تنيح أنبا تادرس عن ثلاثة وخمسين عاماً.