أثيناغورس الأثيني
+ ۱۸۰
أثيناغورس فيلسوف مسيحي من أثينا، ولد في النصف الأوّل من القرن الثاني. متأثر بأفلاطون . لذلك يعكس موقفًا إيجابيا من الفلسفة والثقافة اليونانيتين، ونلمس عنده تطوّرًا لاهوتيا أشدّ وضوحًا منه عند يوستينس. قلّما يذكره المؤرخون القدامى مثل أوسابيوس وهيرونيمس. على الأرجح توفّي العام ١٨٠.
تأليفه
كتب أثينا غورَس كتابين بغية الدفاع عن المسيحيّة وإيصال تعليم المسيح إلى معاصريه بلغتهم الأدبية والفلسفية.
۱- الالتماس من أجل المسيحيين
هذا الالتماس رسالة مفتوحة كتبها العام ۱۷۷ إلى الإمبراطور الفيلسوف مرقس أوريليوس وابنه لوسيانس كومودس، في سياق الاضطهادات التي عمّت مدن ليون وفيينا ورومية، بسبب اتهام المسيحيين بالإلحاد وأكل لحوم البشر وارتكاب المحرمات : “إنّ خطابنا هذا يبرهن لكم كم نحن نُعذِّب ظلما ضد كل منطق وقانون. إننا نطلب منكم أن تنظروا في أمرنا، وألا تأخذوا بكلام أناس نمامين وحسودين، حتى لا نذهب ضحيّة هؤلاء. إنّكم أطلقتم الحرّية لجميع الأديان، ورأيتم أنّه الضروري أن يعبد كلّ امرئ الآلهة التي يريد … أما نحن فبعكس ذلك، مستهدفون حقدًا وضغينة بمجرد ذكر اسمنا . ولقد أمرتم بملاحقتنا وخطفنا وطردنا… خطابنا هذا يعبّر لكم كم نحن نتألم ظلما” (الالتماس، ١).
من
يعكس الكتاب منهجيّة منطقيّة دقيقة، وأسلوبًا أدبيا رفيعًا . يتكوّن من ٣٧ فقرة، يدحض فيه الاتهامات الثلاثة ضدّ المسيحيين، مبينا أنهم بريئون منها . المقدمة (١-٣)، يمتدح فيها عظمة الإمبراطور وحكمته، ويشير إلى تمتع جميع المواطنين بالحرّية والسلام بفضله، ما عدا المسيحيّين، لذا يطالب بشملهم بذلك . ثمّ القسم الأوّل (٤ – ٣٠) يتكلّم فيه على اتهامهم بالإلحاد، ويبرهن بأنهم ليسوا ملحدين، بأي شكل من الأشكال، بل بالعكس إنّهم يعترفون بالله خالق الكون الذي بواسطة «الكلمة» خلق كلّ الأشياء، ومثلما أنّ الفلاسفة والشعراء لم يُعدّوا قط ملحدين، هكذا المسيحيون بتمييزهم المادة الزائلة من خالقها السرمدي ، الذي لا يحتاج إلى الذبائح الدموية، لا يُعدون ملحدين. إنّهم يؤمنون بابن الله وبالروح القدس مُلهم الأنبياء، ويؤمنون بقضاء الله بعد الموت . القسم الثاني وهو أقصر (٣١-٣٦) يدحض الاتهامين الآخرين : أكل لحوم البشر وارتكاب أعمال منافية للأخلاق، مؤكّدًا أن المسيحيين يبتعدون عن الدماء والقتل، حتى الإجهاض، ويشجبون العنف، ويؤمنون بقيامة الأجساد. فكيف يا ترى يمكن تصديق هذه التهمة ؟! والمسيحيون يعيشون في العفاف والنقاوة، ويحبّون بعضهم بعضًا كآباء وأبناء وإخوة وأخوات في غاية البراءة والفرح فكيف يتهمون بارتكاب المحرَّمات؟! . أمّا الخاتمة (۳۷) فتدعو الإمبراطور إلى الإصغاء لهذا الالتماس، وعدم تصديق الاتهامات والسعي لتطبيق العدالة بشأن الناس الأبرياء المخلصين هؤلاء، الذين يصلّون من أجله ومن أجل مملكته، وأخيرًا أتوجه إليكم، أنتم رجال الصلاح، بطبيعتكم وثقافتكم، وطالبًا منكم أن تلتفتوا إلي أنا الذي أجبت عن الشكاوى والاتهامات الموجهة ضدّنا، وأظهرت في التماسي هذا أننا مؤمنون بالله، ومعتدلون وأنقياء النفس ومَن مِن البشر يستحق أن يتمتّع أكثر منا، بما يطلب، نحن الذين نصلي من أجل استمرار ملككم … حتى نعيش حياة سلام وأمان، فنعبد الله، ونطيع أوامركم (۳۷).
٢- قيامة الموتى
إنَّ هذا الكتيب هو أفضل ما وصل إلينا من آباء القرن الثاني عن القيامة. يتكوّن من ٢٥ فقرة. الجزء الأوّل (۱۰۱) يرفض الاعتراضات على القيامة. والجزء الثاني (١١-٢٤) يبرهن على حقيقة القيامة مظهرًا أنّ الجسد يخص طبيعة الإنسان وأنّ النفس لا تستطيع بدونه الوصول إلى الهدف. القيامة اكتمال الخليقة، بما أنّ الإنسان خُلق من أجل الحياة الأبديّة بحسب مقصد الله . ولأنه مركب من جسدٍد ونفس، فإذا انفصلت النفس عن الجسد بسبب الموت فهي سوف تعود إليه في القيامة (١٥). أما الخاتمة (٢٥) فتشير إلى أنّ القيامة تقود الإنسان إلى مشاهدة الله والتأمل فيه. ويتساءل أخيرًا، كيف يا تُرى، يقومُ من بين الأموات أكَلَهُ لحوم البشر؟
أطروحاته
يقدّم أثيناغورس تحليله عن مبادئ الإيمان بطريقة دفاعية وفلسفية، لكن يبقى ملتصقا بالكتاب المقدس. ويعرض خلاصة لاهوتية متماسكة فكريا وفلسفيا وأدبيا، من دون مساومة ولا تنازلات. نجد عنده توازنا ينبع من معرفته العميقة قواعد الحوار والإخلاص المطلق لإيمانه.
الله
ينصب كلُّ اهتمام أثيناغورس على إظهار وحدانية الله . فصوت الفلاسفة والشعراء الأوّلين (الالتماس ، ٥) ، ثمّ بشكل خاص صوت الأنبياء (الالتماس، ۹)، يعلن وجود إله واحد غير مخلوق، غير مائت، غير منقسم، هو مبدأ الكون وخالقه الوحيد (الالتماس، ٩). وجوده لا يسمح بوجود آلهة أخرى : إنّ هذه التعاليم التي نؤمن بها لیست تعاليم بشريّة، بل تعاليم إلهيّة أوحى بها الله بواسطة الأنبياء وبواسطة ابنه يسوع المسيح (الالتماس، ۱۱). نحن إذن لسنا ملحدين عندما نؤمن بإله واحد غير مولود، أزليّ، غير قابل التغيير غير مدرك غير محدود نفهمه بواسطة العقل وبالفكر المغمور بالنور والجمال والقوّة التي لا توصف (الالتماس ۱/۱۰).
الابن والروح القدس
إن أثيناغورس إلى جانب تأكيده وحدانية الله ، يشدّد حالا على ألوهة الابن والروح القدس. والبنوّة هنا تختلف عما هو في الأساطير الوثنية: “إنّ ابن الله هو الكلمة فكرًا وفعلا، به وعلى صورته خلق كل شيء، لأنّ الآب والابن واحد. إنّه موجود منذ الأزل مع الآب، إنّه في الآب والآب فيه وهما واحد في الروح والقدرة” (الالتماس ١٠/ ٢). إنّه “مثال وفعل للخليقة كلّها على الأرض” (الالتماس ٣/١٠). أما الروح “فلا ينبثق منه كانبثاق النور من النار» (الالتماس ٢/٢٤).
وينهي خطابه عن الثالوث : “من لا يتعجّبن أمام اتهامنا بالإلحاد؟! . نحن نؤمن يقينا بالله الآب وبالله الابن وبالله الروح القدس، الأقانيم الثلاثة المتميزة في الشأن والمركز، لكنّها متّحدة في الجوهر” (٥/١٠).
الملائكة والشياطين
إن أثيناغورس هو الثالث بين المدافعين، يؤمن بوجود الملائكة والشياطين: “نحن نقول : إنّ هناك عددًا كبيرًا من الملائكة هم خدّام خالق العالم وصانعه، وبواسطة الكلمة الآتي منه ، وزّعهم وكلّفهم للاهتمام بجميع عناصر الكون، وبالسموات وبالعالم وبكل ما فيها ليكون كلّ شيء متوازناً ومتناغما … ويأمر الله يسهرون على الخليقة بشكل يتماشى مع المخطط الذي وضعه الله الالتماس ٥/١٠) . إلى جانب هؤلاء الملائكة الصالحين هناك ملائكة أشرار هم شياطين (الالتماس ٥/٢٤) لقد سقطوا في شهوة الجسد فصاروا شياطين وهم يحومون حول الأرض لإيذاء البشر، وخلق البلبلة (الالتماس ٢/٢٧).
أخلاقية المسيحيين
أمام الاتهامات الملصقة بالمسيحتين راح أثيناغورس يمتدح سموّ أخلاقهم، وكمال سيرتهم، وعيشهم العفّة والنقاوة، ومظهرًا بالمقابل عفونة سلوكية الوثنيين: “إنّكم تجدون بيننا رجالا ونساء عديدين طاعنين في السن، لم يتزوجوا، أملا منهم بأن يكونوا متحدين أكثر بالله” (الالتماس ٢/٣٣). ويذكر بالعكس سوق البغاء والفنادق التي هي حانات اللذة وانتشار الزنى والطلاق بين صفوف الوثنيين (الالتماس ٢/٣٤). المسيحيّ يتزوّج مرّة واحدة لإعطاء الحياة ويحرم الزواج الثاني للأرامل : “بما أنّنا نؤمن بالحياة الأبديّة، فخيرات هذه الدنيا وملذاتها عندنا هباء، وكلّ واحد عندنا ينظر إلى المرأة التي تزوّجها من وجهة إنجاب الأولاد ومشاركة الله في الخلق .. إنّ الذي يترك امرأته الأولى، أو الذي يفقدها بالموت، لا يحق له أن يتزوّج ثانيةً لأنّ الله، في البدء، خلق رجلًا واحدًا وامرأة واحدة، ولم يخلق لآدم عدة نساء” (الالتماس ١/٣٣، ٦).
كما أنه يبيّن أنّ المسيحيين يرفضون جميع أنواع العنف والقتل والإجهاض : «إننا نرفض جميع الوسائل التي يستعملها الناس للإجهاض، لأنّ ذلك هو قتل الجنين عمدًا. وبما أنّنا نرفض قتل الجنين في بطن أمه، فكيف يا ترى يتهموننا بأننا من أكلة لحوم البشر، وبأننا قتلة؟ إنّه ليس في مقدورنا أن نفكر في قتل من تقدّم في الحياة، ونرفض فكرة الإجهاض . . ذلك لأننا جميعًا كبارا وصغارًا، سواسية أمام الله، وهذا ما يقرّه العقل السليم، وهذا ما تعلمناه من ديانتنا المسيحية (الالتماس ٥:٣٥).
يذكر أنّ هذه الأخلاقيّة الرافضة الفساد والعنف مبنيّة على الحبّ والنقاء (٤/١)، وهي شهادة أعمق لحقيقة المسيحيّة: “تجدون بيننا أناسًا أميين وحرفيين وطاعنين في السنّ لا يقدرون على التعبير عن عقيدتهم بكلمات رنانة، ولكن أعمالهم تبين أهمية اختيارهم. إنّهم لا يلقون خطابات عن ظهر قلب، ولكنّهم يقومون بأعمال صالحة، يضربون من دون أن ينتقموا يسرقون من دون أن يقدموا شكوى، يعطون لمن يطلب، ويحبّون القريب محبّتهم لأنفسهم” (٤/١١) .
القيامة
القيامة، كما ذكرت شرحها أثيناغورس في خطابه عنها ، وفي الالتماس يذكر أنّ حضور الله في فكرنا وعملنا هو دلالة على أنّ حياتنا لا تنتهي : «إننا نؤمن بأننا عندما نغادر هذه الحياة الدنيا ، ننتقل إلى حياة أخرى أفضل منها ، إلى حياة في السماء وليس على الأرض، مع الله وفي الله ونبقى ثابتين في النفس وليس خاضعين للتغيير كما في الجسد الالتماس (٣١ (١٤) . ويؤمن صراحةً بقيامة الأجساد، نافيًا تهمة أكلة لحوم البشر : “لا يمكن أن نؤمن بقيامة أجسادنا ونأكلها” (الالتماس ١/٣٦).
نص
وحدانية الله
يجب أن تنظروا إلى ما عرضته في أعلاه بخصوص وحدانية الله الخالق منذ البدء، حتى تستطيعوا أن تفهموا عقلانيّة إيماننا . لو فرضنا وجود إلهين أو أكثر، منذ البدء، متحدين في شخص واحد ولهما هوية واحدة أو أن كلا منهما مستقل عن الآخر، فهذا يعني إذا كانا إلهَيْن فلا يمكن أن يكونا متشابهين لأنهما لم يخلقا ولأنّ الكائنات المخلوقة وحدها تشبه الكائن الذي خلقها، في حين أنّ الكائنات غير المخلوقة لا شبه بينها لأنّ أحدا لم يخلقها، ولا تشبه أحدًا.
إذا كان الله واحدًا أحدًا، مثلما اليد والعين والرجلُ أعضاء مكملة للجسد الواحد، وتشكّل من بين الكلّ شخصًا واحدا هو على سبيل المثال سقراط الذي هو مولود وخاضع للانحلال، ومركب ومنقسم إلى عدة أجزاء، فالله هو غير مولود، غیر زائل غیر منقسم، وغير مركب من عناصر عدّة.
إذا كان كلّ واحد من هذه الآلهة منفصلا عن الآخر، فهذا يعني أنّ خالق العالم هو فوق جميع المخلوقات التي أوجدها وصنفها بترتيب . وإذا كان العالم المخلوق هو على شكل دائرة مغلقة بأطر السماء، وخالق العالم هو فوق جميع المخلوقات، يديره بعناية في سبيل هذه المخلوقات فهذا يعني أنّ لا مكانة لإله آخر أو آلهة أخرى. لذلك ليس في العالم وحوله إله سوى الله الواحد الذي يفوق جميع المخلوقات التي أوجدها ،إذن كما ترون، إنّه لمن المنطقي أن يكون الله، خالق العالم، واحدا.
قد يكون هناك من يفكّر أنّ هذه العقيدة التي نتمسّك بها، هي من صنع البشر، ولكن هي ذي أصوات الأنبياء تنادي بمصداقية ما نؤمن .. وهذه بعض أقوالهم : «إنّ الله هو ربّنا وليس هناك إله يشبهه» (باروك ٣٦/٣)؛ «أنا هو الله أوّلاً وآخرًا ولا إله غيري» (أشعيا ٦/٤٤)؛ تثنية ٣٩/٣٢). أترك لكم أن تفحصوا بإمعان نبوءاتهم، وتقرأوا الكتب المقدّسة، فتتحققوا بأنفسكم من عقلانية إيماننا، وتكفّوا عن إلصاق التهم بنا . بالنسبة إليّ، لقد أظهرت [الكتب]
بكفاية أننا لسنا ملحدين، نحن الذين نؤمن بإله واحد ، غير مولود، أزليّ، غير منقسم غير قابل التغيير، لا شبيه له . . وإننا نؤمن بابن الله ، ولربّما يفكّر من لا يؤمن أنّه من المضحك أن يكون الله ابن . نقول بهذا الخصوص إننا نفهم أنّ : الله الآب والله الابن هما بشكل يختلف عمّا تصفه قصائد الشعراء وأساطير الآلهة التي تظهرهم مثل البشر ولا أفضل منهم إبن الله هو كلمة الآب فكرًا وفعلا . على صورته وبواسطته صُنعت كلُّ المخلوقات. ثمّ إنّ الآب والابن متحدان في الجوهر وإنّ الابن هو في الآب، وإنّ الآب فيه بالجوهر، وبقدرة الروح القدس» (الالتماس ۸، ۹، ۱۰)
قيامة الموتى
إنّ الله العليم لم يخلق الإنسان من دون سبب، لأنّ كل عمل المعرفة يكون عبنا . الله لم يخلقه لمنفعته الشخصيّة، لأنّه لم يكن بحاجة إلى شيء وإلى أحد البتة. لم يخلق الكائنات من أجل فائدة خاصة ولم يخلق الإنسان من أجل أحدٍ منها . ولا أحد من هذه الكائنات العليا أو السفلى المتمتعة بالعقل والحكم خلقها من أجل أحد، بل خلقها من أجل ذاتها من أجل أن تستمرّ في الحياة …
إذن خلق الله الإنسان في سبيل ذاته خلقه رحمةً منه، ومتعه بالمعرفة حتى يتأمل في الخليقة جمعاء .. إنّ المخلوقات التي تحمل في ذاتها «صورة الخالق، أي المتمتعة بالعقل والتمييز وهبها الخالق حياةً دائمية وأبديّة، وإذا عرفوا خالقهم وقدرته وحكمته واتبعوا وصيّته ، وعدله فهم يعيشون من دون ألم في الأبدية، ، وينعمون بعطاياه التي كانت تحفظهم في حياتهم السابقة حين كانوا يحيون بأجساد أرضيّة زائلة» (القيامة ٣ و٦).