1. نشأته وحياته
تزداد معرفتنا بكنيسة الإسكندرية ابتداء من القرن الثالث حيث يستفيض المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري في الحديث عن مدرسة الإسكندرية وأساقفتها في هذا القرن كانت الحركة الفكرية التي بدأها بنتينوس في منتصف القرن الثاني، وامتد بها كليمندس وتوسع فيها حتى نهاية هذا القرن الثالث، قد أثمرت، وبدأنا نرى ثمارها في رؤساء مدرسة الإسكندرية، مدرسة التعليم الوعظي التابعة للكنيسة.
وأوريجانوس يُعتبر الشخصية الفذة كمعلم وكعالم في الكنيسة الأولى، شرقاً وغرباً، شخصية لا غبار عليها سلوكياً وأخلاقياً، ومن جهة التحصيل يُعتبر بمثابة دائرة معارف Encyclopedia. وبتقرير العالم Quasten فإن أوريجانوس هو من بين أكبر المفكرين المسيحيين أصالة في العالم منذ نشأة الكنيسة وحتى الآن.
النشأة:
من جهة اسمه “أوريجانوس” فهو منسوب إلى إله المصريين الفراعنة “حورس”. لذلك حاول بعض النقاد المحدثين أن ينسبوا تسميته هذه إلى أن ميلاده كان موافقاً لأحد أعياد هذا الإله في مصر، أي أنه مولود من عائلة وثنية :
[يرى البعض أن مرسوم سبتميوس ساويرس الصادر سنة ۲۰۲م بمنع التحول للديانتين اليهودية والمسيحية والمحاكمة والموت للمخالف واستشهاد ليونيدس أبي أوريجانوس؛ هي قرائن على أنه ربما يكون قد دخل للمسيحية حديثاً ] [1].
ولكن الفحص المتأني لكل كتاباته ولكل ما حفظه لنا التاريخ من الذين كتبوا عنه في القرون الأولى، يبين لنا أنه ولد في أسرة مسيحية تقية سنة ١٨٥م في الإسكندرية.
وبذلك يعتبر أوريجانوس من أوائل آباء كنيسة الإسكندرية المصريين فأوريجانوس مصري اسماً وجنساً وتربى في المسيحية منذ أقماط طفوليته واهتم أبوه ليونيدس بأن يعلمه الكتب المقدسة منذ طفوليته (11-12:9 HE VI). فلما صدر مرسوم سبتميوس ساويرس كان ليونيدس أحد ضحاياه، فاعتقل واقتيد للاستشهاد. وكان أوريجانوس ما يزال ابن ۱۷ سنة، وكان اشتياق الغلام للاستشهاد لا يقل عن اشتياق أبيه. فقد كتب لأبيه قائلاً: “لا تتراجع خوفاً علينا (2:5,6 HE VI). هذا الحماس الذي كان لدى الأب والابن هو إحدى سمات ذلك العصر الذي شهد سرعة ترقب المجيء الثاني للمسيح، والزهد في العالميات، وحب العفة. وسنرى تباعاً في حياة أوريجانوس سيطرة هذه المبادئ حب الاستشهاد، والمخاطرة بالحياة !!
وباستشهاد ليونيدس ومصادرة أموال الأسرة آلت الأسرة إلى فقر شديد، ووجد أوريجانوس نفسه مسئولاً عن أمه وإخوته الستة الصغار. لذلك فقد احترف، وهو ما يزال في سن السابعة عشرة، مهنة التدريس تدريس الآداب اليونانية القديمة بعد أن تكفلت به سيدة محسنة لتكميل دراسته ليتمكن هو من التدريس.
لقد اضطر العلامة كليمندس للهرب إلى فلسطين من جراء اضطهاد سبتميوس ساويرس فتوقفت مدرسة الموعوظين. لذلك طلب أنبا ديمتريوس أسقف الإسكندرية من أوريجانوس أن يتفرغ لإحياء هذه المدرسة وموالاة التعليم فيها. وقد باع أوريجانوس، وهو ابن ثماني عشرة سنة، مكتبته وتفرغ لتنشيط مدرسة التعليم الوعظي. وكانت هناك خطورة شديدة على فتي ابن ثمانية عشر عاماً، لأن مرسوم سبتميوس ساويرس كان ما يزال ساري المفعول كسيف مسلط على كل مَنْ يتقدم لتغيير ديانته إلى المسيحية. لذلك كان كثير من الموعوظين المنتظمين في التلمذة لأوريجانوس من الشهداء الذين أحصاهم يوسابيوس: بلوتارك، وهو وثني متحوّل إلى المسيحية؛ كيرينوس؛ هيراكليدس؛ هيرو بوطامينا وإيرائيس (6:45 HEVI). وكان أوريجانوس يسعى لمعونة هؤلاء المعتقلين ليس فقط أثناء السجن، بل حتى وهم يُساقون للتحقيق وللمحاكمة وسماع الحكم بالموت. فكان ينتظرهم في الطرق أو الميادين ويخرج من صفوف المتفرجين لتقبيلهم القبلة الرسولية مما كان يثير ضده غضب المتفرجين والعامة (3:4) HE VI) .
[ويُعطينا يوسابيوس صورة عن الحياة اليومية لأوريجانوس : [لقد حفظ على قدر طاقته أسلوب المعيشة الفلسفي مرَّةً يدرب نفسه بالصوم، وأخرى يلزم نفسه بالنوم على الأرض الجرداء بدلاً من النوم على فراش. وفوق كل شيء كان يعتبر أقوال المخلص في الإنجيل قابلة للتنفيذ، وهي التي تحثنا على ألا يكون لنا ثوبان ولا نرتدي الأحذية ولا نقلق لأمور الغد].
وهذا ما جعله في هذا الوقت يُطبّق حرفياً قول المسيح: “يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات” (مت ۱۲:۱۹) [2]. وهذا نتيجة الإفراط في الحماس. فالبعض يعلل هذا التصرف بأن أوريجانوس خشي على نفسه من العثرات وخاصة أنه كان في خدمته لأغراض النساخة والنشر فتيات وشابات حدثات، ومن المستمعين إليه في محاضراته في مدرسة الوعظ سيدات وفتيات. ولكن الدراسة النقدية الفاحصة لكل كتاباته لم تكشف عن أي ميول نفسية أو تحركات عاطفية خاطئة داخله. وليس من تعليل لهذا سوى الإفراط الحماسي المتطرف الذي كان سمة هذا العصر وكان له صدى عميق لدى أوريجانوس، كما ظهر في اندفاعه المحاولة الاستشهاد مع أبيه ليونيدس لولا أن أمه خبأت عنه ملابسه. وقد أعطى علماً بذلك لأسقفه أنبا ديمتريوس فأعجب بشجاعته حسب تقرير يوسابيوس في وقتها، ولكن فيما بعد جعلها قضية ضده.
رحلته إلى روما:
بعد عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة من التدريس مضى في زيارة إلى روما خلال حبرية زفيرينوس واستمع إلى عظة عن المخلص لهيبوليتس الذي كان وقتها كاهناً في روما، وقامت بينهما صداقة (ربما كانت هذه الصداقة سبباً بعد ذلك لعدم رضاء أساقفة روما عن أوريجانوس بسبب أحداث خلافية بين هيبوليتس وأساقفة روما).
نمو مدرسة الإسكندرية:
لم يستطع أوريجانوس أن يبقى هكذا بدون مساعد وقد نمت المدرسة وصارت بحاجة إلى مَنْ يعاونه. فقد كان يُدرّس في هذه المدرسة : الفصاحة (الخطابة)، الطبيعة الرياضة الهندسة، والفلك (Quasten, Patrology, Vol. II, p.38) لذلك طلب أوريجانوس معاونة من هيراكلاس الذي أوكله على تعليم المبتدئين سنة ٢١٥م. وكان هيراكلاس هذا قد انتظم في تعلم الفلسفة لمدة خمس سنوات.
رحلاته لبلاد العرب وفلسطين :
حوالي سنة ٢١٥م، وصلت رسالة إلى أنبا ديمتريوس وأخرى إلى والي الإسكندرية من والي بلاد العرب (الصحراء الواقعة بين سوريا ونهري دجلة والفرات، والتي سماها القديس بولس العربية)، يرجوهما إرسال أوريجانوس إليه للتباحث في بعض أمور الدين (19:15 1 HE VI). وهذا يكشف عن أن مرسوم سبتميوس ساويرس قد ضعف تأثيره، وصار هناك تطلع وفضول أكثر نحو المسيحية بين الولاة والقواد الرومانيين. وقد قام بهذه المهمة وعاد مسرعاً.
والحقيقة أن علاقة كنيسة الإسكندرية بمنطقة العربية تمتد إلى القرن الأول لكنيسة الإسكندرية، حيث نرى بنتينوس في رحلة كرازية إلى بلاد الهند مروراً بهذه البلاد العربية والعراق !! أو العربية واليمن !!
وحوالي سنة ٢١٦م، وعقب عودته، رأى أن كاراكللا – الإمبراطور الذي خلف ساويرس- قد قام بمذبحة بشعة في الإسكندرية. إذ دعا كل شباب المدينة إلى احتفال خاص في الملعب الإسكندري الضخم، ولما اجتمع الشباب أعطى إشارة متفقاً عليها مع جنوده وقواده فاقتحموا الملعب وقتلوا كل من فيه من الشباب، وهذا كان عقاباً لهم على الشغب الذي قاموا به في المدينة. وقد قام بطرد كل الأجانب والغرباء، وأغلق المدارس ومنع الاحتفالات والاستعراضات. ونتيجة لذلك، رحل أمبروسيوس الصديق الثري لأوريجانوس الذي كان يصرف مرتبات المختزلين والنساخ العاملين مع أوريجانوس، رحل إلى فلسطين وصاحبه أيضاً أوريجانوس؛ حيث وجد ترحيباً من ألكسندر أسقف أورشليم وتلميذ كليمندس وزميل أوريجانوس في الدراسة. وهناك دعا ألكسندر العلامة أوريجانوس للوعظ في كنيسة أورشليم، فابتدأ أوريجانوس يعلم ويعظ رغم أن تقليد كنيسة الإسكندرية آنذاك كان يمنع العلمانيين من الوعظ والتعليم في الكنائس ما لم يكونوا من رتب الكهنوت. فلما علم ديمتريوس بذلك احتج لدى أساقفة فلسطين واستدعى أوريجانوس، فعاد وعاود نشاطه في المدرسة الوعظية.
رسامته وحرمانه
وفي سنة ٢٣٠م، استدعي أوريجانوس إلى بلاد اليونان لمناقشة إحدى البدع هناك، وأثناء عبوره على فلسطين رسمه أساقفتها كاهنا، وكانت هذه خطوة أكثر خطورة وتحدياً لقوانين كنيسة الإسكندرية، مما أثار عليه أسقفها، لأن أوريجانوس لا يتبع كنيسة فلسطين بل كنيسة مصر. وكان ديمتريوس أسقف الإسكندرية على حق حينما عَلِمَ أن أوريجانوس رُسم بدون موافقته. لذلك عقد مجمعاً في الإسكندرية وقرر حرمان أوريجانوس وإبعاده عن المدينة، ولكن لم يمنعه من كهنوته. ولكن هناك دلائل تقول إن ديمتريوس مع أساقفته أعلنوا تجريد أوريجانوس من الكهنوت سنة ٢۳۱م، وأرسل بذلك قراراً لكنيسة روما، فجمع أسقفها مجمعاً ووافق على قرار أنبا ديمتريوس. لكن أساقفة فلسطين، أخائية العربية فينيقيا، وكبادوكية، لم ينفذوا هذه القرارات.
المرحلة الثانية من حياته في قيصرية فلسطين سنة ٢٣٢ – ٢٥٣م:
بخروج أوريجانوس من الإسكندرية، رحب به ثيئوكتسْتُس أسقف قيصرية فلسطين متجاهلاً قرارات مجمع الإسكندرية، وشجعه على إنشاء مدرسة ثانية في قيصرية ترأسها لمدة عشرين سنة تقريباً، وهناك تتلمذ له القديس غريغوريوس المشهور بصانع العجائب وأخوه. هذا كان من أسرة غنية من بنطس ولكنها وثنية، ولما مات أبوه وكان ابن أربع عشرة سنة تحول إلى المسيحية وحاول أن يكون محامياً، فسافر هو وأخوه إلى بيروت التي اشتهرت مدرستها بالمحاماة، وقد صاحبتهما أختهما التي كانت متزوجة من مساعد حاكم فلسطين السورية إلى قيصرية. وهناك سمعوا عن أوريجانوس وتعليمه فتتلمذوا له. وبعد خمس سنوات من الدراسة عاد الشقيقان إلى بنطس حيث اختيرا كلاهما للأسقفية. وقبيل رحيلهما من قيصرية، ألقى غريغوريوس خطاباً وداعياً ما زال محفوظاً لدينا، وتتركز أهميته في الإشادة بقدرة أوريجانوس التربوية في إيقاظ مواهب تلاميذه وتربيتهم وثقافتهم.
وهكذا كانت بلاد المشرق معجبةً بأوريجانوس، والدليل على هذا ليس فقط فيما قاله وكتبه غريغوريوس العجائبي، ربما لأن فيه بعض المبالغات من حماس الشباب؛ ولكن فيما قاله أسقف آخر هو فيرميليان Fimilian أسقف قيصرية الكبادوك، وكان أيضاً أحد تلاميذ أوريجانوس (وهو أسقف مُبَجَّل في الكنيسة الشرقية بسبب موقفه من بدعة بولس الساموساطي).
وهكذا بينما كانت الإسكندرية وروما تقفان موقف المعارضة ضد أوريجانوس، كانت بلاد المشرق بأساقفتها معجبةً غاية الإعجاب به. وبدأنا نرى بسبب أوريجانوس – أول انقسام في الرأي بين أساقفة روما والإسكندرية من جهة، وبين أساقفة المشرق من جهة أخرى؛ حيث لم نَرَ تأثيراً يُذكر لمبادئ أوريجانوس وتفسيراته بالقدر الذي ظهر في المشرق.
وقد حاول أوريجانوس العودة مرة ثانية إلى الإسكندرية بعد نياحة البابا ديمتريوس سنة ٢٣٢م، إلا أن خليفته هيراكلاس – الذي تولى مدرسة الإسكندرية بعد رحيل أوريجانوس وكذلك البطريركية بعد نياحة البابا ديمتريوس تمسك بقرارات مجمع الكهنة والأساقفة الإسكندريين. ولكن فيما بعد وعند القبض عليه وتعذيبه سنة ٢٤٨ م – وصلته رسالة عزاء من أسقف الإسكندرية أنبا ديونيسيوس البطريرك الـ ١٤ تُشدّده وتشجّعه، بالرغم من أنه لم يرفع عنه الحرومات. وجدير بالذكر أن القديس أثناسيوس يستشهد برأي أوريجانوس أكثر من مرة ويدعوه “الرجل المجاهد” أو ”محب الجهاد” φιλόπονος.
2. آثاره ومؤلفاته الأدبية
تسببت المجادلات الأوريجانية Origenistic Controversies في ضياع أغلب آثار هذا المعلم الإسكندري العظيم، وما تبقى منها وصل إلينا معظمه في ترجمة لاتينية ليست حسب الأصل اليوناني. ويقول يوسابيوس القيصري في نهاية سيرة حياة أوريجانوس التي دونها، إنه أرفق قائمة كاملة لأعمال أوريجانوس في الدفاع الذي وضعه هو وصديقه ومعلمه بامفيلوس القيصري، ولكنها قد ضاعت أيضاً. أما القديس جيروم الذي اقتبس منها (12:22 .Ad Ruf)، فقد أحصى لنا ألفين من المؤلفات، وقد أورد لنا عناوين لستمائة مقالة وكتاب في رسالته إلى تلميذته باولا (33 .Ep)، بينما يُقدرها القديس إبيفانيوس بستة آلاف (64:63 Haer).
ولم يكن ممكناً لأوريجانوس أن يكتب هذه الحصيلة الضخمة من المؤلفات لولا المساعدات التي قدمها أصدقاؤه، وخصوصاً أمبروسيوس الذي كان سابقاً من أتباع بدعة فالنتينوس في الإسكندرية، ثم انضم للكنيسة على يد أوريجانوس، فخصص له سبعة من الكتبة المختزلين Stenographers يتناوبون عليه ليملي عليهم ما تجود به قريحته مع مجموعة أخرى من الفتيات والشابات ذوات الخط الجميل Calligraphers لنسخها ونشرها (Euseb; EH VI 23:12)
وهاك بعض الأمثلة لنشاطه العبقري الفذ:
أولاً: الهكسابلا: (أي العهد القديم ذو الستة الأعمدة):
أعظم ما خرج من تحت يدي هذا المفكر العلامة كان مُخصصاً لدراسة الكتاب المقدس. والهكسابلا التي تركها لنا جعلته يُعتبر مؤسساً لعلم ضبط نصوص الكتاب المقدس Textual Criticism؛ وهو عمل ضخم استغرق حياته كلها. فقد درس اللغة العبرية على يد الربيين الكبار في الإسكندرية وفلسطين، وحاول تحقيق كل ما جاء من ذكر لأماكن الأحداث التي وردت في العهد القديم، فزار كهوف فلسطين ومغاراتها المطلة على نهر الأردن.
ثم قام العلامة أوريجانوس بمقارنة الترجمات المختلفة لأسفار العهد القديم، فقسم صفحات المجلدات إلى ستة أعمدة : وقد خصص العمود الأول للنص العبري بكلماته العبرية؛ والعمود الثاني للنص العبري مكتوباً ومنطوقاً باللغة اليونانية Transliteration لضبط النطق العبري للكلمات العبرية، حيث لم يكن قد اخترع بعد نظام تشكيل الكلمات العبرية والعمود الثالث هو الترجمة اليونانية لأكويلا، ويُرمز له بالحرف اليوناني (α) (وهو دخيل يهودي عمل ترجمته حوالي سنة ۱۳۰م)؛ والعمود الرابع هو ترجمة يونانية أيضاً لشخص يهودي اسمه سيماخوس، ويُرمز له بالحرف الأول من اسمه (σ)، وهو من كتاب أوائل القرن الثالث وهو معاصر لأوريجانوس)؛ والعمود الخامس هو الترجمة السبعينية المعروفة وقتئذ؛ والعمود السادس والأخير هو ترجمة لثيئودوسيون (θ) التي أنجزها سنة ١٨٠م.
وقد كان اهتمام أوريجانوس بالعمودين الأول والخامس، فكل ما كان ناقصاً في السبعينية عن العبرية أعطاه علامة خاصة (*)، وأضافها إلى السبعينية من ترجمة ثيئودوسيون بعد أن أعطاها علامة خاصة (+) obelus. وعلى ما يبدو فإن هذا المؤلف الضخم (أكثر من مجلداً لم ينسخ، بل بقي في مكتبة قيصرية تحت طلب العلماء والدارسين، وقد رآه القديس جيروم هناك (Comm. in Ps. 5). إلا أن العمود الخامس هو الذي نسخ مراراً كثيرة، وما زالت تحت أيدينا نسخة من ترجمته السريانية ترجع إلى القرن السابع الميلادي (سنة ٦١٨م)، قام بها أسقف تللا وهي مدينة بجوار الإسكندرونة في سوريا.
وقد اقتبس من هذا النص أغلب أباء أنطاكية والقسطنطينية، وهو يكاد يكون النص المعتمد لدى الكنيسة البيزنطية والشائع في زماننا هذا.
ثانياً: شروحاته على أسفار الكتاب المقدس:
وهي كثيرة وعلى أغلب الأسفار والتي بسببها قام بعمل الدراسة النصية “الهكسابلا” للكتاب المقدس. وتعتمد شروحاته على دراسة علمية للنص وأصول الكلمة etymology مع ملاحظات لاهوتية فلسفية. وبسبب التزامه بالخط الرمزي allegory وقع في أخطاء تفسيرية كثيرة. لكن المعاني الباطنية التي يستنبطها تُرينا مدى غنى قدرته الروحية في النفاذ إلى الأعماق سعياً وراء المعاني الروحية. ومن أمثلة كتاباته التفسيرية:
1- على إنجيل القديس متى: ولدينا ثمانية كتب فقط محفوظة في لغتها الأصلية اليونانية وبقيتها في ترجمة لاتينية.
2. على إنجيل القديس يوحنا: وقد كرسه لصديقه أمبروسيوس، وأهمية هذا الشرح أنه يساعد على فهم المنهج التصوفي الأوريجانوس والحياة الروحية للإنسان.
ثالثاً: أعماله الدفاعية: Apologetic
ضد كلسوس:
كان كلسوس فيلسوفاً وثنياً، وضع كتاباً أسماه “كلمة حق”، ولكنه مفقود حالياً، إلا أنه يمكن جمع عناصره من ردّ أوريجانوس. وكلسوس هذا درس كل معتقدات وكتابات المسيحيين حتى الكتاب المقدس، ويعرف جيداً الخلافات الكائنة بين الكنيسة والشيع الغنوسية. لذلك لم يلتفت إلى الوشايات والشائعات التي كان ينشرها رعاع الجماهير ضد المسيحيين.
وقد بدأ كلسوس مهاجمته بإقامة حوار يهودي يشرح اعتراضاته ضد المسيح، وتطور بعد ذلك فهاجم اليهود والمسيحيين معاً. ومع ذلك فهو لا يمانع في قيام المسيحية بشروط: أن يكون للمسيحيين دور إيجابي في الحياة السياسية والدينية للحضارة والمدنية الرومانية، وهو يرى أن سلبيتهم قد تسببت في انقسام الدولة الرومانية. وختم كتابه بتوجيه نداء إلى المسيحيين لمساعدة الإمبراطور والتعاون معه لإقامة العدالة والمحاربة في صفوف جيشه وتحت قيادته دفاعاً عن الحضارة والمدنية والمساهمتهم الإيجابية لأجل القانون والعدالة.
أما رد أوريجانوس فكان يتلخص فيما يأتي:
[الإنجيل يحمل برهانه الإلهي الداخلي (الباطني) أكثر مما هو بالحوار المبني على المنطق الجدلي الفلسفي. وهذا الأسلوب يسميه الرسول: “برهان الروح والقوة”. “الروح” باعتبار النبوات الجديرة بغرس الإيمان في كل قارئيها، خاصة ما يتعلق منها بالمسيح؛ و القوة لأن الآيات والعجائب التي تمت يمكن إثباتها على أسس أخرى، لأن آثارها ما زالت باقية محفوظة بين الذين يصيغون حياتهم على مبادئ الإنجيل]
(1:2 Contra Celsus).
[وألوهية المسيح ليست كائنة فقط فيما صنعه من عجائب وما كمله من نبوات، بل وأيضاً بواسطة قوة الروح القدس العامل في المسيحيين].
أما رده على الموقف تجاه السلطة المدنية فيقول : إن نظام الحكم الروماني مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالديانة الوثنية. وبينما يتشدد كلسوس في احترام القانون والسلطة المدنية بما تتضمنه من عبادة آلهة الدولة (الوثنية)، يؤكد أوريجانوس على وجوب الطاعة والخضوع لهما طالما ليس هناك ما يتعارض مع الشريعة الإلهية. وبينما يظهر كلسوس كوطني متحمس يُطالب بالدفاع عن الأرض والوطن والقيم التي تتضمنها، يُخاطب أوريجانوس القارئ كمواطن عالمي cosmopolitan حيث يظهر تاريخ البشرية أمامه وهو سائر نحو اهتدائه إلى الله والشريعة الإلهية.
وهذه الإجابات تكشف عن مدى تأثر أوريجانوس بالفلسفة الأفلاطونية القائلة بأن هدف الدولة ليس في ازدياد قوتها وتسلطها، بل في نشر الحضارة والثقافة. وفي هذا الرد نرى المثقفين من كل جانب يتصارعون بالحجج في مواجهة معاً : فالوثنيون ويمثلهم كلسوس، يقابلهم المسيحيون ويمثلهم أوريجانوس. وقد كان هذا الكتاب موضع تقدير مفكري ذلك العصر، حيث قال عنه يوسابيوس: إن أوريجانوس أجاب فيه على كل البدع والهرطقات لأجيال كثيرة قادمة.
رابعاً: الكتابات اللاهوتية:
1. كتاب المبادئ : De Princip
كانت عادة فلاسفة ذلك العصر أن يضعوا منهجاً يُلخّصون فيه مبادئهم التي ينادون بها أو يدرسونها في مدارسهم ومحاضراتهم فكان كتاب المبادئ هو الفلسفة التي يُدرسها العلامة أوريجانوس في مدرسة الإسكندرية وهو أول محاولة لتبويب التعليم اللاهوتي المسيحي وترتيبه منهجياً، كتبه أوريجانوس بين سنتي ۲۲۰ و ۲۳۰م . وللأسف لم يبق من الأصل اليوناني إلا شذرات قليلة في الفيلوكاليا التي وضعها القديس باسيليوس رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك والقديس غريغوريوس اللاهوتي أسقف سازيما، وما جاء أيضاً في مرسومين أصدرهما جوستنيان البيزنطي. وما بين أيدينا الآن هو ترجمة لاتينية بتصرف قام بها روفينوس، وقد اجتهد أن يرفع منها المؤاخذات التي تسببت في العاصفة التي هبت ضد أوريجانوس. وقام جيروم من الناحية المقابلة بعمل ترجمة كاملة عن الأصل اليوناني كان مالها إلى الضياع أيضاً.
والكتاب من أربعة أجزاء ومُقدِّمة تمهد له والعنوان الرئيسي لكل جزء منها: الله، العالم، الحرية الوحي الإلهي وهي القضايا الرئيسية في الإيمان المسيحي. وفي المقدمة يقول إن مصادر المسيحية هي الأسفار المقدسة والتقليد:
أ. الكتاب الأول: يتحدث فيه أوريجانوس عن وحدانية الله وتساميه عن المادة، مع ذكر الثلاثة الأقانيم وما بينهم من علاقة. فالآب هو العامل في كل الكائنات؛ والكلمة – اللوغوس عامل في الكائنات العاقلة أي النفس والروح القدس عامل في النفوس العاقلة التي يُقدسها (أي التي آمنت). ثم يتبع ذلك حديثه عن الملائكة وأصلهم وطبيعتهم وسقوطهم.
ب. الكتاب الثاني: ويتكلم عن العالم المنظور وخلقة الإنسان، ثم تعدي آدم وفدائه بواسطة اللوغوس المتجسد، وتعاليم القيامة والدينونة الأخيرة.
ج. الكتاب الثالث: ويتحدث عن حرية الاختيار، فاتحاد النفس بالجسد أعطى للنفس فرصة الجهاد والانتصار. ففي الجهاد نرى الملائكة يتقدمون لمعونة النفس، والأرواح الشريرة يصدونها ويقاومونها. ورغم ذلك ما زالت للإنسان حرية الاختيار. ونتيجة للتعليم بالحرية يبقى للإنسان مسئوليته الأدبية واضحة ويدان من الله عن حق.
والنتيجة غير المباشرة لهذا التعليم هو القضاء على عقيدة التنجيم لدى الشعب، والتي كان يغذيها الفلاسفة والمنجمون حيث كانوا يقولون إن مصير الإنسان مقيد بحركة النجوم. ومن هنا نشأت قراءة الطالع ونشط المنجمون والفلكيون في هذا السبيل حتى صار علماً قائماً بذاته، وصار الإنسان خاضعاً لمصيره وقدره، لا يملك تغييره إلا بواسطة المنجمين، كما جاء بكتاب ابن ديصان وهو أحد الغنوسيين السريان المعروفين.
ولكن يؤخذ عليه قوله بقيام ووجود النفس البشرية قبل ميلاد الإنسان.
د. الكتاب الرابع: الوحي الإلهي في هذا الكتاب يقوم بتلخيص التعاليم السابقة مع بحث عن الأسفار الإلهية كمصدر للإيمان والوحي والمستويات الثلاثة التي تتضمنها الكلمة الإلهية.
هذه الخلاصة اللاهوتية Theologica Summa ليست منهجاً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل تبدو كمذكرات يمليها المحاضر عن موضوعات متفرقة تجعلنا نحس أن الباحث يحاول اقتحام آفاق كمذكرات يمليها المحاضر عن موضوعات متفرقة تجعلنا نحس أن الباحث يحاول اقتحام آفاق مجهولة غامضة بشجاعة وجرأة نادرتين دون أن تكون لديه الأدوات الأساسية التي تضمن الوصول إلى نتائج قد لا يُدرك الباحث مدى خطورتها وتأثيرها.
إن ما يشغل أوريجانوس هو الجرأة التي يندفع بها عقله وما تثيره في النفس من بهجة المخاطرة في اقتحام المجهول ولذة المغامرة والاكتشاف وما تثيره من إعجاب حول شخصيته من القريبين والبعيدين. هذا مع عدم التيقن من صحة ودقة النصوص التي يقوم بفحصها ودراستها والاجتهاد وراء معانيها المستترة. فإذا صادفته صعوبة في مشكلة عويصة فلا مفر من اللجوء إلى الأفلاطونية. ومن هنا جاءت النتائج الخاطئة التي لم تكن في قصد أوريجانوس منذ البداية، لكنه اضطر إليها اضطراراً لأنه بطبيعته مغامر جريء.
2. الحوار مع هيراكليدس
وهو من الاكتشافات التي تمت حديثاً قُرب طره في الجبل بجوار حلوان، إذ بينما كان الجيش الإنجليزي أثناء الحرب العالمية الثانية يُعِدُّ إحدى مغارات جبل المقطم لتكون مخزناً للأسلحة والذخيرة؛ اكتشف بردية مكتوبة في القرن السادس الميلادي، تحكي عن اجتماع تم بين أوريجانوس ومجموعة أساقفة في “العربية”. وتسرد البردية قصة اجتماع بعض الأساقفة المجاورين لهيراكليدس بأوريجانوس سنة ٢٤٥م ليستوضحوا منه عن بعض النقاط والتعبيرات الغامضة التي كان يُعلم بها هيرا كليدس بخصوص العلاقة بين الآب والابن.
وكانت هذه العلاقة بين الآب والابن دائماً موضع بحث وشرح في القرون السابقة لمجمع نيقية، حيث كانت اللغة والكلمات والمصطلحات المستخدمة قاصرة دائماً عن إيفاء هذه العلاقة حقها في الشرح والتوضيح.
خامساً: كتاباته الروحية:
له مقالة ممتازة عن الصلاة كتبها تحت إلحاح صديقه أمبروسيوس أسقف ميلان سنة ٢٣٣ – ٢٣٤م، ومدونة في مخطوطة وحيدة باللغة اليونانية محفوظة في جامعة كمبردج في القسم الأول منها يحلل ويقسم أوريجانوس الصلاة إلى أربعة أنواع : طلبة ، عبادة (صلاة) προσευχή؛ شکر εὐχαριστία، ابتهال – شفاعة ، وفي القسم الثاني يقوم بشرح وتعليق على صلاة أبانا الذي في السموات… ويذكر أيضاً أوضاع الصلاة والعبادة ومعنى الاتجاه إلى الشرق.
والمبادئ المشروحة في هذه المقالة كانت ذات تأثير بعيد المدى على تاريخ الروحانية، وكانت من ضمن الكتابات الأوريجانية المتداولة في بداية الحركة الرهبانية.
ودراسة نصوص كتابات العلامة أوريجانوس تكشف عن أنه هو أول من نحت التعبير الذي استخدمه البابا أثناسيوس الرسولي وجعله معياراً صحيحاً للعقيدة السليمة في علاقة الآب بالابن وهو تعبير : ouoovato مساو في الجوهر ؛ وكذلك التعبيرات الكريستولوجية الأخرى: θέανθρωπος الإله المتأنس، οὐσία الجوهر، ὑποστάσις الأقنوم، φύσις الطبيعة.
- H. Chadwick; Alex. Christ. p. 172.
- هذا الفعل تُحرمه القوانين المدنية (راجع: 1:29 Justin Apol)، والكنيسة لم توافق عليه حتى حرمته رسمياً (القانون الأول من قوانين مجمع نيقية). وأوريجانوس كتب بعد ذلك معلقاً على هذه الآية: “إن كانت هناك أجزاء أخرى ليس في العهد القديم فقط بل وفي العهد الجديد والتي ينبغي تطبيق هذه الآية عليها: الحرف يقتل لكن الروح يُحيي؛ فإن هذه الآية يلزم تطبيقها على نص (مت ۱۲:۱۹) بالذات (In Math. Vol XV 1)