عقيدة القيامة من الأموات 

يؤكد واقع الحياة على أن تاريخ الإنسان كله من لحظة السقوط وما تبعه من نتائج، ليس سوى مسيرة مستمرة نحو الحياة الأخروية. وهذا أيضًا هو جوهر الحياة المسيحية ، فهو مُرتبط ارتباطاً وثيقاً برجاء القيامة العامة. 

وهنا نطرح أمرين أساسيين يتعلقان :

١ بما نعرفه    ٢- وما نترجاه 

ما نعرفه وتأكدنا منه بشهود كثيرين هو قيامة المسيح، وما نترجاه هو قيامتنا نحن هذا الرجاء لا يمكن أن ينفصل أبدا عن قيامة المسيح التي تمهد للقيامة العامة الحياة بعد الموت هي من الموضوعات الأساسية التي تشترك فيها جميع الديانات والآراء التي تناولت هذا الموضوع كثيرة ومتباينة، ولا يوجد إتفاق فيما بينها حول طبيعة حياة الإنسان بعد الموت. أما على المستوى المسيحي بصفة خاصة، فإن مسألة الإختبار الشخصي للقيامة، هي من المسائل المرتبطة بالإيمان الخاص بعقيدة الحياة بعد الموت، هذا هو إرثنا المسيحي، فهو مرتبط بقيامة المسيح من بين الأموات كباكورة للراقدين. إلا أن الأمر ليس كذلك في الديانات الأخرى، فبعض الديانات الشرقية تؤمن حتى اليوم بأن وجود الإنسان في هذه الحياة يُعتبر نوع من الإنحدار، نتج عن سقوط جزء من عالم النفس في الإطار الجسدي وفي سجن هذا العالم، وبناء على ذلك فإن ما ينتظره ويترجاه ويصارع من أجله، ويرغب في تحقيقه، هو فقط الصعود مرة أخرى إلى الغبطة الأولى أي إلى الحياة الأبدية. 

وليس هناك رأي واحد مشترك عند القدماء حول مصير الإنسان بعد الموت، بل هناك أراء عديدة ومتباينة. وإذا استثنينا المدرسة الأفلاطونية والتي تحمل رؤية خاصة بخلود النفس وخلاصها أو تحريرها من سجن الجسد، وإنتقالها إلى عالم الروح بعد الموت، نجد أن هناك أراء كثيرة حول هذا الموضوع ، لكن الرأي السائد بشكل عام لدى القدماء، هو أن حياة الإنسان تنتهي بموته. 

وفي العهد القديم، كان هناك من يؤمن بأن الإنسان عندما يموت ينضم إلى أبائه. وحتى ذلك الحين كان هناك البعض ممن تحدثوا عن حياة الجماعة وليس الشخص. تلك الجماعة التي تحتوي الكل والكل أيضًا مُتضامنين فيما بينهم في احتضانهم للفرد[1].

لكننا في الكنيسة نتبع مسيرة تبدأ بالإنسان يسوع المسيح الذي يحتضن الكنيسة بل والعالم كله. فحتى عصر المسيح، كان هناك رفضًا لفكرة القيامة، وخير مثال لذلك الصدوقيون الذين كانوا يمثلون كهنة ذلك العصر وحافظي ،التقليد، فهؤلاء لم يؤمنوا بالقيامة. ولذلك فالسؤال الذي طرحه بعض الصدوقيين على المسيح، والخاص بموضوع الزوجة التي كان لها سبعة أزواج وماتوا جميعًا، لمن تكون في القيامة؟ كان في حقيقة الأمر سؤالاً يحمل أهداف خبيثة، فهم لم يكونوا من المؤمنيين بالقيامة، فلماذا السؤال إذن؟ وبالرغم هذا فقد أجاب المسيح وكانت إجابته واضحة جدًا وبدليل كتابي، لأنها قيلت قبل قيامته وفي نفس الوقت كانت تعكس رؤية البعض الآخر مثل الفريسيين الذين كانوا يؤمنون بالقيامة، يقول الكتاب: “أنا هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ” لكن الله هو إله أحياء وليس أله أموات، ولأنه أله حي ، ومحيي، ولأنه هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، فتكون النتيجة أن هؤلاء أحياء. هكذا كانت إجابته على الصدوقيين وهي تتوافق مع إيمان أولئك الذين يؤمنون بالقيامة (انظر مر ۱۸:۱۲-۲۷). أيضا حين قُبض على القديس بولس وذهبوا به إلى أورشليم ليحاكم هناك، وكان المجمع الذي حوكم أمامه يقف بكامله ضده. وكما يخبرنا سفر الأعمال (۲۳ : ۱-۱۰) فإن القديس بولس قد انتهز فرصة وجود خلاف بين الصدوقيين والفريسيين فقام وقال ” أيها الرجال الأخوة أنا فريسي إبن فريسي. على رجاء قيامة الأموات أنا أحاكم ” (أع ٦:٢٣). وعندئذ حدثت منازعة فيما بينهم، ونسوا موضوع محاكمة بولس. 

إحتاج الأمر بعد ذلك زمنا طويلاً حتى يختفي أو ينتهي مجمع الكهنة (من الصدوقيين)، ويسود العلمانيون والفريسيون، لكي يُضاف إلى قانون الإيمان اليهودي، مصطلح الإيمان بقيامة الأموات “مَنْ لا يؤمن بالقيامة يكون مقطوعاً”. هكذا تطور الأمر تاريخيًا ودينيا لدى اليهود 

ولم يكن لدى الرسل حين كانوا يتكلمون عن القيامة أي تبنّي للفكر اليوناني بشأن النفس الإنسانية باعتبارها خالدة، فهم يُقرّون بأن نفس الإنسان هي الحياة والحياة تُدين بوجودها للنفس، لكن بلا إنفصال، فالإنسان وحدة واحدة لا تنقسم. لكن المسيحية ترى عكس ذلك، لقد قال المسيح له المجد ” من أراد أن يخلص نفسة يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها” (مر ٨ :٣٥) . النفس في الإنجيل، هي حياة الإنسان هي النسمة التي  أعطاها الله للإنسان، وهكذا يصير الإنسان خالدا بنعمة الله فقط. وهنا يتضح الفارق الكبير بين الرؤية المسيحية، والرؤية اليونانية، تجاه النفس. حيث يرى أفلاطون أن الخلود هو في داخلك، وأنك أنت الذي تختار الطريق الذي تسير فيه بإرادتك وحدك. وهذا يختلف تماماً عن الإيمان بأن النسمة التي فيك، وإمكانية الحياة إلى الأبد، هي من الله لأن المنطق الذي يتبناه الفكر اليوناني بشأن النفس، يعني أن لك نفس جوهر الله، بينما الفكر المسيحي يؤمن بأن وجودك يعتمد أولا وأخيرًا على محبة الله المعطي حياة. إذن حين يحيا الإنسان بعيدا عن الله، فمن الطبيعي أن ينتهي أو يتلاشى ، ولكنه لن ينتهي لأن الله وضع الموت في الطريق، وهو ما يتمثل في إنفصال النفس عن الجسد بشكل مؤقت. فإن لم يحدث هذا الإنفصال، لبقى الإنسان خالدا في الخطية، وفي البغضة، والحسد ، وفي كل الشرور الأخرى. 

ويشرح سفر التكوين موقف الإنسان بعد السقوط، من حيث أنه لم يبتعد فقط الله، عن بل أيضًا إختلت علاقته الشخصية مع الآخر الذي هو شريكه في الإنسانية. تجدر الإشارة هنا إلى أن آدم قبل السقوط قال عن حواء هذه الآن عظم من عظامي”، أما بعد السقوط فقد تحدث عنها باعتبارها كيان منفصل وقال “المرأة التي أعطيتني إياها”، هذا يعني أن العلاقة الصحيحة كانت قد انقضت، وتغيرت تمامًا. إلاّ أن الله لم يُرد لهذه الحالة أن تدوم، فوضع حلا مؤقتًا تمثل في الموت. وترك الإمكانية للإنسان أن يدخل الحياة الحقيقية، يدخل في علاقة شركة مع الله مرة أخرى. فالمسيح اتخذ جسدًا لكي يعلن محبة الله الفائقة نحو الإنسان، ولكي يهزم الموت ويبطل سلطانه، ويزيل العائق الذي دخل لكي يحرم الإنسان من الشركة مع الله  ولا يُمكنه من التواصل مع شريكه في الإنسانية. تجسد لكي يدوس الموت ويقوم حيًا ، هذا هو هدف التجسد، تجديد الطبيعة الإنسانية وعودة الإنسان إلى مكانته الحقيقية، والتأكيد على إمكانية أن يحيا حياة أبدية. فحتى مجئ المسيح، لم يكن ممكنا له، حتى وإن أراد أن يقترب من الله، إذ أن الموت كان قد فصله عن الحياة، فصار عبدا للموت، وللخطية، وللشيطان، لكنه في المسيح قد صارت له الإمكانية أن يحيا الحياة الحقيقة، لأن الطبيعة الإنسانية قد تغيرت وتجددت في المسيح، الذي قام من بين الأموات، وغلب الموت إلى الأبد.

الإيمان بالقيامة 

إن كيفية حدوث قيامة المسيح لم توصف في أي من الأناجيل، ولا في أي موضع من العهد الجديد الذي نعرفه فقط هو أمرين: 

۱- أن القبر وُجد فارغاً، هذا ما تقوله لنا الأناجيل الأربعة. هكذا وجدته حاملات الطيب ثم بعد ذلك تأكد بطرس ويوحنا وبعض التلاميذ الآخرين من هذه الحقيقة. 

۲ ظهورات المسيح بعد القيامة. 

فبالنسبة للقبر الفارغ كان هناك بعض الإدعاءات التي روجها اليهود ليشككوا في القيامة، منها ما ورد بإنجيل القديس متى، حيث بدأ اليهود يقولون ” إن تلاميذه أتوا ونحن نيام وسرقوا الجسد”. أما الحدث الذي لا يقبل أي شك هو ظهورات المسيح القائم من بين الأموات. هذا هو إيماننا، إيمان الرسل، وإيمان الآباء، الذي يؤكد على حقيقة القيامة وماذا تعني القيامة؟ القيامة لا تعني فقط أن القبر وُجد فارغا، هذه كانت علامة أو إشارة، أما الدليل على القيامة ومحتوى القيامة فهو أن المسيح قام حيًا بعد موته وقد رآه كثيرون بأعينهم، ولدينا سجل بظهورات المسيح بعد القيامة، بحسب ما ورد في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح الخامس عشر وهو عبارة عن نص قد وجده الرسول بولس في الكنيسة، ولم يُعده بنفسه، ويحتوي على الشهادات القديمة عن القيامة[2]. يقول ” فإنني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضًا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب وأنه ظهر لصفا ثم للأثني عشر ثم بعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة شخص أكثرهم باق إلى الآن .. ” ( اكوا :٣-٦). 

الأمر هنا مُتعلق بحدث حقيقي وليس مصادفة، بل سبقته وعود، ونبؤات كثيرة في الكتاب المقدس وبصفة خاصة في العهد القديم. وصاحبه دليل منظور أن المسيح مات ودفن فلكي يقوم كان ينبغي أولاً أن يُدفن، وهذا ما قد حدث، ولكي يؤكد على قيامته يذكر الرسول بولس الدليل بأنه ظهر لصفا، ثم للأثني عشر تلميذ ثم لأكثر من خمسمائة شخص أكثرهم باق وهؤلاء يستطيعوا أن يؤكدوا على رؤيتهم له حيًا بعد قيامته وكأنه يقول إن من يتشكك عليه أن يتوجه لهؤلاء بالسؤال ليتأكد من حقيقة القيامة. ومن المعروف أن اليهود كانوا يتمسكون بتطبيق القانون، حيث إنهم لم يؤمنوا بشئ إلا إذا كان هناك على الأقل شاهدين، وهكذا كانت إشارة الرسول بولس إلى أكثر من خمسمائة شاهد تأكيدا على حقيقة القيامة. ولأنهم لم تكن شهادة النساء لها مصداقية بالنسبة لهم، لذلك لم يحمل هذا السجل أسماء أي من النساء، فلم يقل أنه ظهر لمريم المجدلية ولا لسالومي[3].

أيضًا عندما يتحدث العهد الجديد عن القيامة فهو لا يتحدث عن قيامة البشر جميعًا ، بل عن قيامة المسيحيين وبصفة خاصة يتحدث عن أن المسيحيين سيكونون بالقرب من الله بواسطة القيامة، كما يتحدث عما ينبغي عليهم أن يفعلوه من الآن ما كتبه الرسول بولس كتبه لمجموعة من المسيحيين من أهل كورنثوس لا يؤمنون بالقيامة، ولم يكن واضحا أنهم يؤمنون بخلود النفس، بل أن البعض منهم قد أعطى معنى مختلف للقيامة، وهو أن القيامة هى أن يقوم الشخص من خطيئته ويتحرر من أسر الخطيئة، ويكتسب حياة أخلاقية جديدة، وسلوكا جديدا. بمعنى أن الموت ليس سوى سقوط الإنسان في الخطيئة، وما القيامة إلاّ التحرر منها وهذا يُناقض الحقيقة، إذ أن المسيح قام حقًا وقهر الموت وأبطل سلطانه. 

وفي هذا السياق يقول القديس يوحنا ذهبي الفم [ إن هذا الكلام – أى ما كان يؤمن به البعض من أهل كورنثوس – معناه أن المسيح قد أخطأ ، وإن كان قد أخطأ ، فكيف يقول ” من منكم يُبكتني على خطية ” (يو ٨: ٤٦) ، وكيف يموت من أجل الخطاة إن كان هو في الخطية ؟ لأن الذي يموت من أجل الخطاة ينبغي أن يكون هو نفسه بلا خطية، كذلك إن كان قد أخطأ، فكيف يموت من أجل خطاه آخرين. فإن كان قد مات من أجل خطايا الآخرين، فإنه يكون قد مات وهو بلا خطية. وإن كان قد مات وهو بلا خطية، فإنه لا يكون قد مات موت الخطية ، لأنه كيف يكون قد مات موت الخطية، وهو بلا خطية ؟ لكنه مات بالجسد ، وإن كان قد مات بالجسد ، حينئذ تكون القيامة بالجسد]. وهذا ما أوضحه الرسول بولس بقوله إنه مات من أجل خطايانا حسب الكتب ” ( ١ كو١:١٥). وقد أضاف ” حسب الكتب” لكي يضفي مصداقية على كلامه، لأن الكتب تكرز بموت الجسد في كل موضع مثل ” ثقبوا يدي ورجلي (مز ١٦:٢٢) ، وأيضًا ” فينظروا إلى الذي طعنوه وينوحون ” (زك ١٠:١٢). ولذلك يقول القديس بولس ” ولكن إن كان المسيح يكرز به أنه قام من الأموات فكيف يقول قوم بينكم إنه ليس قيامة أموات؟ ” ( ١ كو ۱۲:١٥) هنا الرسول بولس يُبرهن على حقيقة القيامة من الأموات من خلال قيامة المسيح، وذلك بعدما برهن على قيامة المسيح بطرق كثيرة؛ إذ يوضح أن الأنبياء أيضًا تنبأوا عن هذه القيامة والتي أثبتها المسيح نفسه بظهوراته بعد قيامته من الموت. 

وحتى لا يقولوا إن الأمر لا يتعلق بقيامة المسيح، فهي حقيقة لا شك فيها وهي واضحة للجميع، وقد سبق التنبؤ عنها، وشهد بها الكثيرون من خلال ظهورات المسيح بعد القيامة. إذ أن هؤلاء يرون أن قيامة المسيح لا تؤكد حقيقة قيامة البشر. 

لذلك فقد أوضح الرسول بولس أنه إن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام ( ١ كو١٣:١٥). لأنه لمن كانت الباكورة الأولى، إن لم تكن لأولئك الذين قاموا ؟ إن قيامتنا مرتبطة بقيامة المسيح والدليل على ذلك أنه إذا لم يكن في تدبيره أن يقيم الجسد، فلماذا أخذ جسدا ؟ المسيح لم يكن محتاجًا لذلك لكنه تأنس من أجلنا وقام من أجلنا. ولذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم [إن عدم الإيمان بالقيامة يؤدي إلى رفض خطة الله من أجل خلاص البشر]. 

كيف يقوم الأموات 

والواقع أن هذا النص المشار إليه ( ١ كو١٣:١٥) يطرح موضوعين هامين وهما : 

١- حقيقة القيامة   ٢- كيف تكون القيامة؟ 

فيما يتعلق بالقيامة فقد أراد أن يؤكد أن قيامة البشر هي حقيقة. لكي يؤكد عليها انطلق من حدث تاريخي حقيقي، أي من قيامة المسيح من الموت. ولذلك فقد أورد القديس بولس شهادات كثيرة على قيامة المسيح، لكي يخبرنا أنه كما قام المسيح، سنقوم نحن أيضا فالقيامة كما يقول الآباء هي “خلق” جديد ، وليس مجرد تجديد. 

وبقيامة المسيح ودخوله إلى الحياة الأبدية الجديدة، لم يُعد الإنسان هو ما كان عليه أدم الأول، بل صار ما هو عليه أدم الجديد (المسيح) بعد القيامة. هذا هو البرهان اللاهوتي الذي أورده القديس بولس، والذي لخصه في عبارة “كما في أدم يموت الجميع هكذا في المسيح يحيا الجميع” ( ١ كو٢٢:١٥). فالطريق الذي تبعه آدم قاد البشر إلى الموت، بينما المسيح فتح الطريق إلى الحياة الأبدية. 

الأمر الثاني هو كيف تكون القيامة؟ وهذه النقطة في الحقيقة تُعد الأكثر صعوبة ، فالرسول بولس يقول : ” لكن يقول قائل كيف يُقام الأموات وبأي جسم يأتون ” ( اكو ٣٥:١٥). وقد أفرد نصف الإصحاح تقريباً لمناقشة هذا الأمر بطرح سؤالين كانا موضع إستفسار في ذلك الوقت. وقد واجه الرسول بولس هذه الإستفسارات كتساؤلات متوقعة، وربما كانت لديه الخبرة للرد على التساؤلات الشفاهية وبصفة خاصة التي كان يطرحها اليونانيون الذين كان لهم موقفا سلبيًا من الجسد ، باعتباره سجن للنفس. وقد كان من الممكن أن يقبلوا فكرة الخلود ، ولكن ليس للجسد فمن وجهة نظرهم كيف يقوم المرء ومعه سجنه؟ لذلك بدأ القديس بولس يتحدث بوضوح من خلال أمثلة من حياتنا الإنسانية، ولم يكن أمامه طريقة أخرى لشرح كيفية قيامة الأموات إلا هذه الطريقة. والمثل الأول الذي ذكره كان قد أستخدمه المسيح نفسه بحسب ما ورد بإنجيل يوحنا، وهو مثل الحبة التي إن لم تمت لن تأتي بثمر. وبحسب فكر ذلك العصر، فإن ما يبذره المرء، هو حبة مجردة، ومع هذا تُخرج نباتًا سواء كان قمحاً، أو ذرة، أو شجرة كاملة. الله هو الذي يضع في هذه الحبة المجردة القوة لكي تخرج نباتًا مكتملاً ما يريد أن يقوله القديس بولس، أن هناك قوانين إلهية في حقل الزراعة، بمعنى أن في داخل الحبة المجردة توجد قوة معطاة من الله وشيء مثل هذا يحدث في الكون كله، في النجوم، والشمس والقمر، فكل منها له إشراقة مختلفة. وهذا يعني أن كل ما في الخليقة مرتبط بأمرين: 

  1.  قوة الله التي تُعطى حياة للأشياء 
  2. إرادة الله التي تجعل الأشياء متباينة. 

فليس هناك شكلاً متماثلاً للأشياء، إذن فالإجابة على كيفية قيامة الأموات، تتلخص في أنهم يقومون بالقوة الإلهية. وليس في هذا شيئًا غريبًا، فالذي خلقه منذ البدء، يسهل عليه تجديده مرة أخرى. إن ما يبدو غريبًا وغير مفهوم هو أن الجسد الذي يموت ويتحلل، يقوم ثانية. غير أن هذه الغرابة تزول إذا ما فكر الإنسان في قوة الله التي خلقت هذا الجسد. فكما خلقه الله من العدم، يمكنه أن يعيد خلقه مرة أخرى. هكذا يقول القديس غريغوريوس النيسي: [بما أن الكائنات لم تُخلق من مادة كانت موجودة سابقا ، بل أتت إلى الوجود بواسطة الإرادة الإلهية فهذا يعني إن إمكانية إعادة الإنسان للحياة مرة أخرى، بالشكل الذي كان عليه هي أيسر بكثير من إعطاء كيان وجوهر لشئ لم يكن موجوداً من البداية]. 

نأتي للأمر الثاني وهو بأي جسم يأتون. يتحدث الرسول بولس في هذه النقطة عن الجسم الروحاني ، وهذا يُعد تعبير لا معنى له بالنسبة لليونانيين. لأن الجسد لا يمكن أن يكون روحًا، والروح لا يمكن أن يكون جسداً. ولكن هذا التعبير له معنى في الإطار الكتابي، لأن الكتاب يستخدم لكلمة لفظة ساركس، وليس لفظة سوما. فالجسد هو كل الإنسان، هو كل الكينونه الإنسانية في تواصلها مع كل العالم أي كياننا في علاقته مع الآخرين، ومع أي شئ آخر. وبهذا المعنى يتضح ماذا يريد أن يقول القديس بولس بتعبير “جسد روحاني”. هذا هو جسد القيامة الجسد الروحاني. وتعبير الروح هنا ليس هو الهواء أو الريح، بل هو الحقيقة الجديدة وهذه الحقيقة هي التي تُقرّب الإنسان من الله، هي التي تجعله يشبه الله ( في قداسته وكماله)، هذا الروح هو الذي ينشئ الإنسان الجديد، فنصير لحما من لحمه وعظما من عظامه. وهكذا يقوم الإنسان متحررًا من الفساد والموت. إذن فنحن متأكدون من أمرين: 

١- أننا سنقوم حتمًا. 

٢- أننا سنتغير إلى عدم الفساد، وعدم الموت إلى الحياة الحقيقة، وسنكون مثل المسيح. 

ما نود التأكيد عليه هنا أن رجاءنا في القيامة، يستند إلى شهادة حية لأناس قد رأوا المسيح القائم من الأموات. وهذا الإيمان قد انتقل من جيل إلى جيل وقد صار إختبارًا شخصيًا يجتازه المؤمنون في حياتهم اليومية، مُقرين بأنهم غرباء على الأرض، ومنتظرين المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها هو الله. 

هذه هي مفاعيل القيامة التي تحققت في حياة الكثيرين، بعد أن تأكدت بشهود كثيرين أيضًا. هكذا سُلّم الإيمان بالقيامة، كما تسلمه الرسل، وهذا ما سبق وأشار إليه الرسول بولس في بداية حديثه، إذ يقول ” فإنني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث” ( ١كو١:١٥). 

هذا الرجاء يتجسد في الحضور الحي للمسيح داخل الكنيسة، والذي يُمثل تعبيراً آخر عن قيامته . وكل الأمور الأخرى مثل المحبة كقانون عملي للحياة، أو الإيمان، أو أي حقيقة مسيحية أخرى، تستند على الإيمان بالقيامة. وبالطبع الحديث عن قيامة الأموات هنا ، ليس له أي علاقة بإحساس العبد الذي يلتزم بطريقة عيش الحياة المسيحية خوفا من الجحيم، بل له علاقة بإحساس الابن الذي لا يسعى نحو المكافأة ولا يخاف العقاب، بل يستند على الرجاء رجاء الحياة مع المسيح. وهو رجاء يمكن تحقيقه في هذا العالم، لكنه سيكتمل في الدهر الآتي. 

ولذلك فإن المجيء الثاني للمسيح هو تلك اللحظة التي فيها ينتظر الإنسان رؤية المسيح القائم من الأموات. 

صعود المسيح 
(Η Ανάληψη του Χριστού) 

إن صعود المسيح وجلوسه عن يمين الآب، يكشف لنا عن عمق محبة الله للبشر، لأنه بصعوده تم لنا الخلاص بحياة الرب بعد موته كما يقول الرسول بولس ” ونحن مصالحون الآن نخلص بحياته وأيضًا كرّمنا ونحن أعداء، إذ يقول : ” ونحن أعداء صولحنا مع الله” (رو ٥ :۱۰). 

لقد أغضب الإنسان الله وصنع عداوته بنفسه حتى أن الله فكر أن ينهى كل الجنس الإنساني ” أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء ” (تك ٦: ٧) . أيضا إنزلق إلى مستوى أقل من مستوى الحيوانات، هذا ما أعلنه إشعياء قائلاً: “الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف شعبى لا يفهم ” (إش (۳:۱) ، ويقول إرميا النبى : ” .. بل اللقلق في السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئهما. أما شعبى فلا يعرف قضاء الرب ” (إر ٧: ۸). هذا الإنسان الذي هو بلا وعي وبلا فهم الجاحد والبائس قد صار بصعود المسيح أعلى من الجميع. هذا الذي لم يكن مستحقا للأرض صعد إلى السماء، اجتاز السموات وتلامس مع عرش الله . لقد أصعد المسيح باكورتنا بعدما قبل العقوبة التي كان يجب أن توضع علينا واحتمل هذه العقوبة بل واحتمل إهانات البشر ” إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة ” (غلا۱۳:۳) ويقول المرنم ” تعييرات معييرك وقعت على “. 

أما الآن فقد نلنا كرامة فائقة بعد أن صعد المسيح إلى السماء حيًا بعد قيامته ورفع طبيعتنا البشرية وأدخلها إلى المجد، وأكمل الفداء الذي تم بالصليب وبالقيامة. فبدون الجلوس عن يمين الله لا يكون الفداء قد إكتمل ولا نلنا غفران الخطايا ولا تمتعنا بانسكاب الروح القدس . لقد تمجد الجسد بمجد إلهى فائق إذ جلس عن يمين الله (أع ٧: ٥٥). 

لقد ابتهجت الملائكة بهذا الحدث، لأنهم كانوا قد تألموا لسقوط الإنسان. فمن جهة أنهم ابتهجوا فهذا واضح مما قاله المسيح إن ” السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلى التوبة ” (لو ٧:١٥) . فإذا كانوا يفرحون لتوبة خاطئ واحد فكيف لا يشعرون بفرح أعظم وهم يرون الجنس الإنساني يصعد إلى السماء في شخص يسوع المسيح . ولذلك كانوا ينزلون ويصعدون وهذا ما أعلنه المسيح قائلاً : ” من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان” (يو١ : ٥١). وهنا يعلق القديس يوحنا ذهبي الفم ويقول : [هذه هي عادة الذين يحبون – لا يحتملون انتظار هذه اللحظة ، لكنهم من فرط سعادتهم يتجاوزون الزمن ولهذا نزلوا لأنهم استعجلوا أن يروا هذا المنظر الجديد والعجيب. أي الإنسان الذي ظهر فى السماء].

إذن بالصعود ثم الجلوس عن يمين الله، وتمجدت البشرية كلها بمجد اللاهوت غير المخلوق وهذا معنى الصعود . فهو ليس ارتفاع مكاني إلى موضع آخر لكنه ارتفاع مجد وهذا هو ما يعبر عنه الإنجيل بكلمة مجد ” الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد” (يو ٧: ۳۹ ) . هكذا يقول القديس غريغوريوس النيسي [لاحظ أين كنت موجودًا وإلى أي مكان صعدت. لا يوجد مكان اسفل من المكان الذي نزل إليه الإنسان، ولا يوجد مكان أعلي وأسمى من المكان الذي أصعده إلية المسيح مرة أخرى]. ولذلك فقد خاطب الملائكة التلاميذ قائلين: ” أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي كما رأيتموه منطلقا إلى السماء ” (أع١١:١). لأن حادثة الصعود لا تعنى ترك مكانى ولكن الدخول في مجد. وهنا يتساءل القديس يوحنا ذهبي الفم: لماذا قال الملاكان هذا الكلام؟ هل التلاميذ ليس لديهم أعين؟ هل لم يروا هذا الذي حدث؟ ألم يقل الإنجيلي: ارتفع وهم ينظرون إليه؟ إذن فلأى سبب قالا الذي ارتفع إلى السماء؟ لسببين : 

(۱) لأن التلاميذ كانوا على الدوام يتضايقون لفراق المسيح .. فقد قال لهم “وأما الآن فأنا ماض إلى الذى أرسلنى وليس أحد منكم يسألني  أين تمضى. لكن لأني قلت لكم هذا ملء الحزن قلوبكم (يو ٦: ٥، ٦) . ولهذا وقف الملاكان هناك لكى يُخفّفا من الحزن الذي ملأ التلاميذ لفراق الرب، وأكدا على أن يسوع هذا الذي ارتفع عنهم إلى السماء سيأتى كما رأوه منطلقا إلى السماء. 

(۲) السبب الثانى متعلق بعبارة – الذي صعد – لأن المسافة كانت بعيدة جدا والأعين الجسدية ليس لديها القوة أن تتابع الجسد الذي صعد حتى أعلى السموات مثل الطائر الذى يطير مرتفعًا، فعلى قدر ما يرتفع إلى أعلى على قدر ما يختفى من أمام أعيننا وهكذا حدث مع المسيح فى صعوده بالجسد على قدر ارتفاعه إلى أعلى على قدر ما كان يختفى لأن ضعف أعينهم لم يمكنهم من متابعته في كل هذا الارتفاع. ولهذا وقف الملاكان بجوارهم قائلين إنه صعد إلى السماء لكى لا يعتقدوا أن صعوده مثل ارتفاع إيليا إلى السماء. 

إيليا ارتفع إلى السماء وهو إنسان، أما يسوع فقد صعد للسماء لأنه إله، أيضًا إيليا صعد بمركبة نارية ، يسوع صعد في السحاب، لأن الله عندما أراد أن يدعو إيليا أرسل مركبة نارية، وعندما دعى ابنه أرسل السحابة التي تمثل العرش الملوكى، وليس فقط العرش الملوكى ولكنه عرش الآب نفسه لأن إشعياء يقول: “هوذا الرب راكب على سحابة سريعة ” (إش ١:١٩). وعندما صعد إيليا للسماء ترك لأليشع ردائه الجلد، وعندما صعد المسيح للسماء ترك لتلاميذه المواهب  المتنوعة.

هكذا دخل المسيح ” إلى أقداس غير مصنوعة بيد أشباه الحقيقية بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام الله لأجلنا ” (عب٩ : ٢٤). وهو لم يدخل إلى السماء فقط لكنه اجتاز فوق السموات، لأن القديس بولس يقول ” فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات يسوع ابن الله ..” (عب ١٤:٤ ) . لنثق إذن أن عربون حياتنا الآن هو فى السماء مادمنا قد صعدنا مع المسيح، الذى سيخطفنا فى مجيئه الثاني على السحاب طالما كنا مستحقين لملاقاته على السحاب. والحقيقة أن صعود المسيح هو العلامة التي تفتح السماء أمام البشرية، وهو قد وعد تلاميذه بأنه سيكون لهم مكان في ملكوت الله، إذ قال ” إني ذاهب لأعد لكم مكان “، وأيضًا ” لتكونوا أنتم أيضا حيث أكون أنا ” (يو ٢:١٤-٣). لقد صارت السماء بصعود المسيح هي مستقبل البشرية، فقد تمجدت البشرية وإلى الأبد في شخص المسيح الذي أجلسها عن يمين الآب. 

 

  1. Δ. Καϊμάκη ” Η. Ανάσταση των Νεκρών στην παλαιά Διαθήκη θεσσαλoνiκη 1994, σeλ. 203-230. 
  2. Βασ. Π.Στογιάννος Η ανάσταση των Νακρών  θɛσσaλoνiκη 1979, σɛλ,67-70. 

  3.  Βασ. Π.Στογιάννος Η ανάσταση των Νακρών θedoaloνiκη 1979, 90-96  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top