الثالوث الواحد

إن الحديث عن الله وعن سرَّ التدبير الإلهى، لا يكتمل دون أن نتحدث عن عقيدة الثالوث، فسرّ التدبير الإلهى صار لنا واقعا ملموسا من خلال الظهورات الإلهية. لقد صار الله غير المدرك، والذي لا يُعبَّر ،عنه ملموساً، وظهر هذا بكل وضوح بواسطة عمل الله في الكون وفي التاريخ من خلال هذه الظهورات الإلهية. 

وكما سبق ورأينا في الجزء الخاص بتاريخ الظهورات الإلهية، أن الشعب في العهد القديم قد رأى “الكلمة” قبل التجسد، أما في كنيسة العهد الجديد فقد رأه متجسدا . هذا التدبير الإلهي يمكن أن نفهمه من خلال ” التعليم عن الله “. فتاريخ التدبير الإلهي يرتبط بشكل قاطع بالتعليم عن الله، وتاريخ تعامل الله مع البشر يُشكل خبرة وتعليمًا عن عقيدة الثالوث. لقد أكد القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد على وحدة خطة التدبير الإلهى التي تمت من خلال عمل “الكلمة” قبل التجسد في العهد القديم، وعمله بعد التجسد في العهد الجديد، وذلك في دفاعه الأول وحواره مع تريفو اليهودى.

وأيضًا شدّد القديس ايريناؤس على أهمية موضوع “التدبير الإلهى” بداية من ابراهيم فصاعدًا، واعتبر أنه أمر مفهوم وطبيعي أن نميز بين ” التعليم عن الله ” و التدبير الإلهي  وحتى ذلك العصر الذي كان يعيش فيه ايريناؤس (القرن الثاني) لم يكن الفكر اللاهوتى قد تطرّق لموضوع التمييز النظرى بين الثالوث الأزلّى (فيما يخص العلاقة بين أقانيمه الثلاثة) وبين الثالوث الأزلي في علاقته بالخليقة وتدبيره الإلهي في الكون، (أي فيما يخص مسيرة هذا التدبير الإلهى في التاريخ بمراحله). إذ لم تكن هناك حاجة لتحديد العلاقة بين أقانيم الثالوث بمصطلحات فلسفية، لأنه لم تكن التعاليم الهرطوقية قد ظهرت بعد بصورة مكثفة. فموضوع الثالوث كما أُستعلن في الظهورات الإلهية، ليس له مكانًا عند المنادين بالوحدانية المطلقة في الله (أي الرافضون لعقيدة الثالوث). وهؤلاء يدّعون أن “الكلمة” هو فقط – قوة الله الآب . وليس أقنوماً بذاته، بينما نادت بدعة التروبيكيون بإن “الكلمة” هو الطريقة التي أعلن بها الله عن وحدانيته. فالمنادون بالوحدانية المطلقة في الله (الرافضون لعقيدة الثالوث) يرفضون التعليم الصحيح عن المسيح ويقولون إن يسوع ابن العذراء هو إنسان سكنه روح الله بعد المعمودية والذي دعم هذا التعليم بقوة هو بولس الساموساطى الذي كان أسقفًا لأنطاكية (عام ٢٦٠م) وكانت ضد عقيدة الثالوث، حيث علّم بأن الله الآب وحده هو الكائن بذاته، وأن “الكلمة” هو قوة الله الآب فقط وليس أقنوم قائم بذاته. وهكذا ينتهى إلى عقيدة التبنى، أى أن يسوع هو إنسان تبناه الله الآب. لكن هؤلاء – المنادون بالوحدانية المطلقة في الله قد أقروا . من ناحية أخرى بأنه من الممكن إستخدام صيغة الآب الابن الروح القدس، إلا أن هذا لا يعني الإقرار بوجود ثلاثة أقانيم متمايزة، لكن الأمر يتعلق بثلاث مسميات لله الواحد. هؤلاء أيضًا يرفضون الظهورات الإلهية كما فسرها الآباء المدافعون في القرن الثاني، أى أنهم رفضوا التمييز بين التعليم عن الله أي العلاقة الداخلية بين أقانيم الثالوث وبين علاقة الثالوث بالخليقة ( سر التدبير الإلهي). 

ولأن الظهورات الإلهية هي أساس لعقيدة الثالوث بإعتبارها حدث حقيقي قد استُعلن في التاريخ، فإن المنادين بالوحدانية المطلقة هم ضد عقيدة الثالوث. والحقيقة أن مَن نادوا بالوحدانية المطلقة في الله تجاهلوا عمدًا التقليد الذي تأسس في اطار الحياة الكنسية والذي قدم تفسيرًا للظهورات الإلهية مبنيًا على أساس التعليم عن الله وعن سر التدبير الإلهى، وأيضًا على أساس التمايز بين أقانيم الثالوث القدوس هذا التمايز يشكل أساساً ومحورًا في أول نصوص ليتورجية للكنيسة، وفي رموز المعمودية التي تستخدم الكثير من نصوص العهد الجديد وهنا نجد أن آباء الكنيسة وعلى رأسهم القديس أثناسيوس قد فهموا البُعد التاريخى والاختبارى لعقيدة الثالوث ، ولهذا فقد أكدوا جميعًا على أهمية التمييز بين ما هو “تعليم عن الله” وبين ما هو “تعليم عن التدبير الإلهى”. لذلك كان لزاماً على آباء الكنيسة – من واقع إختبارهم الخاص – أن يؤكدوا منذ البداية على أن هناك حركة أزلية داخل الثالوث، ليس لها علاقة بالخلق، بل تتصل بالعلاقة بين أقانيم الثالوث ذاته. وهكذا حاربت الكنيسة الهرطقة الآريوسية التي نادت بأن الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس، مخلوق. 

إذن فقد شدَّد الآباء على خاصية كل أقنوم وعلى خطة التدبير الإلهى، فمن خلال هذا التدبير الذي تحقق، سواء في الظهورات الإلهية في العهد القديم أو تجسد “الكلمة” في العهد الجديد، فإن الثالوث قد إستعلن بواسطة الابن عن طريق أفعاله في الكون وفي أحداث التاريخ. 

وهكذا يظهر بوضوح مدى الاختلاف الجذرى بين الخالق والمخلوق من ناحية، وبين الثالوث الأزلى والثالوث الذي استُعلن تدبيرا في الكون وفي أحداث التاريخ من ناحية أخرى. الوصف النظرى للعلاقة الأزلية بين أقانيم الثالوث في ارتباطها بسرِّ التدبير الإلهى، له علاقة مباشرةً بالحياة الروحية والليتورجية. ولهذا فإن المصطلحات الفلسفية التي استخدمت من قبل آباء الكنيسة لتوضيح عقيدة الثالوث لها محتوى ملموس داخل الحقل الكنسي 

نحن أمام ثلاث حقائق إذن : 

١ – أصل أو مبدأ واحد  

٢ – وحدة جوهر للأقانيم الثلاثة. 

٣ – تمايز بين الأقانيم الثلاثة. 

الآب غير مولود والابن مولود والروح القدس منبثق هذه الخواص تُسمى ” خواص أقنومية ”  وكل أقنوم له خاصية تختلف عن الأقنوم الآخر، ولا يشترك فيها الأقنوم الآخر معه. يوجد تمايز أقانيم ووحدة جوهر[1]. الله الآب هو المبدأ لأقنوم الإبن ، ولأقنوم الروح القدس.

وبمعنى آخر نظرًا لأن شخص الآب هو المبدأ لكل من الأقنومين الآخرين الابن والروح القدس، فلهذا السبب تحديدا يكون الله هو إله واحد مثلث الأقانيم.  

القديس أثناسيوس تفرّد بتقديم رؤية مختلفة عن الآباء الذين علموا بأن الآب هو المبدأ لأقنومي الابن والروح القدس، (مثل العلامة ديديموس الضرير، والقديس باسيليوس، والقديس غريغوريوس النيسي، والقديس غريغوريوس النزينزي)، فعندما تناول الآباء موضوع الـ أي وحدة المبدأ، كان للقديس أثناسيوس رأيًا خاصًا فقد أقر في خطابه للأنطاكيين بالإعتراف بثالوث قدوس لكن لاهوت واحد ومبدأ واحد وبأن الإبن له ذات الجوهر الواحد مع الآب، كما أن الروح القدس غير منفصل عن جوهر الآب والإبن إلا أن قبوله بصيغة جوهر واحد وثلاثة أقانيم لم يمنعه من رفض الرأى المنادى بوحدة المبدأ الذي يعتمد فيه وحدانية الله على شخص الآب. فحين يُشار إلى أن الآب هو العلة والمبدأ، للإبن فإن المقصود هو التعبير عن حقيقة ثابته ومطلقة، وهو أن الآب هو أبو الإبن وإن الإبن هو إبن الآب. فبنوة الابن وابوة الآب تنبع من جوهر واحد. ولذلك فهو يرى أن المبدأ أو الأصل هو الثالوث ذاته، أي أن الوحدة تتطابق مع الثالوث بمعني أن الله منذ الأزل هو آب وإبن وروح قدس، لم يطرأ عليه تغيير، بل هو على الدوام ثالوث واحد . ولهذا فإن وحدة المبدأ أو الأصل هي بالضرورة ثالوثية. وهذه الرؤية نابعة من فهمه للجوهر الواحد، لأنه كما يقول نعرف مبدأ واحد فقط، إلا أنه يربط الإبن بهذا المبدأ، بسبب وحدة الجوهر، إذ هو واحد مع الآب في الجوهر. وعلى هذا الأساس لا يمكن النظر إلى الآب على أنه وحده هو المبدأ منفصلاً عن الإبن. ومن ناحية أخرى فالتعليم الذي يشدد على وحدة الجوهر بين أقانيم الثلاثة يحاول أن يضع أساس لشرح عقيدة الثالوث، منطلقًا وحدة الجوهر، لكن التعليم الأرثوذكسى يبدأ بالحديث عن الأقانيم الثلاثة، ثم يشدّد بعد ذلك على وحدة الجوهر. 

إن الحديث عن عمل الثالوث من خلال سر التدبير الإلهى، يقتضي التأكيد على وحدة الفعل والارادة، مع الإقرار بوجود تمايز في الخصائص الأقنومية: فالآب هو المبدأ – والابن هو المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي تجسد في ملء الزمان لخلاص جنس البشر والروح القدس منبثق من الآب، وهو الآن يعمل في الكنيسة من أجل تتميم الخلاص وعندما نتكلم عن العلاقة الأزليَّة فيما بين أقانيم الثالوث ، فإننا نشدد على الشركة بين هذه الأقانيم. 

وهكذا لا يوجد ثبات أو جمود أو سكون سواء في الكون أو في أحداث التاريخ، بل توجد قوّة وحركة ونشاط وفعالية. إنها علاقة حياة وشركة، حيث أن الإنسان في علاقاته، بل والكون كله، هم في حالة شركة على مثال الشركة بين أقانيم الثالوث القدوس إن قوة وحيوية وحركة الكون تؤكد على أن الثالوث هو في حالة حركة دائمة. ولهذا يقول القديس أثناسيوس في رده على آريوس الذي اعتبر أن الله الكلمة ” مخلوق مثل باقي المخلوقات: [ لو صح هذا الرأى لكان الثالوث جامدًا بلا حركة]. ويتساءل [ كيف يمكن للثالوث الذي يخلق كل المخلوقات بإرادته أن يكون هو نفسه خاليا من كل حركة وكل شركة ؟ وكيف يمكن أن يكون لديه طاقة خلاقة نحو الخارج، لو لم يكن لديه حركة الولادة والانبثاق في داخله أى الوجود الأزلى والطبيعى للابن والروح القدس؟]، ولذلك فبينما يميّز القديس أثناسيوس في تعاليمه بين الثالوث الأزلى وبين عمله بحسب التدبير، نجد آريوس يرفض هذا التمييز وينادي فقط بالتمييز بين الجوهر الإلهى والطاقة الإلهية، وأن أقنوم الابن وأقنوم الروح القدس ليسا من جوهر الآب. وقد استند الآريوسيون إلى بعض المواضع في الكتاب المقدس لتدعيم رؤيتهم، لأنهم فسروها تفسيرًا خاطئًا بعيدا عن تقليد الكنيسة وإيمانها وفهمها لهذه الآيات مثل (أمثال ۲۲:۸) الرب” قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم“. “أحببت البر وأبغضت الاثم من أجل ذلك مسحك الله الهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك ” (مز ٧:٤٥ ) . ” ومن ثم أيها الاخوة القديسون شركاء الدعوة السماوية لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع حال كونه أمينا للذي أقامه كما كان موسى أيضا في كل بيته” (عب ۳ : ۱-۲ ) . ” وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس” (لو ٥٢:٢ ) . ” لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسما فوق كل اسم” (في ٩:٢) . ” الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة ” (كو١: ١٥). وفي مقابل هذا التفسير الخاطئ الذي قدمه الأريوسيون لهذه الآيات، يُقدم القديس أثناسيوس تفسير أخر قائم على أساس التمييز بين أقانيم الثالوث الأزلى وعمله التدبيري في الكون وفي أحداث التاريخ ، وهذا المنهج مُتفق عليه لدى الآباء الشرقين. 

وهكذا فإن الخلق والمسحة والتمجيد، والتقدم في الحكمة ،والقامة، وميلاد المسيح كبكر كل خليقة – كل هذا يرد ذكره عند الحديث عن تدبير تأنس “الكلمة” الذي أخذ جسدًا ومُسح وتقدم في النعمة والقامة وتمجد مجدًا عاليًا، من أجل تجديد الإنسان، وليس لاحتياج “الكلمة” ذاته لهذه الأمور. “فالكلمة” أزلي مثل الآب والروح القدس، وليس هو الحكمة المخلوقة كما زعم آريوس. وهو ملك المجد الذي ليس له احتياجًا بحسب لاهوته أن يُرَفّع، ولكن الطبيعة الإنسانية التي أخذها “الكلمة” هى التي مرَّت بكل هذه المراحل المشار إليها في الآيات السابقة، إذ أن “الكلمة اتحد بطبيعة بشرية كاملة بنفس عاقلة جاعلاً إياها خاصة به. 

ولأن الآريوسيين لم يميزوا بين الثالوث الأزلى، وعمله التدبيري في الكون، فقد نسبوا كل ما سبق من آيات إلى “الكلمة” ذاته على أنه مخلوق، وليس إلى الكلمة الذي صار جسداً. وبنفس طريقتهم التفسيرية هذه، تعرَّضوا لموضعين آخرين في الكتاب المقدس – واختلف القديس أثناسيوس معهم في هذا التفسير اختلافا جذريًا : الموضع الأول الذي يشير إلى أن المسيح أعظم من الملائكة (عب ٤:١ ) ” صائرًا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسمًا أفضل منهم “. والموضع الثاني: هو أن الآب أعظم من الابن ” سمعتم أنى قلت لكم أنا أذهب ثم أتى إليكم. لو كنتم تحبوننى لكنتم تفرحون لأنى قلت أمضى إلى الآب. لأن أبى أعظم منى ” (يو ١٤ : ٢٨ ) . وهنا يقدم القديس أثناسيوس تفسيرًا لذلك بقوله : أفليكن اختلاف طبيعة الابن عن طبيعة المخلوقات معروفًا، ولدينا الدليل على هذا من الكتب المقدسة إذ يترنم داود يوم واحد في ديارك أفضل من ألف” (مز ١٠:٨٤ ) . أما سليمان فيهتف ” خذوا تأديبي لا الفضة والمعرفة أكثر من الذهب المختار . لأن الحكمة أفضل من الأحجار الكريمة ” (أم ۱۰۸-۱۱) لأنه كيف لا تكون الحكمة ١١.١). مختلفة عن الأحجار الكريمة المستخرجة من الأرض في جوهرها وهى بطبيعتها شئ آخر؟ وأيَّة علاقة تربط بين الديار السماوية وبين المساكن التي على الأرض؟ وما هو وجه الشبه بين الديار السماوية وبين المساكن التي على الأرض؟ أو ما هو وجه الشبه بين الأبديات والروحيات من ناحية، وبين الأمور الوقتية والفانية من ناحية أخرى، إذ ليس هناك علاقة قرابة بين الابن والملائكة ؟ وما دامت ليست هناك علاقة فإن كلمة “أفضل” لا تُذكر للمقارنة. الآية الأخرى ” أبى أعظم منى ” يقول القديس أثناسيوس 1 إن الأمر لا يتعلق باختلاف بين الآب والابن بحسب الطبيعة، بل أن التمايز يصير في الثالوث الأزلي بين الآب غير المولود والابن المولود. وهنا أيضا نرى أن القديس أثناسيوس يؤكد على قاعدة التمييز بين الثالوث ” الأزلي “، وعمله التدبيري في أحداث التاريخ التعاليم اللاهوتية للكنيسة الأرثوذكسية تُشدّد على أمرين أساسيين: 

١ – أن الله ثالوث 

۲ – وأن هناك تمايز بين الثالوث الأزلي في ذاته، وبين الحضور التدبيري للثالوث في الكون والتاريخ. 

ويُعد القديس ألكسندروس الأسكندرى رئيس أساقفة الأسكندرية (سنة ۳۱۳)، هو أول من قاوم تعاليم آريوس. فبحسب تعاليم القديس الكسندروس فإن الابن مولود” من الآب قبل كل الدهور”. 

فالابن كائن على الدوام في الآب، ولهذا فهو أزلي مثل الآب المولود منه وهذا التعليم يُعد من المحاولات الأولى التي كانت تهدف إلى توضيح العلاقة الأزليَّة بين أقانيم الثالوث ومن ناحية أخرى هذه العلاقة الأزليَّة بين الآب والإبن تظهر مدى الفرق الجوهرى بين الله وبقية المخلوقات. 

إن الحديث عن أزلية العلاقة بين أقانيم الثالوث يقودنا بالضرورة إلى توضيح معنى الحضور التدبيرى” للثالوث في الخليقة. فالعلاقة الأزلية هي حركة ذاتية داخل الطبيعة الإلهية الواحدة، بينما الحضور “التدبيرى” للثالوث هو الطاقة الإرادية الحالة في الكون. ذلك لأن رفض الآريوسيين لهذا التمايز بين أقانيم الثالوث الأزلى وبين حضوره في الكون وفي أحداث التاريخ، يجعل صورة العلاقة الله بين والكون تتغير بشكل جذرى. ولذلك فهم يرون أن الآب قد خلق الابن كحلقة وصل تربطه ببقية الكائنات ” ، أما التعليم الأرثوذكسى فيُشدّد على تمايز الأقانيم الثلاثة، وعلى وحدة الجوهر الإلهى فيما بينها. 

إن صعوبة ادراك طبيعة العلاقة بين أقانيم الثالوث – لدى البعض . يرجع إلى صعوبة فهم معنى المصطلحات المستخدمة في هذا المجال. إذ أن مصطلح طبيعة، ومصطلح جوهر يتطابقان لدى أصحاب هذا الرأي (أي الهراطقة) مع مصطلح أقنوم، ومصطلح شخص. وبناء على ذلك فإن الفهم الخاطئ لهذه المصطلحات كان يمثل خطرًا كبيرًا على التعليم الصحيح. فعند البعض كان الحديث عن وحدة الجوهر يعنى عدم التمايز بين الأقانيم وعند البعض الآخر كان التمايز بين الأقانيم يعنى الإقرار بوجود ثلاثة آلهة. لكن في وقت لاحق لهذه الصراعات، وفي مجمع الأسكندرية (سنة ٣٦٢ م) عُرِضَ موضوع التمايز بين الأقانيم وتم توضيح معنى هذه المصطلحات بدقة. وقد تأكد هذا التمييز بين مصطلح أقنوم ومصطلح جوهر على نحو واضح وجلي في رسالة القديس أثناسيوس إلى الأنطاكيين.

الوحدة والتمايز 

إذن فالحديث عن الثالوث القدوس يفرض علينا أن نؤكد على هذه الوحدة في الجوهر الإلهى وعلى ذلك التمايز بين أقانيم الثالوث القدوس. ولذلك فإن بؤرة إهتمام التعليم الأرثوذكس هو أنه يصف هذه الوحدة وهذا التمايز. وبمعنى آخر فإن سرَّ حضور الله وأفعاله المحيية والخلاقة تتضح في هذه الوحدة وهذا التمايز. ولأن الكون في حقيقته يتميز بالحركة والحياة ،والتنوع والوحدة، فهذا أيضًا يقودنا لإدراك معنى الوحدة والتمايز في الثالوث القدوس. فطالما أن الكون في مجموعه يمثل هذا النسيج الواحد الحي، حينئذا يستطيع الإنسان أن يُدرك أن خالق هذه الأيقونة لا يمكن إلا أن يوصف بنفس هذه الخصائص. فتعاليم الكنيسة عن الله تؤكد دائما على هذه الوحدة وهذا التمايز في الله. 

التعاليم الأرثوذكسية اللاهوتية، تختلف جذريًا عن الهرطقات فيما يتعلق بهذه الحقيقة الأساسية أى حقيقة الوحدة والتمايز في الثالوث القدوس، إذ أن هذه التعاليم تشدد على وحدة الجوهر في الثالوث وفي نفس الوقت تؤكد على التمايز بين الأقانيم من حيث عمل كل منهم. وبالمقابل فإن الهرطقات تُنادي بإستحالة تحقيق هذه الوحدة وهذا التمايز في الخصائص داخل الثالوث إذ تُقر فقط بوجود علاقة علاقة بين الله والكون، وأن الله الآب خلق سلسلة من الكائنات، أول هذه المخلوقات هو الابن والروح القدس، وهو يتحد معهما من خلال أفعاله الإرادية. هذه التعاليم الهرطوقية تجافي الحقيقية تماماً، وهذا واضح فيما قاله القديس أثناسيوس: [كل الأشياء الأخرى خُلقت من العدم بواسطة الابن. وهى تختلف اختلافا كبيرًا جدًا فيما بينها من حيث الطبيعة، أما الابن نفسه فهو مولود حقيقى وطبيعي من الآب]. ويقول في رسالته الأولى إلى سرابيون [ لأنه كما أن المعمودية التي تُعطى بالآب والابن والروح القدس هي واحدة ، وكما أن هناك إيمان واحد بالثالوث هكذا الثالوث القدوس إذ هو واحد مع في نفسه، ومتحد في نفسه، ليس له في نفسه ما هو من المخلوقات]. 

والواقع أن حقيقة الوحدة والتمايز بين أقانيم الثالوث تمثل القاعدة التي تبني عليها حياة الشركة بين البشر. 

قانون الإيمان يؤكد على هذه الحقيقة أن الآب هو المبدأ لأقنومي الإبن والروح القدس – نؤمن برب واحد يسوع المسيح المولود من الآب قبل كل الدهور – نعم نؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب. 

وإعتبار الآب هو المبدأ للأقنومين الآخرين (الابن – الروح القدس ) يُعبّر عنه بالتمايز بين الأقانيم. 

 

فالآب غير مولود 

والابن مولود 

والروح القدس منبثق 

أيضًا يجب التأكيد علي أن ما يجمع بين أقانيم الثالوث القدوس ليس هو وحدة الجوهر فقط، بل أيضًا وحدة الفعل. فعند شرح عقيدة الثالوث “بحسب التدبير أى علاقة الله بالكون، يصبح هذا التمايز في عمل الأقانيم الثلاثة أمرًا واضحا. فالله الآب هو مصدر كل شئ، والابن يُعلن الثالوث من خلال حضوره سواء قبل التجسد، عن طريق الإعلانات التي تمت في العهد القديم، أو بتجسده في ملء الزمان وتتميم عمله الخلاصى في الخليقة، والروح القدس هو الذي يكمل هذا العمل.

هذا هو سر الله الثالوث الواحد في الجوهر، وهذا هو سر الوحدة والتمايز. وهكذا فإن الوحدة بين الخالق والمخلوق تنحصر في مجال الفعل الإلهي، كما أن التمايز بين الله والكون لا يؤسس على مبدأ وحدة الجوهر كما هو الحال بين أقانيم الثالوث، فهناك اختلافا جذريًا بينهما في الجوهر. وفي اطار هذه الوحدة بين الله والكون تستطيع جميع المخلوقات أن تأخذ كيانًا وشكلاً وتوافقا وتناغمًا. 

إن العلاقة بين الخالق والخليقة، تتضح وتفهم من خلال التمييز بين الجوهر والفعل في الثالوث. فشركة الخليقة في الطاقة الإلهية أو الفعل الإلهي وليس في الجوهر الإلهى، يعنى أنه لا يوجد أي تطابق بين الله والكون، بل أن هناك اختلافاً جذريًا بين الله الخالق، والكون المخلوق. وهكذا فوجود حياة وحركة ونمو للخليقة، يعتمد على الشركة في الطاقة الإلهية، ولا يعتمد بطبيعة الحال على الشركة في الجوهر الإلهى. فالقول بإمكانية اشتراك الكون في الجوهر الإلهي يعنى مساواة الخليقة بالله في الجوهر، وهذا يُعد إنكارا للإيمان وتزيفاً للحقيقة، فوجود الخليقة وإستمرارها مرهون بخضوعها للفعل الإلهي فقط، وهذا يعنى اختلافها الجوهرى والجذرى عن الجوهر الإلهى غير المدرك. إذن فالضرورة تقتضي التمييز بين الجوهر الإلهي والطاقة الإلهية، وأن الخليقة بكل مستوياتها تشترك فقط في هذه الطاقة الإلهية. 

هذا التمييز يمثل الأساس الذي يقوم عليه البناء العقيدى للاهوت الأرثوذكسى. فمعرفة أن الله غير مُدرك تعنى أن الإنسان يعرف حدود ذاته، وبشكل محدد تعنى معرفته لحدود طبيعته وإدراكه لطبيعة الوضع الصحيح للعلاقة بين الله والكون . فمحاولة معرفة جوهر الله  بأي طريقة كانت يقود إلى تشوية هذه العلاقة بين الله والكون، وتخلق مشاكل عديدة في واقع الإنسان وحياته الطبيعية والاجتماعية. 

هذا الرأى يوصف بإنه انحراف لاهوتي يقود نحو تأكيد الوحدانية المطلقة في الله، ويمثل رفضا واضح لعقيدة الثالوث القدوس وبناء على ذلك ستُقدم المسيحية على أنها مجرد تعاليم أخلاقية، وبالتالي ستتبدل الأبعاد الخلاصية للمسيحية، وسيكون التركيز فقط على النماذج القانونية والأخلاقية والمقصود بالنموذج الأخلاقى، تلك التعاليم التي تُنادي بإن خلاص الإنسان يعتمد على إمكانياته وجهاده للوصول إلى مرحلة القداسة والكمال. فالكلمة بالنسبة لهم هو حلقة وصل يربط الله بالعالم، وعليه فليست هناك أي علاقة بين الله والكون . هناك فقط تقدم أخلاقى في مسيرة مستمرة نحو الوصول إلى الكمال . وهذا الأمر (أي النمو والتقدم في الأخلاق) قد أتمه أيضًا “الكلمة” المخلوق . بحسب تعاليم آريوس. 

إن الوحدة والتمايز بين أقانيم الثالوث القدوس، سواء إختص الأمر بالعلاقة الأزلية بين أقانيم الثالوث ، أو تعلّق بسر التدبير الإلهي، أي فيما يخص علاقة الله بالكون، فإن هذه العلاقات هي التي تساهم في فهم سر الله وسر الكون. وهكذا يستطيع الإنسان أن يتجنب أية تأثيرات ضارة للهرطقات، إذ يعيش في شركة حقيقية مع الثالوث القدوس داخل خبرة الكنيسة التي تؤمن بهذه الحقيقة الإلهية وتكرز بها. 

 

  1. Μαξίμου ομολογητού, περί των δύο του χριστού φύσεων P.G. 91, 145.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top