الأنبا صموئيل القلموني
(٥٩٧-٦٩٦م)
وقد ولد صموئيل في أواخر القرن السادس سنة ٥٩٧م وعاش أوائل القرن السابع قبل الغزو العربي لمصر (وقيل إنه بعد توغله في حياة القداسة تنبأ عن الأحداث الأليمة التي تعرّضت لها مصر، وقرأنا في مخطوطات قديمة بالأديرة ما نُسِبَ إليه من نبوَّات ربما تمتد في مفعولها إلى عصرنا الحالي).
وكان مكان ميلاده وشبابه في مدينة تقوم على أنقاضها اليوم مدينة فوَّة في محافظة القليوبية، وقد لجأ إليها في وقتٍ ما القديس الأنبا مقار أب رهبان شيهيت هرباً من وجه لوقيوس الوالي الآريوسي. وعندما غزا العرب ،مصر ، كان سكان هذه المنطقة في طليعة المقاومين للغزاة فقد قاموا بثورات انتهى معظمها إلى مآس مروّعة.
وكان والد صموئيل كاهن المدينة، لكنه حينما أحس بأن ابنه صموئيل متعلق بدعوة الرهبنة نزل هو وزوجته على رغبته ومنحاه بركتهما. وغادر صموئيل المدينة حوالي سنة ٦١٩م وقصد إلى برية شيهيت وكانت قد انقضت ثلاثة قرون منذ أن بدأت الرهبنة في هذه البرية على يد القديس أنبا مقار الكبير. وفي هذه الفترة كان هناك شيخ في هذه البرية اسمه أغاثون، فتوجه صموئيل إليه وطلب منه أن يقبل تلمذته له فشجَّعه أغاثون ودعا له بالثبات والنمو في هذا الطريق الملائكي. وبدأ يُدربه في الطاعة وروح الوداعة والسكوت والتأمل في الإلهيات، كما علمه الكتب المقدسة والهذيذ في كلام الله ليل نهار. وكعادة سكان برية شيهيت تعلم صموئيل أن يأكل خبزه بعرق جبينه أي بعمل يديه في صُنع السلال وغير ذلك، بحسب النظام الذي وضعه القديس مقاريوس أب البرية. وقد قضى صموئيل في هذه التلمذة ثلاث سنين أُصيب بعدها الشيخ أغاثون بمرض أقعده عن العمل. فقام صموئيل نحوه بخدمة الابن الوفي لأبيه في مرضه، ثم تنيح بسلام. ولما وجد صموئيل نفسه وحيداً ضاعف صلواته وتأملاته. وقد منحه الله موهبة شفاء الأمراض، وموهبة الإفراز والحكمة الروحية، فَقَصَد إلى صومعته رهط كبير من الشباب الذين كانوا يرغبون في حياة النسك والتقوى ليتتلمذوا له، فقبلهم بفرح روحي.
وقد قضى صموئيل هو ورهبانه من رجال الله فترة من الزمن في أمن وهدوء. ولكن لما فرض الإمبراطور هرقل عميله “قيرش” أسقفاً دخيلاً على الإسكندرية وخوّله الولاية الإدارية على مصر أيضاً، بدأ بمطاردة البابا بنيامين، فلجأ أنبا صموئيل إلى دير في الصعيد الأعلى. ولما عجز قيرش عن الظفر بالبابا الإسكندري، رأى أن يصب جام غضبه وانتقامه على الشعب المصري. فبعد أن نكل بسكان المدن تحراً وتوقح على سكان البراري والصحاري وقطع على الآباء الساكنين فيها خلوتهم وسكونهم وتأملاتهم. وهكذا بلغ طغيانه إلى برية القديس مقاريوس.
وانتهت إقامة الأنبا صموئيل في برية شيهيت فجأة من غير أن يشاء هو أن يتركها. ذلك أن قائد الجيش الذي أرسله قيرش إلى برية شيهيت ومعه الرسالة التي تتضمن العقيدة الخلقيدونية، طلب من الرهبان أن يؤيّدوا هذه الرسالة، فلما رفضوا هددهم بإراقة الدماء، فتقدم إليه صموئيل الأب الروحي للجماعة وقال له: “إننا نأبى التسليم بهذه العقيدة المبتدعة ونحرم مجمع خلقيدون وقراراته ولا ندين بالولاء لغير بابانا العظيم الأنبا بنيامين، وتناول منه الرسالة ومزقها إربا إرباً، وأتبع تمزيقه الرسالة بتوكيده الحرم على مجمع خلقيدون. وحين رأى القائد ما فعله صموئيل وسمع ما قاله ثارت ثورته وهجم عليه وانهال عليه لطماً وصفعاً. ثم نادى على جنده ليُشبعوه جَلْداً، فنفّذوا في الحال ما أمرهم به. ولما سقط على الأرض مغشياً عليه رفعوه إلى جذع شجرة ليُجهزوا عليه، غير أن السهم المصوَّب نحوه طاش وأصاب العين اليمنى للقديس ففقأها. وظن الجميع أنه أسلم الروح، فانصرف الجنود وحمله الرهبان إلى مغارة قريبة ولكنهم بينما هم يصلون، أفاق وعاوده رشده. ففرحوا بذلك فرحاً عظيماً وظلوا يوالون خدمته حتى تم له الشفاء. ولما استعاد الأنبا صموئيل عافيته انتخب أربعة من بين رهبانه واصطحبهم معه تاركين شيهيت متجهين جنوباً نحو منطقة الفيوم حتى بلغوا جبل القلمون، حيث عاشوا بضع سنين في أمان وفي غبطة روحية.
وعلى الرغم من المسافة الشاسعة التي تفصل بين الدير وبين البلاد الآهلة بالسكان (كنا نقطعها في منتصف القرن الفائت في ١٤ ساعة على الجمال) فإن أهالي المنطقة حالما علموا بإقامة الأنبا صموئيل فيه هرعوا إليه. وكثر الشباب الذين انضموا إليه، وكان الأنبا صموئيل يرعاهم ويُرحب بزواره في دعة وسكون على أنه حين كان يتكاثر عددهم إلى حد تعطيل الصلوات والتأملات، كان الأنبا صموئيل يخرج من الدير من غير أن يراه أحد ويأوي إلى مغارة قريبة بضعة أيام، يعكف خلالها على الصلاة والتضرع والاستشفاع بوالدة الإله وبالقديسين، حتى إذا غمر النور الإلهي قلبه عاد إلى الدير مزوداً بالقوة الروحية التي تمكنه من رعاية رهبانه ومن خدمة قاصديه في همة ووداعة.
المطاردة لا تكفُ حتى في أبعد الأماكن:
فإن البطريرك الدخيل “قيرش“ والمزوَّد أيضاً بسلطات الولاية المدنية كان ماراً بالفيوم فبلغه صيت الأنبا صموئيل ورهبانه، فقرر أن يذهب إلى ديرهم لينغص عليهم حياتهم الساكنة الهادئة. ولما علم الأنبا صموئيل بمقدمه والنية المبيَّتة له ،ولإخوته ، قرّر أن يهرب من الشر، فخرجوا من الدير تاركين البوّاب – وكان شيخاً متقدماً في السن – ولجأوا إلى المغاور المحيطة بالدير.
ولما وصل ” قيرش” وأعوانه لم يجدوا غير هذا البوّاب الشيخ فاضطروه عنوة أن يعترف بموضع الرهبان ،المختفين فأعلمهم فانصرفوا ولم يمض يومان حتى وصل جند قيرش إلى الدير، وكان الأنبا صموئيل ورهبانه قد عادوا إلى الدير على أمانٍ بأن الحاكم قد انصرف. لكن هذه كانت حيلة. فما أن وقعت عيونهم على الأنبا صموئيل حتى كبّلوه بالحديد واقتادوه إلى الفيوم. فلما مثل بين يدي قيرش شهد الشهادة الحسنة .أمامه فلطمه الطاغية على فمه، وأمر جنده أن يجلدوه حتى يُفارق الحياة. وفي هذه الأثناء تدخل بعض الأشراف ونجحوا في أن يُخلصوا القديس من يد ذلك الغادر.
اللجوء إلى وادي الريان:
وعندئذ حمله بعض تلاميذه إلى عمق أعماق الصحراء، حيث لا قبل لأحد أن يزوره ولا أن يسمع عنه، وأتوا به إلى صحراء وادي الريان القاحلة بالقرب من عين ماء يحيط بها النخيل. وهناك سهروا على العناية به حتى استعاد قواه من جديد.
ولأن هذه المنطقة كانت تُعتبر خارج حدود سلطة الإمبراطورية الرومانية وشرطتها، فقد كانت مغبراً للبربر (يُطلق هذا الاسم على كل من هو خارج عن سلطة وحدود الإمبراطورية وكان يُسمَّى بربرياً). ففي إحدى غاراتهم على تلك المنطقة اكتشفوا وجود هذه الجماعة الصغيرة، فأعملوا فيها السلب والنهب وأخذوا الأنبا صموئيل أسيراً إلى بلادهم، ذلك لأن القبائل البربرية كانت قد أغارت على برية شيهيت أيضاً وأسرت رئيسها. وهكذا لاحقته المحن والآلام من كل شكل ومن كل نوع من البشر. ولكن كلما زادت الآلام والمحن كلما زاد الثمن الذي دفعه آباؤنا لحماية الإيمان الأرثوذكسي القويم. فما أثمنه إيماناً!
وقد اتخذ زعيم هذه القبائل واسمه “زركاندس” صموئيل عبداً، وحاول هذا الزعيم – وهو من عَبَدة الشمس – جهده أن يقنع الأسير القديس بالتحوُّل عن عبادة الله إلى عبادة الشمس، ففشل. فلجأ إلى التعذيب والتنكيل بكل الوسائل، ولكن الذي كاد يدفع حياته ثمناً للدفاع عن عقيدة الآباء لم يكن ممكناً أن يخنع للتعذيب والتنكيل.
الكرازة بالحياة وبقوة الله :
ولما كان الله قد منح القديس صموئيل موهبة الشفاء منذ أن كان أباً للرهبان، فإن هذه الموهبة كانت لمجد الله وللكرازة باسم المسيح . فأقام رجلاً من البرابرة كان كسيحاً لمدة اثنتي عشرة سنة حتى يئس من الشفاء. فتقاطرت عليه جموع البرابرة يطلبون الشفاء، فاستجاب له الله، وشفاهم جميعاً. وتأثر رؤساء القبائل بهذا العطف الذي أبداه الأنبا صموئيل في مرضاهم، فأرادوا أن يكافئوه بإعادته إلى بلاده غير أن زركاندس زعيمهم عارض في ذلك، لكن زوجة هذا الزعيم طلبت من زوجها أن يأتي هذا الأسير إلى بيته ويُصلّي لأجلها لأنها لم تكن تنجب أطفالاً. ورفض القديس بادئ الأمر، لكنه تحت إلحاح الزعيم أتى القديس وركع على ركبتيه، وأخذ يُصلّي في حرارة وجهاد روحي . فقبل الله دعاءه، وأنعم على الزوجة بالصحة وفي الوقت المناسب أنجبت ولداً.
وكان هذا سبباً، ليس فقط في موافقة الزعيم على إطلاق سراحه، بل في اعتذاره له عما فرط منه من قسوة، وطلب أن يُعلّمه المسيحية، فتعلَّم وآمن ،وتعمَّد، وأطلق الأنبا صموئيل حُرّاً إلى وادي الريان ثم إلى ديره بجبل القلمون.
نياحة القديس أنبا صموئيل:
ولم يمض وقت طويل حتى استراح الأنبا صموئيل من جميع أتعابه وانتقل في ٨ كيهك من عام ٦٩٦م ، تاركاً ديره عامراً نشطاً يحفظ الرهبنة إلى يومنا الحالي بعد عبوره على فترات خواء وضعف، لكنها تحدَّدت وانتعشت وازدهرت، وما زالت.