عقيدة الخريستولوجي 

مقدمة 

يسوع المسيح – بحسب تعليم الكنيسة – هو ابن الله الذي صار إنسانًا لأجل خلاص وتجديد العالم كله، وفي شخصه اتحدت الطبيعتان الإلهية والإنسانية اتحادًا أقنوميًا. وهكذا فإن خلاص الإنسان لا يرتبط بعلاقة غير مباشرة أو خارجية مـ مع الله، بل بشركة حقيقية واتحاد مباشر معه. إرتباط المؤمنين بالله، وببعضهم البعض من خلال شركة الأسرار، هو الذي يكوّن جسد المسيح الواحد، الذي هو الكنيسة. فالمسيح له المجد هو مركز وحدة المؤمنين. 

إذن الخلاص والتجديد في المسيح له ملمح شامل، يشمل الكون كله. فعقيدة الخريستولوجي، تُعلّم بأن يسوع المسيح ابن الله، هو في ذات الوقت الواحد وهو الكثيرون. الحياة المسيحية تتأسس على الاتحاد بالمسيح، والذي يتحقق من خلال الشركة في سر الإفخارستيا. 

ولهذا فخلاص الإنسان يقوم على إيمان الشخص بألوهية المسيح، وبشكل خاص على أساس الإيمان بأن الإبن الإقنوم الثاني في الثالوث القدوس هو واحد في الجوهر مع الآب. فتعبير لم يكن ترفاً فكريًا، بل هو تعبير كان له من الأهمية الدينية والاجتماعية للمؤمنين في ذلك العصرما يجعلهم في مأمن من السقوط في هوة الإنحرافات الهرطوقية الخطيرة التي هددت سلام الكنيسة ووحدتها. وأيضًا كان يُمثل البوصلة التي تشير إلى الإتجاه الصحيح الذي يقدم الإيمان في صورته النقية المستقيمة وله نفس الأهمية لدى أولئك الذين قبلوا وآمنوا بأن الاتحاد بالله هو هدف الوجود الإنساني. 

إن رفض وحدة الجوهر بين الآب والابن، يعنى هدم للقاعدة التي تُبنى عليها رغبة الإنسان في الكمال الروحي ورجاء الحياة الجديدة. ومن أجل هذا فإن كل التعاليم المسيحية، تؤكد على أن الكون يحقق معناه وقيمته وهدف وجوده في المسيح فقط. 

إن الرسالة الأساسية للمسيحية، رسالة القيامة، تعلن أن التجديد في المسيح لا ينحصر في الإطار الروحي فقط، ولكنه يشمل البعد المادي أيضًا، والذي هو في خدمة الروح. ولذلك فكل الهرطقات التي تنادي بربط الشر بالعنصر المادي، تعكس رأيًا فلسفيا بعيدا وغريبا عن تعليم الكنيسة. أصحاب هذا الرأي هم الغنوسيون والمانويون الذين كانوا يرون أن الشر موجود في المادة، وعليه فلا وجود للشر في الله لأن الله روح خالص، إذن فهو في ذاته الخير والصلاح. 

لقد اعتقد المانويون ، بوجود مبدأين أزليين غير مخلوقين للكون: النور والظلمة النور هو إله الخير والظلمة هي إله الشر. والمادة بحسب رؤيتهم هي ظلمة، وبناء عليه فهي شر. التعاليم الأرثوذكسية تُقدم رؤية أخرى مختلفة تماماً، فهي تُنادي بأن كل شئ يأتي من الله، فالله كصالح ومحب للبشر لم يخلق الشر ولم يكن سببا في ظهوره. هكذا يؤكد القديس باسيليوس أن الله ليس مُسببًا للشرور. ويتساءل: [ إن كان كل شئ يأتي من الله، فكيف يأتي الشر من الصالح ؟ فلا يمكن أن يأتي الإثم من الصلاح ولا الخطية من الفضيلة]. الله هو الذي خلق المادة هو الذي خلق المادة وهي ليست شر، لأن الشر بحسب التعاليم المسيحية ليس له جوهر، لكنه يوجد في حالة غياب الصلاح. 

ولذلك فإن رفض الخياليين بأن المسيح قد أخذ جسدا حقيقيًا، نابع من إيمانهم بأن المادة شر، فقد علموا بأن المسيح أخذ جسدا خياليا ولهذا كان رد القديس يوحنا الإنجيلي سريعًا في مواجهة مثل هذه الإنحرافات، إذ يقول : ” كل روح لا يعترف بيسوع المسيح إنه قد جاء في الجسد فليس من الله” ( ١ يو ٣:٤) . هذه الهرطقة أدينت بشدة من قبل الكنيسة. وقد دعاهم القديس أغناطيوس الإنطاكي ” بالملحدين ” و ” غير المؤمنين”.

الخط الفاصل – بالنسبة للكنيسة – لا يوجد بين المادة والروح، بل بين الله الخالق والكون المخلوق. والكون لا يشتمل فقط على المادة، بل على العالم الروحي، بينما غير المخلوق هو الله فقط. والشر ليس في المادة فقط، لكن في العالم الروحي أيضًا، وبشكل أكثر دقة فإن الشر نابع من العالم الروحي الساقط . هذه الرؤية القائمة على رفض العنصر المادي وتأليه العنصر الروحي، لا تُعبّر عن رأي الكنيسة. 

ثم توالت الهرطقات بعد ذلك وجاء من علّم بأن المسيح لم يأخذ طبيعة إنسانية كاملة (آريوس – أبوليناريوس) أي أنه أخذ جسدا بلا عقل، أو بنفس غير عاقلة، وهذا يعنى أن خلاص الإنسان غير تام وغير كامل. وهو أمر يتناقض مع تعليم الكنيسة وكتابات الآباء يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي أن : [ أي شئ فينا لا يمكن أن يُشفى ويخلص إلاّ باتحاده بالله][1]. وهذا هو تعليم الكنيسة، الذي يؤكد على أن التجديد الكياني الذي تحقق بتجسد المسيح قد شمل الإنسان كله جسداً ونفساً. فتجسد الكلمة، منح الإنسان بل والكون كله، الخلاص والتجديد. 

ثم أعقب ذلك ظهور الهرطقة النسطورية التي رفضت الاتحاد الحقيقي بين الطبيعتين (الإلهية والإنسانية) في المسيح. وإن كانت قد قبلت بالاتحاد الخارجي فقط.

هذه الآراء الهرطوقية يمكن أن توضع في اتجاهين أساسيين: 

1- الآراء التي تنحصر في المستوى الإنساني، وترى أن الخلاص هو إنجاز إنساني أي يحققه الإنسان بنفسه. 

2- الآراء التي تضع كل شئ في المستوى الإلهي، وترى أن الخلاص هو عمل الله فقط، ولا وجود للعنصر الإنساني في هذا العمل الخلاصي. 

التعاليم الآبائية تؤكد على أن المسيح، كإله كامل وإنسان كامل، هو الذي هدم العداوة، وأبطل قوة المعاند، وأُوجد السلام والوحدة بين المؤمنين والأناجيل تحمل لنا هذه البشارة المفرحة، وهي أن الإتحاد بين الله والإنسان قد تحقق في شخص المسيح. 

لقد تجلت الخليقة الجديدة، وأصبحت الحياة الأبدية معلنة داخل الزمن. قديما كان الإنسان هو الذي يسعى نحو الله يحاول إرضاءه ويطلب منه الغفران والمسامحة. أما في العهد الجديد، فالله هو الذي يأخذ المبادرة، فلا يُشير العهد الجديد إلى أي محاولة من قبل الإنسان للتصالح مع الله، بل ” إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه” (٢كو ه : ١٩). وهذا ما يؤكده القديس يوحنا الإنجيلي، حين يشير إلى أن محبة الله تجاه البشر هي التي دفعته لبذل ابنه الوحيد ” هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” (يو ١٦:٣). 

وهذا هو ما يُعبّر عنه العهد الجديد أيضًا بأمثلة متنوعة. فحين يذكر مثل الخروف الضال، فهو يريد أن يُشدّد على أن الله هو الراعي الأمين والصالح الذي يسعى في طلب الخروف الضال، وحين يجده يحمله على منكبيه ويعود به فرحاً إلى بيته (لو٧.٤:١٥). وقد برهن الله على هذه المحبة لأنه” ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا”(رو ه :۸). فالله الآب أظهر لنا محبة متجسدة في شخص المسيح الذي تمم مشيئته حتى المنتهى، يسوع المسيح هو صورة الآب الحقيقية، الذي أحبنا بصورة فائقة للوصف. ولذلك قال المسيح له المجد : ” من رآني فقد رأي الآب” (يو ٩:١٤) . وأيضا قال الملاك ” فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب” (لو ۲ : ۱۰-۱۱). هكذا تصلي الكنيسة بأن الله أخذ الذي لنا وأعطانا الذي ،له وهذا هو الهدف من الاتحاد بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية. لقد صار للإنسان إمكانية الوصول إلى حالة الكمال والقداسة، من خلال إتحاده بالمسيح، ودخوله إلى أعماق الحياة الجديدة. 

من أجل هذا فإن تجسد كلمة الله هو إجابة واضحة ومفرحة ضد التيار اليوناني الفلسفي الذي رفض فكرة اتحاد الإلهي بالإنساني، وأيضًا ضد الهرطقات التي اجتمعت معا في نقطة واحدة وهي رفضها لألوهية المسيح، من خلال رفضها للاتحاد الحقيقي بين الطبيعتين في 

المسيح. 

 

تجسد الكلمة وتجديد الخليقة 

لقد عاش الجنس البشري زماناً طويلاً في ظلمة الخطية الحالكة، وخضع لنير العبودية المرة، وإتسع مجال الشر، وإبتدع الإنسان شروراً جديدة، حتى وصل به الحال إلى أوضاع رديئة ومتدنية للغاية، وذلك بعدما رفض بإرادته الكاملة أن يبقي في الحضرة الإلهية، وهو المخلوق علي صورة خالقه ومثاله لأنه خُلق وله نوع من ظلال الكلمة كما يقول القديس أثناسيوس. 

وهكذا جلب علي نفسه وبإختياره حكم الموت، ولم يكن ممكناً أن يتخلص من هذا القدر الكبير من المآسي والشدائد، إلا بواسطة قوة قادرة أن تبث فيه الحياة مرة أخري، وليس من شخص قادر علي هبة الحياة هذه، سوي الله ذاته الذي قبل أن يأخذ طبيعتنا الإنسانية المائتة، وأن يُبدل مجده الذاتي بحياتنا البائسة. فكان ميلاد المسيح البداية لإستعلان النور الإلهي الذي أشرق علي الجالسين في الظلمة وظلال الموت، كما يقول إشعياء النبي “الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً”(أش ۲:۹) 

وعند هذه اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية، بدأ الظلام في التراجع وإنحصر الليل الممتد أمام النور الغامر إنحصاراً تاماً وإلي الأبد، وإخترق النقاء حياتنا الملوثة، وكل ما فسد خُلص، وإنفتحت الآذان الموصودة بالخطية. هذا ما أكد عليه القديس غريغوريوس النيسي بقوله [إن إستعلان النور الإلهي الذي لشمس البر قد بدد ظلام الشر الذي للشيطان، وأنار الكون كله بنفس الطبيعة التي لنا، وكل ما سقط في هذه الطبيعة جعله يقوم، وقاد من هم في حرب إلي السلام الحقيقي، ورد المرذول إلي الشركة ومن سقط من الحياة أعاده إليها مرة أخري ورد مَن سُبي وخضع لنير العبودية إلي مقامه الملوكي، وكل من كان مُقيداً بقيود الموت، أعادة محرراً إلي كورة الأحياء]. 

والحقيقة أن ميلاد المسيح له المجد هو الذي جعل هذا النور الإلهي العجيب يشرق في قلوبنا، كما يقول الرسول بولس “الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ” ( ٢ كو٦:٤) . فقد أعطى نور المعرفة وندي الروح المحي لكل جنس البشر، وهي عطايا لا يمكن التعبير عنها، لأنها قدمت ولأول مرة فرصة للإنسان أن يستنير ذهنه بنور الحق الإلهي، وصار بإمكان كل إنسان إستقبل إشعاعات النور الإلهي في حياته، أن يرفض الخطية لأنه نال قوة الحياة الجديدة في المسيح يسوع أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني” (في ١٣:٤) . فالمسيح هو النور الحقيقي الذي يُنير لكل إنسان آتياً إلي العالم. 

لقد حمل لنا التجسد كل تلك الخيرات والبركات السمائية الفائقة الوصف، ومن أجل هذا كانت دعوة المرنم في هذا اليوم الذي صنعه الرب، والتي سببت فرحة غامرة لكل الخليقة المرئية وغير المرئية، أن نفرح ونبتهج ” فيه (مز ٢٤:١١٨). 

نحن إذا أمام واقع جديد لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسانية، حيث يُعلن الله عن ذاته في إبنه الذي هو ” بهاء مجده ورسم جوهره” كما يقول القديس بولس. هذا البهاء الإلهي الذي إستعلن في تجسد الابن الوحيد، قد أفصح عنه القديس يوحنا الإنجيلي في عبارات عميقة ودقيقة، موضحا بأن حياة المسيح ذاتها هي النور الحقيقي “فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس” (يو ١: ١) . ثم استطرد في عرضه لهذه الحقيقة، ليوضح بأن يوحنا المعمدان، رغم شهادة يسوع عنه، بأنه أعظم مواليد النساء، إلا أنه لم يكن هو النور بل جاء ليشهد للنور” (يو ١: ٨.٧ ) . وهكذا إنبثق النور وملأ كل الخليقة، بميلاد النور الحقيقي الذي أنار المسكونة كلها بمجيئه إليها. وإعتبارًا من هذه اللحظة، الذي بشر فيها الملاك بفرح عظيم يكون لكل الشعب، أصبح جميع المؤمنين بإسمه أبناء النور. وهذا ما تصلي لأجله أن نكون هكذا على الدوام أبناء النور، كما نطلب في تحليل صلاة باكر (ليشرق لنا نور وجهك وليضيء علينا نور علمك الإلهي، وإجعلنا يا سيد أن نكون بني النور). بل إننا في بدء قانون الإيمان، نعظم العذراء بإعتبارها أم النور الحقيقي.

وهذا هو العهد الجديد الذي إستعلن بتجسد المسيح، والذي فيه تجددت الطبيعة الإنسانية وأصبحت مؤهلة لتنعم بالبر وقداسة الحق. 

تجديد الطبيعة الإنسانية 

يقول القديس يوحنا الإنجيلي: « وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا ، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقا» (يو١: ١٤).  

هكذا عبّر أبلغ تعبير عن محتوى الحياة الجديدة التي أُستعلنت لنا في شخص المسيح الذي حلّ بيننا وأعلن مجده للخليقة كلها. إذ هو الابن الوحيد الجنس الذي خبّر بطبيعة الآب، التي هي المحبة “لآن الله محبة”، كما يقول القديس يوحنا، وحيث إنه ابناً، فهو مملوء نعمة وحقاً. لقد أسس إذاً لحياة جديدة قوامها المحبة وعلى هذا الأساس فإن كل الذين قبلوه قد أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. فهؤلاء هم خاصته وبهذه الصفة صارت لديهم القدرة على التعبير عن هذه الحياة الجديدة، إذ هم أبناء النعمة والحق “لآن الناموس بموسي أعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا » (يو۱۷:۱) وقد قصد القديس يوحنا بهذه المقارنة أن يؤكد على إستعلان الحياة الجديدة بتأنس الكلمة « فإن الحياة أظهرت » (١يو ۱: ۲ ) . وهي حياة جديدة في كل مظاهرها وأبعادها وتفصيلاتها. وما قاله القديس يوحنا هنا لم يكن الهدف منه مجرد نقل للحالة التي شاهدها ورأها بقدر ما هو تجسيد لهذه الحياة الجديدة التي اختبرها وتذوقها من جهة كلمة الحياة، ولذلك فقد أخبر بها كواقع إختبره باطنياً وقد تحرّر من كل قيود الماضي وشوائب الإنسان العتيق، فإنطلق يبشر بهذه الحياة الجديدة بعدما زالت جميع الفوارق بين الزمن والأبدية وبين الحياة الحاضرة والمستقبلية بتأنس الكلمة الذي حلّ بيننا. وهذا هو الجديد، أن ملكوت الله قد أُستعلن بالفعل بمجيء المسيح، والحياة الأبدية صارت واقعاً. 

وهنا ينبغي أن نشير إلى أن فعل “التجسد” ، يشمل كل خطة التدبير الإلهي من أجل خلاص الإنسان وتجديد الخليقة، والتي بدأت بميلاد المخلّص واكتملت بالقيامة والصعود التجسد إذا هو بداية تجديد للخليقة وإعادة خلق للطبيعة الإنسانية. فالكلمة المتجسد قد حرّر الطبيعة الإنسانية التي أخذها من الموت والفساد، وبهذا تكون الشركة مع الله قد عادت إلى حالتها الأولى، وعادت الطبيعة الإنسانية إلى جمالها القديم، بل وأفضل. 

النقطة الأساسية والمركزية في هذا التجديد تتعلّق باتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة الإنسانية، نفسا وجسداً ، لأن كلاهما كان محتاجًا إلى شفاء”. لكن ما يجب التأكيد عليه هنا أن خلاص الإنسان وتجديده لم يكن من الخارج ولا عن بعد ، بل أن الكلمة قد أتى داخل الطبيعة الإنسانية (أخذ الطبيعة ذاتها، وهذا في الحقيقة يُمثل إخلاء كاملاً وتاماً بل ويكشف عن محبة الله الفائقة نحو البشر “الذي لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً له بل أخلى ذاته أخذا صورة عبد صائرًا في شبه “الناس” (في ٧:٢) لكن هذا الإتحاد بين الطبيعتين لم يُزل الفروق فيما بينهما، فخواص كل طبيعة لم تتحول إلى الأخرى. هكذا يُصلى الأب الكاهن في الاعتراف الأخير [وجعله واحدًا مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير]. 

وعندما قال المسيح له المجد لتلاميذه «وَصِيَّةٌ جَديدَةٌ أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَيْتُكُمْ» (يو ٣٤:١٣). كان يريد أن يؤكد على حقيقة المجتمع الجديد والخليقة الجديدة لأن هذه الوصية في الواقع لم تكن وصية جديدة، فقد ورد في سفر التثنية هذا المعنى ذاته إذ يقول : “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك” (تث ٦ :٥) . الجديد في وصيّة المسيح هو أن الإنسان قد صارت لدية القدرة على تنفيذ هذه الوصية بسبب إتحاده بالحياة الإلهية التي أُعطيت له في المسيح يسوع . ولذلك فإن الدخول إلى أعماق هذه الحياة الجديدة كان يتطلب فقط الثبات في المسيح كما أشار القديس بولس “إن كان أحد في المسيح يسوع فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت وهو ذا الكل قد صار جديداً” (٢كو ٥: ١٧). هذه الكلمات تشير إشارة واضحة إلى أن الحياة الجديدة قد تجسدت كواقع حيّ مُعاش بتجسد المسيح. وهذا يعنى أن التجديد قد شمل الإنسان كله نفساً جسداً ويُعلّم الآباء القديسون إيريناؤس، وباسيليوس، وغريغوريوس النيسي، وكيرلس الأسكندري، أن الرب يسوع هو – آدم الجديد – الذي يعطينا مرّة أخرى حالة التكامل والصحة وعدم الفساد التي كانت لآدم قبل سقوطه. أي أننا بالمسيح ننال تجديد خلقتنا ونشترك في عدم الفساد وعدم الموت. هكذا نصلي في بداية صلاة الصلح: {والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس هدمته بالظهور المحيي الذي لأبنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح. ما يفعله المسيح هو أن يعطي للإنسان قوّة لفصل الخطية عن أعماق قلبه وفكره وشعوره. وهذه هي قوة الحياة الجديدة وهي التي تطرد الخطية الدخيلة على الإنسان .. ولذلك فلا يستطيع أحد أن يدعي جدة الحياة وهو لا يزال متمسكاً ببقايا الإنسان العتيق، وهذا ما أوضحه المسيح له المجد حين قال لا يستطيع أحد أن يضع رقعة جديدة على ثوب عتيق أو خمر جديدة في زقاق عتيق» (مت۱٦:٩ – ۱۷) 

والحقيقة أن الجميع صاروا مسئولين عن حالة الفساد بالموت الذي ساد على كل البشر، كما أوضح القديس أثناسيوس، إذ يقول ” لقد أصبحوا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فساد بالموت” . هذه العبارة تُجسد بشكل مكثف ما تتناوله المعارف الإنسانية المعاصرة، فعلماء النفس والفلاسفة والفنانون المعاصرون يتناولوا في أعمالهم هذه الصورة عينها الخاصة بحالة الإنسان المعاصر وما آلت إليه، فوجود الإنسان، كما يرون، خاضع للإدانة، والفساد، والموت. 

فالإدانة بالنسبة للإنسان المعاصر، تعود لأسباب شخصية خاصة ،به وأسباب أخرى خارجة عنه. فهو مُدان بسبب خيانته لضميره بشكل يومي، وبسبب محاولاته الفردية للوصول إلى الحقيقة بمعزل عن الله. ومُدان بسبب الشر الذي يُصيب أخاه الإنسان دون أن يحرك له ساكنًا، وبسبب عدم تدخله لتخفيف بؤس وتعاسة الآخر، مُدان من أجل انتشار الأوبئة والمجاعات والعزلة التي فرضت على الكثيرين دون مبرر، ومن أجل الحروب المنتشرة في العالم كله. بل هو مُدان لمشاركته الفعلية وموافقته على صياغة المجتمع الذي يعيش فيه بكل ما يحمله من تناقضات ومفارقات وسلوكيات شائنة. 

وبالإضافة إلى كل هذا فهو يعاني من ثقل وراثة الفساد والموت، كما أنه يتحمل مسئولية كبيرة عن الشر الذي بداخله والذي يحيط .به هذه الإدانة ترجع إلى حالة الفساد التي تأصلت في طبيعته بعد السقوط. 

ولذلك فإن بحث الإنسان عن حياة جديدة، وعجزه في نفس الوقت عن تطبيق أبسط القوانين الأخلاقية، وعطشه لحياة مملوءة بالمعاني والقيم النبيلة، وإحساسه بغياب هذه القيم في حياته، كل هذا يُظهر مدى الضعف الداخلي الذي أصاب الإنسان بعد السقوط، وعجزه عن أن يَخلص ويحيا بمحاولاته الخاصة. وهذا في حد ذاته يشكل خبرة مؤلمة وقاسية على النفس، فهذه المحاولات حتى وإن بدت جادة، فلن يكون مصيرها إلا الفشل. لأن الإحتياج الحقيقي هو للتغيير الكياني والجذري ” إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو ۲۳:۳). هكذا كل مَنْ يُخطي هو في حاجة لهذا المجد الإلهي. ومن أجل هذا فقد صار “الكلمة” جسدا ، لكي يخلّص الإنسان من خطاياه، إذ هو بلا خطية ولم يكن ممكنا أن يخطئ، فالطبيعة الإلهية غير خاضعة للشر أو للخطية، وهذا الأمر لا ينسحب على الإنسان المخلوق من العدم، فهو بحسب طبيعته متغيّر ومتحول وفان . هكذا يقول القديس يوحنا ذهبي الله الفم [ إن الكلمة صار ابن الإنسان بينما كان ومازال هو ابن الله الحقيقي، لكي يجعل أبناء البشر أبناء الله. لأن العظيم عندما يأتي إلى الوضيع لا يفقد شيئًا من مجده، بل يرفع الوضيع ويُقيمه من وضاعته. ولذلك كان في حاجة لمن ينتشله من الموت ويقوده إلى الحياة الحقيقية، ويسمو بطبيعته المتغيّرة والفانية إلى وضع أفضل وأسمى بكثير من حالته الأولى][2]. فالخطيّة أبعدت الإنسان عن الله مصدر حياته ووجوده والعودة إلى هذا المصدر (إلى الأحضان الإلهية)، كان يقتضي تدخل الله ذاته لينقذه من هلاك محقق كان قد أوقع نفسه فيه بإرادته الحرّة المنفردة. الخطية في جوهرها إذا هي ابتعاد عن الله، وهذا يعني أن مَن يرفض حضور الله في حياته هو في الواقع يرفض نفسه المدينة بوجودها واستمرارها لله. إن الإنتصار على الموت والدخول إلى مباهج الحياة الحقيقية يعني عمليًا الاشتراك في الحياة الإلهية. وهذا بدوره له نتائج تنعكس بالضرورة على وحدة البشر. فالحياة التي تنبع من الله، تقود البشر إلى الإتحاد فيما بينهم، بينما الحياة بمعزل عن الله، ستقود حتمًا للتفكك والإنقسام. فالجحيم الذي ينتهي إليه الإنسان الرافض لحضور الله في حياته، يوصف في التعاليم الآبائية بأنه غياب للحب وسيادة لمفهوم الفردية والإنحصار في الذات. 

ولذلك فإن تأنس الكلمة، قد شكل حلاً جذريًا لفساد الإنسان بالموت هذا الحلّ قد أفصح عنه القديس أثناسيوس في شرحه لتجسد الكلمة، في عبارات تكشف بوضوح شديد، عن أهمية التجسد لخلاص الإنسان من الموت، بل وبقاءه حيًا إلى الأبد. إذ يؤكد في كتاباته على الارتباط الشديد بين تجسد الكلمة واتحاد الإنسان بالله واشتراكه في الحياة الإلهية. واعتبر أن هذا هو هدف مجيء الكلمة في الجسد، وأن تقديس الإنسان واشتراكه في الحياة الإلهية هو نتيجة طبيعية جداً لإتحاد الكلمة بالطبيعة البشرية في التجسد، لذلك يقول [ينبغي أن يُعرف هذا أيضاً أن الفساد الذي جرى لم يكن خارج الجسد ، بل كان ملتصقاً به، وكان الأمر يحتاج إلى أن تلتصق به الحياة بدلاً من الفساد، حتى كما صار الموت في الجسد تصير الحياة في داخل الجسد أيضاً. لهذا السبب كان من الصواب أن يلبس المخلّص جسداً لكي إذا اتحد الجسد “بالحياة لا يعود يبقى في الموت كمائت، بل إذ قد لبس عدم الموت فإنه يقوم ثانية ويظل غير مائت فيما بعد. ولأنه كان قد لبس الفساد، فإنه لم يكن ممكنا أن يقوم ثانية ما لم يلبس الحياة]. فالكلمة المتجسد هو بداية الإنسانية الجديدة، هو الإنسان الجديد الذي لم يخضع للناموس القديم، ولا للموت والفساد، لأنه كان متحرّرًا من الدينونة التي أثقلت كاهل الإنسان العتيق. وهو بهذه الصفة (الإنسان الجديد) الذي هو “بكر كل خليقة” (كو ١: ١٤ ) ، قد حَمَلَ الإنسانية كلها مرّة أخرى ووضعها بالقرب من الله ، وأدخلها إلى أعماق الحياة الجديدة، هذا الذي به “قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون” (روه :۲). 

لقد صارت الخليقة كلها جديدة في المسيح، وهذا يعني أن نعمة الله لم تُجدّد الإنسان فقط، بل والخليقة أيضًا، فكما أن الخطية لم تصنع تحوّلاً وتغييرًا في كيان الإنسان فقط، بل وفي كل الخليقة، هكذا فإن المسيح بمجيئه إلى العالم، لم يُجدّد الإنسان فقط بل وجدد الخليقة كافة. هذا العمل الخلاصي العجيب الذي أتمه المسيح قد أعطى إمكانية للإنسان أن يتحد بالله، وبهذا صار في وضع أفضل وأسمى مما كان قبل السقوط. وهذا كله قد حدث بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع، لا بمقتضى أعمالنا كما يقول الرسول بولس. (۲تي ۱: ۹۸). 

هكذا يتضح ويثبت يقينًا، أن المسيح وحده هو مصدر الحياة الحقيقية، وهو أساس كياننا ووجودنا، وهو الجذر الحي على الدوام الذي منه نتغذى. هذا هو المعنى الحقيقي لتأنس “الكلمة”، وقد لخصه القديس كيرلس في عبارات واضحة ودقيقة، إذ يقول ” الطبيعة التي خضعت للفساد لا يمكن أن ترتفع إلى عدم الفساد، إلا بنزول الطبيعة التي تعلو على كل أنواع الفساد والتغير، وبالإتحاد بها ترتفع تلك الساقطة إلى صلاحها الدائم، أي عدم الفساد”[3] 

إن رسالة الكنيسة عبر كل العصور هي حمل هذه البشارة المفرحة للجميع وهكذا تصير الحياة الجديدة حقيقة واقعة بواسطة كل من إختبر حضور المسيح في حياته، ذاك الذي أنار الحياة والخلود، وجدد الكون كله. ونحن إذ ” نسعى عنه كسفراء كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح إذ تصالحوا مع الله” (٢ كو ه :۲۰) نكون إبناء حقيقيين لراعي بذل نفسه من أجل خلاص العالم، ومن أجل تحقيق المصالحة مع الله.

 

  1.  G. Θeoλόγon, Eπισtoλη 101 PG37, 181C-1844  Το γαρ απρόσληπτον αθεράπευτον. Ο δε ἤνωται Θεῶ, τοῦτο και σώζεται
  2.  ” تجسد ورأينا مجده”، ترجمة د. جورج عوض، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ص۱۳. 
  3. تفسير إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الأسكندري ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، فصل ۱۲. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top