الخلاص ومحبة الله
إن تناول موضوع الخلاص الذي قدم مجانا لإنقاذ الجنس البشري من براثن الفساد والموت يُلزمنا بالبحث الدقيق في كتابات الآباء للإطلاع على الأسباب الحقيقية التي دعت الآب لأن يقدم إبنه ذبيحة من أجل خلاص جنس البشر. الرؤية الآبائية في مجملها تؤكد على أن الخلاص هو العمل التدبيري للثالوث القدوس، وأن إقنوم الكلمة المتجسد هو الذي أتم هذا العمل الخلاصي الذي إستعلن بالصليب والموت والقيامة والواقع أن هذه الرؤية على هذا النحو تقودنا إلى نتائج محددة، يمكن حصرها في الآتي:
1- إن المحبة الفائقة للبشر تشكل العنصر المشترك بين أقانيم الثالوث وأن هذه المحبة تُعد الدافع الأساسي والأولى في خلاص الجنس البشري.
2- إن هذا العمل الخلاصي، هو عمل يخص أقانيم الثالوث القدوس معا :
+ فالآب خلق الإنسان بالإبن كلمة الله “الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان (يو 1: 3) وهذا يعني أن المبادرة في موضوع الخلاص، هي من قبل الآب.
+ والإبن هو المخلص الذي جدّد الطبيعة الإنسانية في شخصه، والوسيط الذي أتم المصالحة بين الله الآب والإنسان الساقط.
+ والروح القدس هو القوة المحييّة في عملية الخلاص، تماما كما كان في حالة الخلق منذ البدء. القديس إيريناؤس في هذه الجزئية تحديدا، يربط إعادة خلق الإنسان وتجديد طبيعته في المسيح، بعملية الخلق الأولى، والتي هي أيضًا نابعة من محبة الله غير المحدودة. ويتساءل إن لم يكن الخلق الأول نابع من محبة الله، فهل كان هناك ما يُجبره على خلق العالم، وخلق الإنسان؟
إذن سر الخلاص مرتبط بشكل أساسي بمحبة الثالوث الفائقة للبشر. لكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه المحبة الإلهية ليست محبة طارئة على الطبيعة الإلهية قد ظهرت للعلن بسبب تلك النهاية المحزنة التي آلت إليها الإنسانية، نتيجة السقوط في الخطية، بل إن هذه المحبة نابعة من طبيعة وجوهر الثالوث القدوس ذاته. وبناء على ذلك فإن خلاص جنس البشر لا ينحصر ولا يُختزل في حدث بعينه، أي حدث السقوط في الخطية، بقدر ما هو أمر متعلق وبشكل مباشر بمحبة الله الفائقة نحو خليقته. هذا ما يقوله القديس أثناسيوس: [لأجل قضيتنا تجسد لكي يخلصنا وبسبب محبته للبشر قبل أن يتأنس ويظهر في جسد بشري]. ويضيف، في موضع آخر من نفس المقال [لكي لا تظن أن مخلصنا كان مُحتاجًا بطبيعته أن يلبس جسدا ، بل لكونه بلا جسد بطبيعته ، ولكونه هو “الكلمة”، فإنه بسبب صلاح أبيه ومحبته للبشر، ظهر لنا في جسد بشري لأجل خلاصنا ]. ويقول أيضًا: [وهكذا إذ إتخذ جسداً مماثلاً لطبيعة أجسادنا، وإذ كان الجميع خاضعين للموت والفساد، فقد بذل جسده للموت عوضا عن الجميع، وقدمه للآب. وقد فعل كل هذا من أجل محبته للبشر].
لذلك فإن “خلق الإنسان على صورة الله ومثاله”، كما جاء بسفر التكوين، يُنسب إلى الصورة الأصلية، والمقصود هنا ليست صورة “الكلمة” قبل التجسد ، بل صورة المسيح الظاهر في الجسد ، الذي جاء إلى العالم ودخل التاريخ الإنساني، لكي يتمم رسالة الخلاص. فالرؤية الآبائية بشأن خلاص جنس البشر ، لا ترى أن مركز الثقل في هذا الموضوع مرتبط بسقوط الإنسان في الخطية، بقدر ما تراه مرتبط بمحبة الله الفائقة نحو البشر.
ثمار الإتحاد بالله
إذن فالتجسد – كما يراه الآباء – يعكس محبة الله اللانهائية تجاه الإنسان الساقط، إلا أن هذه الرؤية لا تُعبر فقط عن مقدار محبة الله نحو خليقته، بل أيضًا تُعبر عن الوسيلة المتفردة التي أراد بها الله أن يسحق الخطية، ويمحو الشر، ويشفي الإنسان من هذا المرض (الخطية) الذي تسلّل إلى حياته. وبطبيعة الحال لا يستطيع الإنسان الساقط، الواقع تحت ثقل الخطية، حتى وإن أراد أن يقاوم الخطية وحده. هكذا بادر الله بدافع من محبته الغير محدودة تجاه الإنسان أن يرفع هذه الحمل عنه، ويقضي على الخطية التي سبق وأرهقت كاهل الإنسان عبر كل العصور التي سبقت التجسد الإلهي. لأن الموت – بسبب الخطية . كان قد مَلَكَ على الجميع كما يقول الرسول بولس “قد ملك الموت من آدم إلى موسى على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم (رو 5: 14). ولهذا كان ضروريًا أن تتحد الطبيعة المخلوقة بالطبيعة غير المخلوقة، حتى ينال الإنسان إمكانية النصرة على الخطية والفساد والموت، في شخص المسيح الذي أعاد تجديد الطبيعة الإنسانية وإنتصر على الموت بموته.
هذا الإتحاد بين الطبيعتين في المسيح هو الذي أعطي للإنسان أيضًا إمكانية الإتحاد بالله. إنه إتحاد حياة بموت كما يقول الآباء، لأنه كان من المستحيل أن يعود الإنسان إلى الحياة بدون الحياة (أي بدون المسيح). فقد قال عن نفسه : أنا هو القيامة والحياة (يو 11: 25) ، وفي موضع آخر يقول أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6). وهذا يعنيأن الطبيعة المخلوقة المائتة، قد دخلت في إتحاد فائق مع الطبيعة غير المائتة، ونتيجة هذا الإتحاد نالت ما هو ليس من طبيعتها، أي عدم الفساد وعدم الموت. وهذا ليس حلا دينيًا أو أخلاقيا كباقي الحلول التي عرفها العالم عبر تاريخه بل هو تجديد شامل صنعة الله في الطبيعة الإنسانية. وهذا ما شرحه القديس أثناسيوس بشكل دقيق وواضح بقوله: [ لم يكن ممكنا أن يظهر (المخلص) إلا في الجسد، لذالك لبس الكلمة جسدًا لكي يلاقي الموت في الجسد ويبيده. لأنه كيف كان مستطاعا البرهنة على أن الرب هو ” الحياة” ما لم يكن قد أحيا ما كان مائنا ثم يضيف قائلاً بأن [كلمة الله الذي بدون جسد، قد لبس الجسد لكي لا يعود الموت والفساد يُرهب الجسد لأنه قد لبس الحياة ثوباً، وهكذا أبيد منه الفساد الذي كان فيه].
كل هذه العطايا في الواقع هي ثمرة الإتحاد بالله، وهذا يعني بالضرورة:
1- أن نمط السلوك الإنساني قد تغيّر ليصبح سلوكا روحيًا على مثال سلوك المسيح ذاته “ينبغي أنه كما سلك ذاك نسلك نحن أيضا” (1يو 2: 6).
2- إن هذا السلوك لا يرتبط بجهاد الإنسان فقط، بل بشكل أساسي بعطية الله لكل إنسان حتي يستطيع أن يحيا حياة مسيحية حقيقية.
نحن إذا أمام ولادة جديدة (بالروح) ، وتاريخ جديد، وحياة جديدة، إنه تاريخ المحبة النقية، الباذلة الحرة، غير المستعبدة للوجود المادي. وإرتداء حلة المحبة هو شرط أساسي للدخول إلى أعماق هذه الحياة الجديدة. ولهذا فقد أكد الآباء على أنه لا يمكن للكنيسة أن تشهد للمحبة ولا أن تكون جسرًا تعبر عليه هذه المحبة إلى العالم، ولا أن تعتق الخليقة من عبوديتها لناموس الإنقسام والموت، مالم تجد كمالها في المحبة. ولذلك فإن الجحيم الذي ينتهي إليه الإنسان، يُوصف في التعاليم الآبائية، بإنه غياب للحب، وسيادة لمفهوم الأنا والانحصار البغيض في الذات.
الحياة الجديدة والخليقة الجديدة
نستطيع أن نؤكد في ضوء ما سبق على أن الخلاص الذي تحقق لجنس البشر في شخص المسيح، قد أنشأ بالحقيقة خليقة جديدة وحياة جديدة، وأن هذه الحياة الجديدة ليست مجرد أفكار ورؤى ينبغي إقتناءها، بل هي خبرة الإتحاد بالشخص، شخص المسيح الذي أنار الحياة والخلود، وأعطي حياة لكل البشر من له الإبن فله الحياة ومن ليس له إبن الله فليست له الحياة” ( 1يو 5: 12).
جوهر هذه الحياة الجديدة تحديدا، يتمثل في حياة المسيح المنسكبة في البشر بكل ما تحمله من نقاوة وبر وقداسة وحق كما يقول القديس بولس وتلبسوا الجديد المخلوق بحسب صورة الله في البر وقداسة الحق” (أف 4: 24).
هكذا فإن بر الله وصلاحه قد دفعه لأن يكشف للإنسان أهمية وروعة الحياة مع الله، وفي نفس الوقت مأساة الحياة بمعزل عن الله. وقد إختبر الإنسان هذه العزلة فحكم على نفسه بالموت “أنا جلبت على نفسي حكم الموت”. وهذا ما عبر عنه سليمان الحكيم بقوله ” إن الله صنع الإنسان مستقيما . أم هم فطلبوا إبتداعات كثيرة” (جا 7: 29 س). الواضح إذن من سياق الآية أنها تُشير للإنسان في البداية بصيغة المفرد، ثم تعود بعد ذلك وتذكره بصيغة الجمع. الإنسان عند القديس كيرلس هو البشر أو الطبيعة الإنسانية التي أصابها المرض (مرض الخطية)، وطالما أن الطبيعة قد مرضت فمن الطبيعي أن ينتقل المرض لباقي البشر الذين ينتمون إلى هذه الطبيعة. ولتوضيح ذلك أعطي مثالاً بجذر الشجرة الذي إذا ما أصابه المرض، سيكون من المؤكد في هذه الحالة أن ينتقل المرض إلى كل فروع هذه الشجرة.
وهكذا أصبحت الطبيعة الإنسانية، بسبب الخطية، مياله إلى فعل الشر، وخاضعة لسلطان الموت . الخلاص من هذه الحالة التي وصلت إليها الطبيعة الإنسانية، كان يقتضي تدخلاً إلهيًا لتجديد هذه الطبيعة، لتصبح مهيئة لقبول العطايا الإلهية فيما بعد. خاصةً وأن الإنسان قد فقد النعمة الإلهية المحييّة، وهو لا يمكنه أن يسترد هذه النعمة بقدراته الذاتية، بل الله وحده هو الذي له القدرة أن يُعيدها إليه. لذلك كان من غير الممكن أن يعود الإنسان مرة أخرى إلى الحياة بدون مانح الحياة.
وهكذا كان تجسد الكلمة هو الحل الوحيد، لإنقاذ الطبيعة الإنسانية الساقطة من براثن الفساد وقبضة الموت هذا ما يشرحه القديس كيرلس بقوله : [ لأن كلمة الله هو بالطبيعة حياة، فقد جعل ما هو بالطبيعة فاسد جسد له لكي يحوله إلى عدم فساد بإبطال قوة الموت فيه]. هذا التحول الذي حدث في الطبيعة الإنسانية من حالة الفساد والموت، وإلى حالة عدم الموت، راجع كما يرى القديس كيرلس، إلى هذا التدخل الإلهي المباشر لتجديد الطبيعة الإنسانية. لأن الله كان قد أعد جذراً آخر غير الجذر القديم الذي نبتت منه الإنسانية القديمة وهذا الجذر هو المسيح.
وإذ لم يكن الإنسان قادرًا على العودة إلى الحياة مرة أخرى لأن حياة عدم الموت ليست عنصرًا طبيعيًا ينتمي إلى الطبيعة المخلوقة، بل هو عنصر يأتي من خارجها، فإن الله القادر على كل شيء قد منحه هذه الحياة أي كعمل يليق بالله. لذلك فإن قبول المسيح لموت الصليب بكامل إرادته، يُعبر عن تطابق تام بين إرادة الآب وإرادة الإبن ، وأيضا خضوع تام لإرادة الله البار الذي لم يشفق على إبنه بل بذله لأجلنا أجمعين” (رو 8: 32-33). ولأن أجرة الخطية هي موت ولأن الموت كان هو الحاجز الذي يفصل الإنسان عن الله، فقد قبل المسيح أن يجوز الموت طوعا، فداس الموت بموته وقام حيًا، ورفع هذا الحاجز إلى الأبد . ولهذا قال الرسول بولس “آخر عدو يبطل هو الموت”. وبالتأكيد لم يكن للرسول بولس أن يدعو الموت “عدو”، إن لم يكن حقًا يُمثل عائقاً وحاجزًا، يفصلنا عن الفرح الحقيقي والسعادة الحقيقة. لأنه كان من الضروري أن يتحرر أولئك الذين ورثوا الفساد والموت من هذه القيود، ويُرفع هذا الحاجز. إذ “لا يرث الفساد عدم الفساد” ( 1كو 15: 50).
لقد أبطل المسيح سلطان الموت بقيامته، وحرر المقيدين من قبضته أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية” ( 1كو 15: 22). فقيامة المسيح كما يرى الآباء هي منحة وهبة للإنسان، عطية حياة جديدة، تماما مثلما حدث في خلقته الأولى. فكما أن الإنسان قد أتي للوجود ، دون إراداته، هكذا في القيامة نال الحياة، وإنتصر على الموت دون أن يُقدم أي شيء. إذن فقد بات من الواضح أن مفاعيل الآلام، والصليب، ،والموت، والقيامة قد تجلّت في تحطيم كل ما من شأنه أن يفصل الإنسان عن الله. هذه الأعمال أيضًا لم تكتف فقط برد الإنسان إلى مكانتة قبل السقوط، بل نقلته إلى وضع أفضل بكثير مما كان عليه، لقد دخل مرحلة جديدة أسمى بكثير من حالته الأولى، وهي مرحلة الإتحاد بالله.
أما البعد الآخر في التعليم عن الخلاص فيتمثل في المصالحة مع الله والتي تحققت في المسيح، حتي يتمكن الإنسان من التعرف على طبيعة الله الصالحة يُشدّد القديس أثناسيوس على أهمية هذه المعرفة وهو بصدد الحديث عن صلاح الله، فيقول [إن الله بسبب صلاحه تحنن على الجنس البشري ولم يتركهم بعيداً عن معرفته، لئلا يكون وجودهم في الحياة بلا أية منفعة]. ولكي يكتسب الإنسان هذه المعرفة المستقيمة عن الله الآب، تجسد “الكلمة”، وقدم هذه المحبة الإلهية في نقائها وكمالها، وكشف له عن طبيعة الله الحقيقية، التي سبق وأن تشكك فيها مؤمنًا بما قاله الشيطان بإن “الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر” (تك 3: 5).
إرتباط الخلاص بالمعمودية والإفخارستيا والميرون :
إن هذا العمل الخلاصي الذي اتمه المسيح لازال مستمر في الكنيسة وبالكنيسة التي هي جسده، بواسطة الأسرار، وعلى وجه الخصوص سر المعمودية، وسر المسحة المقدسة، وسر الإفخارستيا .
إن إحياء النفس في سر الإفخارستيا لا يختلف في طبيعته عما تحصل عليه من نقاوة في المعمودية، كما يرى القديس كيرلس، فالحياة الروحية عنده، تعني على الدوام الموت عن الخطية، والحياة في الله بالمسيح.
فالمعمودية ترمز إلى موت المسيح وقيامته، وكما سحقت الخطية بصلب المسيح وموته، وتحققت النصرة على الموت بقيامته، وتمت المصالحة بين الإنسان والله هكذا الحال في المعمودية، التي فيها يموت المعمد ويقوم، كما يقول الرسول بولس “مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات” (كو 2: 12). وبإتمام سر المعمودية، ينضم المعمد إلى عضوية جسد المسيح، ويخلع الإنسان العتيق، ويلبس الإنسان الجديد بحسب الله ” تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد.. وتلبسوا الإنسان الجديد بحسب “الله (أف 4: 22-24) . غير أن المعمودية بحسب تعاليم الآباء ليست هي الحياة، ولكنها البداية الحقيقية للحياة الجديدة (أي المسيح) ” أنتم الذين إعتدمتم للمسيح قد لبستم المسيح” ( غل 3: 27) ، وبواسطتها أيضًا يكتسب الإنسان معرفة الثالوث، ولذلك فهي تُدعى إستنارة، لأنها تمنح نور المعرفة الإلهية. الجدير بالذكر أن الليتورجية القبطية تنادي بأن كل النعم والبركات التي ننالها في المعمودية هي بسبب التجسد والخلاص التي تحقق للبشرية فهي حين تطلب عن الموعوظين المقبلين على سر المعمودية، تقول: [إنعم عليهم بطهارة وخلاص، وهب لهم خلاصا أبديًا، ولدهم مرة أخرى بحميم الميلاد الجديد ومغفرة خطاياهم، أعدهم هيكلاً لروحك القدوس بإبنك يسوع المسيح]. ويؤكد القديس يوستينوس الشهيد على الإرتباط القائم بين المعمودية والحصول على الخلاص، إذ يقول: [نحن نصلي بلجاجة معًا من أجل نفوسنا ومن أجل المعمد، ومن أجل الجميع في كل مكان، لكي نستحق معرفة الحق، ولكي بعمل الصلاح وحفظ الوصايا ، نحصل على خلاصنا الأبدي].
أما فيما يتعلق بسر المسحة المقدسة وسر الإفخارستيا ، فهما يمثلان كمال الحياة بالنسبة للمؤمن. فسر المسحة يمنح الروح القدس، لكي يستطيع المعمد أن يحيا حقا بحسب المسيح في البر وقداسة الحق . إنه إنسكاب جديد للروح القدس، هدفه تكميل القدرات الروحية التي صارت داخل النفس بالمعمودية. أما سر الإفخارستيا فيمنح المؤمن إمكانية الإتحاد بالمسيح.
فتناول جسد المسيح ودمه يؤثر على جسد الإنسان ونفسه كما يقول العلامة كليمنضس الأسكندري، ويقدسه ويجعله كاملا مثلما أن الله هو كامل. المسيح نفسه هو الذي يُعطي ذاته كغذاء للنفس المؤمنة، أما مفاعيل هذا الغذاء فهي الإتحاد بالمسيح وتقديس النفس والجسد الإفخارستيا هي التي تحول البعد التاريخي، إلى واقع سماوي، ولذلك فإن الفارق بين الإنسان الجسداني، والإنسان الروحاني الإفخارستي، أن الجسداني محصور في الحاضر، أما الإفخارستي فيتطلع دوماً نحو حياة الدهر الآتي. هكذا يشرح القديس كيرلس الأسكندري: [بإن مائدة الإفخارستيا هي مكان لإعادة الإنسان إلى وضعه السابق، ولإحيائه ولإعطائه الراحة والغفران، ففي الإفخارستيا يدخل المسيح حياة المؤمنيين ويُشعل التقوى نحو الله ويشفي مرض الخطاه، ويعصب جراح الذي يُسحق، ويقيم الذي يسقط]. لذلك إذا تحقق الإتحاد بالمسيح في سر الإفخارستيا ، يصبح المؤمنون في حالة خلاص مستمر، لابسين عدم الفساد وعدم الموت، ومملوئين بالحياة الإلهية . وتأكيدًا على ذلك يقول القديس إيريناؤس: [كيف يقولون إن الجسد يصير إلى فساد ولا يشترك في الحياة، وهو الذي يتغذى على جسد الرب ودمه]. ولأجل هذا كان التناول من جسد الرب ودمه في العصور الأولى، هو أمر جماعي لا يستثني منه أحد مهما كانت العوائق. وقد تحدّي المؤمنون في عصر دقلديانوس المرسوم الإمبراطواري الذي كان يحذر التجمع في الكنائس، وقالوا لا يمكننا أن نعيش بدون عشاء الرب.
إذن فهذه الأسرار على وجه اليقين هي التي تُعطي الإمكانية لكل مؤمن أن ينتصر على الخطية والفساد، والموت.