العلامة كليمندس الإسكندري

رغم معرفتنا الضئيلة عن سيرته وحياته، لكن هناك إمكانية على كل حال لمعرفة شيء من تاريخه. يقول القديس إبيفانيوس أسقف قبرص في القرن الرابع، وعنه نقل كل الكتاب: إنه من مواليد أثينا، ولكن القديس إبيفانيوس جاء بهذه المعلومة تحت ظلال من الشك، لأن معرفة كليمندس بالتيارات الفكرية في الإسكندرية وتفاصيل الحياة الاجتماعية فيها ترجح لنا بالأكثر أن ولادته ومعيشته كانتا بالإسكندرية[١]. وقد زار بلاداً عديدة مثل: جنوب إيطاليا، بلاد اليونان سوريا. وأخيراً، استقر في الإسكندرية وخلف بنتينوس في مدرسة الإسكندرية بعد أن تتلمذ له مدة من الزمن سنة ١٩٠م. وقد كان كاهناً في كنيستها واستمر فيها حتى الاضطهاد الذي أثاره ساويرس سنة ٢٠٢م، فاضطر للاختفاء حيث سافر إلى أورشليم، حيث نجده هناك سنة ٢١٥م حينما أرسله أسقفها (الذي يُدعى ألكسندروس الذي كان صديقه وتتلمذ له في مدرسة الإسكندرية) برسالة إلى كنيسة أنطاكية.

وقد كتب كليمندس ثلاثة مجلدات:

  1.  دعوة لليونانيين Protrepticus .
  2. المعلم أو المربي Paedagogus في ثلاثة كتب.
  3. المتنوعات أو المتفرقات Stromateis في ثمانية كتب.

وهناك مقالة أخرى له معروفة بعنوان: “هل يخلص الغني ؟ والهدف منها هو التأكيد لتلاميذه من الأغنياء والمثقفين على أن المسيح لا يدين ولا يرذل الثروة والغنى، بل يبين موقف الإنسان من هذا الغنى.

وأيضاً له بعض شذرات أخرى بسيطة.

ولكن كان يوجد إلى جوار الكنيسة ومدرستها الوعظية غنوسيون يؤمنون بالمسيحية، ولكن إفراطهم في الثقة بالفلسفة والعقل البشري جعلهم يخاطرون ويغامرون بالخروج عن الخط الكنسي التقليدي. ولذلك نلاحظ أن الدراسات التي جرت على كتابات كليمندس كشفت عن وجود إحساس بالخطر تجاه حركات الغنوسية من جانب المؤمنين.

وكان لابد من وجود رد فعل مقابل هذه الحركات الغنوسية التي قامت على هامش الكنيسة، ولكنها صارت موضع خطورة. وكان كليمندس هو أحد رواد هذه الحركة في مواجهة الغنوسية. فهو غنوسي حقيقي أي مؤمن بتقاليد الكنيسة وعقائدها وخاضع تماماً لكل سلطانها، لكنه يسعى إلى معرفة فكرية أكثر تعمقاً من الحقائق العامة المعترف بها. لذلك كان التحدي في كنيسة الإسكندرية أكثر وضوحاً من سائر الكنائس الأخرى:

[الآباء وضعوا أساساً متعدد القوى والصفات : بوليكاربوس (أسقف أزمير) يمثل بساطة الأسقفية ورزانتها؛ إغناطيوس أسقف أنطاكية يمثل التقوى الكنسية ووحدة الأسقفية والكنيسة والشعب واستعداد الشهادة، يوستينوس (الفيلسوف) يمثل الغيرة الرسولية؛ إيرينيئوس (أسقف ليون) يُمثّل رصانة التعليم والتقليد، كليمندس الإسكندري يمثل الخصب الفكري والاتجاه الاجتماعي؛ أوريجانوس يُمثّل عبقرية المعرفة وعمق التأمل وعنف التقشف؛ كبريانوس (أسقف قرطاجنة) يُمثل الصرامة الكنسية؛ أثناسيوس يمثل أصالة الإيمان الرسولي والإلهام الإنجيلي؛ ذهبي الفم ( بطريرك القسطنطينية) يمثل البراعة في الوعظ الإنجيلي؛ كيرلس الإسكندري (البابا الـ ٢٤ في عداد بطاركة الإسكندرية) يمثل الدقة في اللاهوت العقائدي. قواعد لا تزال تطلب بنائين مجدداً في كل جيل، وتقليد زاخر بمناهج الروح يفيض بالحياة لكل من يريد أن يحيا].

وأصبح أمام الكنيسة بسبب الغنوسيين – سؤال ينتظر جواباً:

هل يمكن للفلسفة – أي الحكمة – أن تتصالح مع المسيحية؟ فالشيع الغنوسية ألقت في روع الشعب الكنسي أن مواجهة العقل البشري أمر مرعب يقتضي الفرار أو الخجل.

والجواب الذي قدمه ترتليانس (في شمال أفريقيا) وهو معاصر لكليمندس – أنه لا مصالحة مع العقل البشري، لأن أصل كل هرطقة نابع من إحدى المدارس الفلسفية. أما كليمندس فقد اتخذ الجانب المقابل، إذ أن إيمانه بالمسيحية والتصاقه بالكنيسة بروحه وقلبه وحياته؛ لم يمنع احساسه بنوع من رد الجميل تجاه الفلسفة الهللينية كما ظهر ذلك قبلا في يوستينوس الشهيد مثلاً، مع الفارق بين الاثنين، حيث تبدو الاقتباسات كثيرة جداً عند كليمندس وخاصة في كتابه “المتنوعات ” Stromata.

ويتلخص جواب كليمندس، في أن الفلسفة اليونانية هي “هبة من الله، ولها هدف خلاصي سواء في آثارها على الوثنيين في الماضي أو على المسيحيين في الوقت الحاضر. ففي كتابه هذا المتنوعات يبدو سمو الحق المسيحي الذي لا يُجارى، ولكن للفلسفة الوثنية أيضاً دور ثانٍ وتمهيدي، لكنه مفيد ولازم على كل حال. فالفلسفة هي البحث عن الحق، وهكذا كان دورها في العالم الوثني. ولكن تعريفه للفلسفة – أي محبة الحق والسعي وراءه – يؤكد أن ليس كل فلسفة ينطبق عليها هذا الكلام مثل: الرواقية الأفلاطونية الأبيقورية الأرسطوطالية… إلخ. ولكن أفضل ما في كل فلسفة من هذه المدارس يكون في مجموعه ما سماه كليمندس الفلسفة”.

الكنيسة:

كان كليمندس يُعرف الكنيسة بأنها “أم”، ويحبها بهذه الصفة. هذا التوقير البنوي يظهر في كتابه المرئي (18:101:12 12:99 ,1 Paed) وغيره. مثل هذه الكنيسة لا يمكن أن تتلاشى كما يقول الغنوسيون، نتيجة ذوبان الأيونات في الملء nanpoua، فهي تحيا وتمارس وظيفتها هنا. ولكن هذه الكنيسة التي على الأرض هي صورة للكنيسة السمائية وليس في هذا عجب بالنسبة لكليمندس الذي كانت روحه تتوق إلى العالم السمائي، إلى جبل الله المقدس، وكنيسة الأعالي؛ حيث يجتمع فيها فلاسفة الله – الإسرائيليون الحقيقيون – أنقياء القلب، وكل الذين ليس فيهم غضن ولا غش”.

‏(1) Christ. Centur. P. 128.

(2) التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي، للأب متى المسكين، مطبعة دير القديس أنبا مقار، الطبعة الثانية: ۱۹۸۵، ص ۲۱،۲۰

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top