الرسالتان إلى كنيسة كورنثوس


مدينة كورنثوس

تُعتبر مدينة كورنثوس من أهم المواقع التبشيرية التي زارها القديس بولس، وقد أسس كنيستها في رحلته الثانية ورافقه خلالها تلميذاه القديس سيلا (سلوانس) والقديس تيموثاوس. لقد أتى القديس بولس بمفرده إلى كورنثوس من أثينا إذ تركهما في بيرية (أعمال 17:14).

جاء القديس بولس إلى كورنثوس وهو مرتجف وخائف من شدة مقاومة اليهود وعنف تهديدهم، إذ كانت الجالية اليهودية تضم عدداً كبيراً من اليهود قد نزحوا من روما بعد أن طردوا منها بأمر الإمبراطور كلوديوس. والواقع الذي يسجله سفر أعمال الرسل، أن ذهاب بولس الرسول إلى كورنثوس لم يأت باختيار بولس ولكن الروح القدس الذي كان دائماً يقود خدمته، بل السيد المسيح شخصياً هو الذي أشار عليه بالتواجد في كورنثوس إذ قال له برؤيا في الليل: «لا تخف بل تكلم ولا تسكت لأني أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك. لأن لي شعباً كثيراً في هذه المدينة. فأقام سنة وستة أشهر يعلم بينهم بكلمة الله» (أعمال 18: 9-11).

إذاً فالرب هو الذي اختار كورنثوس وحصر زمان الخدمة فيها وذلك بسبب موقعها وأهميتها كعاصمة لمقاطعة أخائية، كما كان لها صلات شديدة وحيوية باستمرار مع روما والإسكندرية وأفسس، الأمر الذي أدى إلى انتشار رسالة الإنجيل إلى كل العالم شرقاً وغرباً وجنوباً نتيجة تثبيت كلمة الله في كورنثوس.

عوامل ساعدت الرسول في كرازته:

  1.  تعرف على يهودي مؤمن اسمه أكيلا وعلى بريسكلا امرأته، وكان قد هاجر من روما بعد طرد اليهود منها، ولأن الرسول كان خياطاً من صناعتهما فجاء إليهما وأقام عندهما وكان يشتغل ليلاً ونهاراً لسد احتياجاته واحتياجات الذين معه.
  2. رئيس مجمع اليهود «كريسبس» آمن وأهل بيته مما شجع كثيراً من اليهود على الإيمان، ولقد ذكر القديس بولس في رسالته الأولى أنه لم يعمد أحداً منهم إلا «كريسبس وغايس» (1 كورنثوس 1: 14)، (أعمال 18: 8).
  3. لما أتى إليه القديسان سيلا وتيموثاوس من مكدونية إلى كورنثوس أضافا إليه مزيداً من العزيمة في احتمال مكايد اليهود (أعمال 18:5).
  4.  من تدبير الله العجيب أن والي أخائية كان رجلاً حكيماً مقتدراً اسمه «غاليون»، فلما تزعم اليهود جمعاً كثيراً ضد بولس وأتوا به إلى حاكم الولاية قائلين: «إن هذا يستميل الناس أن يعبدوا الله بخلاف الناموس» (أعمال 18: 12-13). فلما فحص الحاكم الأمر جلياً لم يهتم لحكمته بثورة اليهود المفتعلة وطردهم: «وإذ كان بولس مزمعاً أن يفتح فاه، قال غاليون لليهود: لو كان ظلماً أو خبثاً ردياً أيها اليهود لكنت بالحق قد احتملتكم، ولكن إذا كان مسألة عن كلمة وأسماء وناموسكم فتبصرون أنتم لأني لست أشاء أن أكون قاضياً لهذه الأمور. فطردهم من الكرسي» (أعمال 18: 14-16).
  5.  لما جاء القديس «أبلوس» من أفسس إلى كورنثوس ساعد كثيراً بالنعمة الذين كانوا قد آمنوا على يد القديس بولس لأنه «باشتداد كان يفحم اليهود جهراً، مبيناً بالكتب أن يسوع هو المسيح» (أعمال 18: 24-28).

ولما رفض اليهود أن يسمعوا للرسول في المجمع تركهم متجهاً بقلبه وروحه للأمم أي لليونانيين: «وإذ كانوا يقاومون ويجدفون، نفض ثيابه وقال لهم: دمكم على رؤوسكم أنا برئ، من الآن أذهب إلى الأمم. فانتقل من هناك وجاء إلى بيت رجل اسمه “تيطس يسْتِس”، وكان متعبداً لله وكان بيته ملاصقاً للمجمع» (أعمال 18: 6-7). وصار هذا البيت فيما بعد مقر اجتماع المسيحيين ومقابلة الرسول لهم.

حالة الرسول في كورنثوس:

ظل الرسول سنة وستة أشهر يؤسس كنيسة كورنثوس، ورغم النجاح الذي حققه تأكيداً لقول الرب: «لأن لي شعباً كثيراً في هذه المدينة» إلا أن حالة الرسول في كورنثوس لم تكن هادئة مريحة، وأوضح تعبير عن تلك الحالة يشرحه القديس نفسه في رسالته الأولى لكنيسة كورنثوس: «وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة، وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة..» (1 كورنثوس 2: 3-4). ثم يضم خدمته في مكدونية على خدمته في كورنثوس ويقول في رسالته الثانية: «لأننا لما أتينا إلى مكدونية لم يكن لجسدنا شيء من الراحة بل كنا مكتئبين في كل شيء من خارج خصومات، من داخل مخاوف، ولكن الله الذي يعزي المتضعين عزانا» (2 كورنثوس 7: 5-6).

نهاية الزيارة:

انتهت زيارة القديس بولس الرسول لمدينة كورنثوس بنهاية رحلته الثانية، ويختم سفر أعمال الرسل الزيارة الأولى لكورنثوس والرحلة الثانية بقوله: «وأما بولس فلبث أيضاً أياماً كثيرة ثم ودع الإخوة وسافر في البحر إلى سوريا ومعه بريسكلا وأكيلا» (أعمال 18: 18) قاصداً أورشليم لحضور عيد الخمسين (حلول الروح القدس) ماراً بأفسس وقيصرية وانحدر إلى أنطاكية ومنها إلى أورشليم ثم رجع إلى أنطاكية التي كانت له – كما كانت أورشليم للاثني عشر رسولا – مركز العمل ونقطة البدء لكل إرسالية.

أما الرسالتان إلى كنيسة كورنثوس فقد كتبهما في أثناء رحلته الثالثة: الرسالة الأولى كتبها من أفسس ربيع سنة 57م، والرسالة الثانية كتبها من فيلبي خريف سنة 57م.

زيارات الرسول الأخرى لكورنثوس:

يتضح مما ورد في رسالة القديس الثانية إلى كورنثوس أنه زارها للمرة الثالثة: «هذه المرة الثالثة آتي إليكم، على فم شاهدين وثلاثة تقوم كل كلمة. قد سبقت فقلت وأسبق فأقول وأنا حاضر المرة الثانية، وأنا غائب الآن أكتب للذين أخطأوا من قبل ولجميع الباقين أني إذا جئت أيضاً لا أشفق» (2 كورنثوس 13: 1-2).

يتضح من النص الذي سجله الرسول في رسالته الثانية، أن هناك زيارة ثانية إلى كورنثوس لم يذكرها القديس لوقا في سفر أعمال الرسل لأنها كانت قصيرة وعابرة. أما زيارته الثالثة – الثانية كما هو مسجل في سفر الأعمال – فقد جاءها الرسول من أفسس وقضى فيها ما يقرب من ستة أشهر وكتب منها رسالتين: الرسالة الخامسة إلى غلاطية شتاء سنة 57م، والرسالة السادسة إلى رومية.

مما توضح تعتبر كورنثوس من أكبر مراكز الكرازة التي أسسها الرسول بولس فقد قضى فيها أطول مدة بعد أفسس، كما زارها ثلاث مرات وكتب منها أربع رسائل. أنهى رحلته الثانية بمغادرته كورنثوس إلى أورشليم، كذلك أيضاً ختم رحلته الثالثة بمغادرته كورنثوس إلى أورشليم أيضاً.

الرسالة الأولى لكنيسة كورنثوس

كتبت من أفسس ربيع سنة 57م بيد تيموثاوس.

إن كان الرسول بولس قد ترك كورنثوس بالجسد، لكن ظلت كنيستها في فكره وفي قلبه شأنها في ذلك شأن جميع الكنائس التي أسسها، فهو دائماً مهموم بها يتابعها إما بإرسال تلاميذه أو برسائله. وإذ وصلته أخبار من كنيسة كورنثوس وهو في أفسس عن طريق عائلة «خلوي» وهي من أكبر عائلات كورنثوس، فقد أخبروه عن الانقسامات الحادة التي حدثت بعد تركه كورنثوس.

لقد انقسمت المدينة إلى أربعة أحزاب كقوله في بداية الرسالة: «لأني أخبرت عنكم يا إخوتي من أهل “خلوي” أن بينكم خصومات. فأعني هذا أن كل واحد منكم يقول أنا لبولس وأنا لأبولس وأنا لصفا وأنا للمسيح» (1 كورنثوس 1: 11-12). وكان الحزب الأخطر حزب أبلوس، الذين بدأوا يفتخرون بعنصر الفلسفة (الحكمة) الذي كان يتكلم به أبلوس إذ كان فيلسوفاً إسكندرياً، يستخدمون عنصر الفلسفة في تفسيرهم للإيمان المسيحي، وكان هذا بداية خطر على الروح المسيحية التي لا تعتمد أصلاً على أفكار واصطلاحات الفلاسفة ذات الأصول الوثنية.

ولقد عالج القديس بولس مشكلة الانقسامات بكلام منطقي مقنع في رسالته: «ولكن أطلب إليكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تقولوا جميعكم قولاً واحداً ولا يكون بينكم انشقاقات بل كونوا كاملين في فكر واحد ورأي واحد» (1 كورنثوس 1: 10). ثم يسترسل فيقول: «هل انقسم المسيح؟ ألعل بولس صلب لأجلكم؟ أم باسم بولس اعتمدتم؟» (1 كورنثوس 1: 13). ثم يبطل استخدام الفلسفة في كرازته فيقول: «أبشر لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صليب المسيح، فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة.. لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وفلسفة الفلاسفة، وأرفض فهم الفهماء. أين الحكيم (الفيلسوف)؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهل الله حكمة (فلسفة) هذا العالم؟» (1 كورنثوس 1: 17-20). ثم يتحدث عن بساطته فيقول: «وأنا لما أتيت إليكم أيها الإخوة أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة (الفلسفة)» (1 كورنثوس 2: 1).

وما يجب أن ننوه عنه بمناسبة ذكر أبلوس أن العلاقة التي بين القديس بولس والقديس أبلوس وغيره من الرسل كانت في المسيح يسوع لا يشوبها شائبة. ومما يذكر أيضاً أن أبلوس الذي يتعصب له جزء من أهل كورنثوس رفض أن يزورهم رغم إلحاح بولس عليه: «أما من جهة أبلوس الأخ فطلبت إليه كثيراً أن يأتي إليكم مع الإخوة ولم تكن له إرادة البتة أن يأتي (إليكم) الآن (بسبب ما سمعه من خصومات)، ولكنه سيأتي متى توفق الوقت» (1 كورنثوس 16: 12).

عالجت الرسالة كثيراً من المشاكل الأخلاقية والاجتماعية والعقائدية، وعلى ضوء ما تضمنته الرسالة يمكن تقسيمها إلى ستة أقسام:

  1. الوحدة الكنسية (الأصحاحات 1-4)
  2.  معالجة الانحطاط الخلقي (الأصحاحات 5-6)
  3.  مشاكل اجتماعية (الأصحاحات 7-10)
  4.  معالجة مشاكل تعبدية (الأصحاحات 11-14)
  5. مشاكل أخروية (الأصحاح 15)
  6. الجمع لفقراء أورشليم (الأصحاح 16)

ولا شك أن ما تضمنته الرسالة من حلول لجميع المشاكل التي تواجه الكنيسة، فهي إن كانت في نظر الرسول حلول خاصة بكنيسة كورنثوس، فهي لا شك حفظت للكنيسة الجامعة مبادئ روحية وإيمانية ولاهوتية راسخة وأبدية هي للكنيسة نور وحياة.

الرسالة الثانية لكنيسة كورنثوس

كتبت من فيلبي خريف سنة 57م بيد تيطس.

كتب الرسول القديس بولس رسالته الثانية على ضوء الأخبار التي حملها له القديس تيطس عن أحوال الكنيسة، وتتضمن هذه الأخبار ما يفرح قلب القديس وما يحزنه أيضاً:

الأخبار المفرحة المطمئنة وهي أكثر من طيبة لقلب الرسول الذي كان ينتظره ويرجوه. فأغلبية الشعب في الكنيسة خضع للتوصيات والإنذارات، وقدموا التوبة الصادقة عن الخطايا التي كانوا قد اقترفوها، وقبلوا الحرم الذي أوقعه على الشخص الذي مارس خطية الزنى مع زوجة أبيه. كما أظهروا استعداداً سريعاً لجمع الأموال لفقراء أورشليم. وهكذا امتلأت نفسه وقلبه بهجة لتنفيذ الشعب كل ما أوصى به في رسالته الأولى.

الأخبار الحزينة وهي تتمثل فيما أعلنته الأقلية اليهودية المتعصبة للناموس والختان الذين يقررون أن الإيمان المسيحي لا يكمل إلا بالختان وتنفيذ الناموس. هؤلاء الغيورون قادهم الشيطان إلى الهجوم على إنجيل بولس وعلى بولس نفسه. فإنجيل بولس قالوا عنه ليس هو إنجيل المسيح بل هو «إنجيل آخر»، ودليلهم على ذلك أن بولس نفسه لم ير المسيح بالجسد، ولا المسيح أرسله كما أرسل باقي الرسل، وهم بذلك ينكرون رؤية المسيح لبولس وهو في طريقه إلى دمشق، كما ينكرون أيضاً عماد القديس حنانيا لبولس وتكليفه بالكرازة للأمم. إنما إنجيلهم هو الإنجيل الصحيح لأنهم عرفوا المسيح وخدموا معه. وكان رد القديس بولس على ذلك ما ورد في الرسالة:

  • «ليكون لكم جواب على الذين يفتخرون بالوجه لا بالقلب» (2 كورنثوس 5: 12).

  • «فإنه إن كان الآتي يكرز بيسوع آخر لم نكرز به أو كنتم تأخذون روحاً آخر لم تأخذوه أو إنجيلاً آخر لم تقبلوه فحسناً كنتم تحتملون» (2 كورنثوس 11: 4).

لقد اتضح للرسول بولس أنهم يكرزون بالمسيح حسب الجسد فقط، وليس المسيح حسب الروح كابن الله. من هنا ظهر أنه إنجيل آخر يتبع الناموس والحرف، فهو إنجيل قاتل، فالحرف يقتل ولكن الروح يحيي. فإنجيل بولس هو إنجيل العهد الجديد: «فإذ قال جديداً عتق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال» (عبرانيين 8: 13).

بالإضافة إلى إنكارهم لإنجيل ابن الله، بدأوا يتهمون الرسول بولس باتهامات صورها لهم الشيطان على يد أشخاص اندسوا في وسطهم، كانوا قد أتوا من أورشليم يهود متنصرين متعصبين، اتهموه بالاحتيال في خدمته، والذاتية والأنانية والارتزاق منهم، باعتبار أن الأموال التي تجمع إنما هي لحسابه، الأمر الذي احتاط له القديس بولس إزاء اتهامهم القبيح الخسيس: «ومتى حضرت فالذين تستحسنونهم أرسلهم برسائل ليحملوا إحسانكم إلى أورشليم» (1 كورنثوس 16: 3). كما اتهموا الرسول أنه منتفخ وفظ مع أنه ضعيف وجبان دائماً يهدد ولا ينفذ، ويعد دون أن يوفي.

هذا الرسول الذي أتى من أورشليم ابتدأ يؤثر في نفوس الكورنثيين ويقنعهم بأهميته وتفوقه على بولس الرسول وذلك باستخدام الخداع والإغراء والتعالي والجرأة والشجاعة الوهمية الكاذبة، أي البشرية: «لأنكم تحتملون إن كان أحد يستعبدكم، إن كان أحد يأكلكم، إن كان أحد يأخذكم، إن كان أحد يرتفع، إن كان أحد يضربكم على وجوهكم..» (2 كورنثوس 11: 20). «لكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح» (2 كورنثوس 11: 3).

أخيراً يقرر بولس الرسول بحسب كل هذه الأوصاف من جهة هؤلاء القادمين من أورشليم لهدم إيمان كنيسة كورنثوس أنهم «رسل كذبة، فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح» (2 كورنثوس 11: 13).

رغم كل ما تضمنته الرسالة من أخبار محزنة واضطرار الرسول إلى نفي افتراءات المتعصبين، فإن الرسالة تفيض محبة وثقة واحتراماً للأغلبية الخاضعة المطيعة للمسيح والإيمان. وأيضاً فيها التحذير والإنذار والهجوم العنيف على المشاغبين والمضللين والمزيفين، سواء المدسوسين من فلسطين أو الذين انضموا لهم وصاروا أدوات هدم شنيعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى